رواية اختلاط المواسم.. سردية المحاسبة للتاريخ الجزائري الحديث

اختلاط المواسم
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. محمد سليم شوشة

رواية “اختلاط المواسم” هي الرواية الأحدث للروائي الجزائري بشير مفتي، وهي صادرة عن نشر مشترك لمنشورات الاختلاف وضفاف بيروت ومدينة الجزائر 2019م، وظهرت مؤخرا ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، وفي تقديرنا أنها رواية جيدة ولها عدد من المنجزات الجمالية البارزة، أهمها هي أنها تمثل محاسبة ومراجعة للتاريخ الجزائري الحديث، والأهم أنها تأتي في إطار يجمع بين الرمزية والمباشرة، بين رمزية الحكاية التي تشير إلى عناصر هذا التاريخ الجزائري القريب الحافل بالمواضع الشائكة التي بحاجة للمساءلة والعودة لتأملها وبخاصة مرحلة التسعينيات أو ما يسمى لديهم بالعشرية السوداء وهي السنوات العشر التي انتفض فيها من ينتمون للجماعات الإسلامية وحملوا السلاح ضد الدولة وضد المجتمع كله وقاموا بعدد كبير من المذابح، والطريف أن رواية اختلاط المواسم ليست هي الوحيدة التي تقارب هذه المدة هذا العام، بل هناك كذلك رواية حطب سراييفو لمواطنه سعيد خطيبي الذي يشتغل بشكل أوسع على هذه الحقبة وقد قرأتها وكتبت عنها كذلك لأهميتها وثرائها في مقاربة هذه المدة الصعبة في تاريخ الجزائري فضلا عن قيمة هذه الرواية من الناحية الفنية والجمالية، وهذه الرواية الأخيرة هي شريك لمواطنتها الأولى في الحضور في قائمة البوكر هذا العام. وبالعودة إلى الرواية الأولى اختلاط المواسم نجد أن مسألة الفوضى والاضطراب وقدر ما يهيمن على المشهد من الظلامية والضباب واضح من العنوان، فالحال الإنسانية الأكثر وضوحا في الرواية وجسدتها شخصياتها هو قدر التنازع والاضطراب والفوضى بين صفوف الشعب الجزائري، فالرواية تقارب مرحلة في غاية الحساسية تتلاطم فيها أفكار اليسار واليمين والمحافظين والحداثيين والمرأة الباحثة عن حقوقها وحرياتها وغيرها الكثير من الصراع ومواضع الشد والجذب ومظاهره، وغياب الانسجام بين هذه الطبقات والأصناف من البشر بما يحتمل وجود حل يأتي من خارج هذه البنية، حل الموت القادم من الغيبيات أو من وراء الوجود. يصبح بطل الرواية أو الشخصية الرئيسة فيها وهو الذي لا اسم حقيقي له غير القاتل، ولا يظهر باسم طبيعي مستعار إلا مرة واحدة، هذه الشخصية هي لغز الرواية كلها ومنها ينتج القدر الأوفر من جمالها، فهو نموذج فني متفرد لكونه الإنسان الأقرب إلى الآلة، ليس له كبير الصلة بين أمه وأبيه بل يبدو متمردا عليهما وبارد الأعصاب لا ينتمي لرومانسيتهما، وليس له أخ، شخصية فريدة في التربية والتكوين النفسي وقد كان الخطاب الروائي موفقا إلى حد بعيد في رسم ملامح هذه الشخصية التي تتأرجح بين الحقيقي والأسطوري، الواقعي الطبيعي والكائنات الغيبية التي هي أشبه في الأساس بفكرة، فهذه الشخصية لا تمثل نفسها بقدر ما تمثل فكرتها، وهي فكرة الخلاص والقتل والإنهاء على المجرمين ومن يعرقلون مسيرة الحياة الطبيعية في الجزائر.

في هذه الحقبة تختلط مواسم الإسلاميين مع اليساريين مع الحداثيين، مع مدعي الحداثة مع الفاسدين وتجار الحروب والمستفيدين من هذه الصراعات، مع القتلة والمجرمين وغيرها من التيارات والاتجاهات التي تتداخل في ذروة من الصراع والتوتر الذي تستثمره الرواية وتشكل منه حالا من التوتر المهيمنة من بداية الرواية حتى النهاية ويتجسد هذا التوتر في ذروته في فكرة الخلاص أو الموت الذي يصبح في هذه الأثناء وكأنه الحل الوحيد الذي لا أمل في شيء غيره، وهنا يأتي دور هذا البطل أو النموذج الفوقي أو غير الطبيعي الذي لا يتأثر بنصائح والديه أو يحن إلى طبيعته الإنسانية إلا قليلا ويصبح هذا الشاب الذي لا يتزوج وليس له صديق ولا يحب العمل تحت قيادة آخرين نموذجا دالا على الموت بذاته، فكأنه هو مجرد آلة باردة للقتل والخلاص من بعض الأطراف، بل الأحرى أنه القادر على الخلاص من الجميع سواء أبرياء وضحايا أو جلادين وقتلة ومجرمين فاسدين، فهو في النهاية يطال الجميع. هذه الشخصية الرئيسة صاحبة المسيرة المشوقة في التكوين والعمل في مدة التسعينيات لا يفقد دوره أو قيمته بعد التصدي للإسلاميين والمتطرفين بل يجد نفسه في أوج المحاسبة وفي عمق المجتمع وتشكلاته بعد هذه الحرب وكأنه يحاسب كافة الأطراف بهدوء ومراقبة متأنية مثل صياد يراقب فريسته وهو على استعداد للانقضاض عليهم بصرف النظر عن النتيجة الدقيقة لهذه المحاسبة.

يشتغل خطاب هذه الرواية على المساحة الحرجة ودائمة الاضطراب والحركة داخل نفوس النماذج الإنسانية الجزائرية بكافة تنويعاتها في هذه الحقبة، هذه الشخصية المشحونة بالتوتر والقلق الناتجين عن البحث عن الذات وعن الحرية وعن التحقق والرغبة في التحرر من الفقر أو الرغبة في البحث عن العلم أو البحث عن الحب الحقيقي، أو الرغبة في النضال من أجل مبادئ إنسانية وحداثية أو فلسفية، ومن كافة هذه التوترات والحركة النفسية تكتسب الرواية قيمتها وأبرز جمالياتها، لأن هذه التكوينات النفسية المتصارعة والمتعارضة في رغباتها وأهدافها تصبح متقاطعة مع بعضها، وبخاصة في المرحلة الثانية من بعد الحرب وحين يقحم هذا القاتل الغامض نفسه في عالم الجامعة وشخصيات سميرة قطاش ومحيطها. الرواية حافلة ببعض الغرابة الناتجة عن هذا النموذج الذي هو آلة القتل الذي يمكن أن يحب أحيانا أو أن يتلذذ بالقتل لذاته أو لا يمنعه حبه لشخص من قتله، يقتل بطرائق غريبة وثمة محقق يراقبه من بعيد ويحاول الوصول له وهذا عنصر آخر من عناصر التشويق الكثيرة في الحقيقة، فكل قصة فردية هي قصة مصيرية وتبدو مركزية ومهمة، فمثلا قصة الصادق سعيد في نضاله ونشدانه للحب المثالي مع حبيبته سارة وإخفاقه في الحب أو سقوطه في الفخ على نحو ما يسقط في النضال فريسة ويصير مجنونا فاقدا للعقل كما لو أنه النموذج المثالي للإنسان الجزائري الضحية الذي يدفع هو وحده كامل الثمن والفاتورة لهذه الخلافات والصراعات غير المحسومة. تتكشف حقيقة الإنسان أو أعماقه على نحو ناصع في تلك الحقبات تحديدا لأنها تكشف النماذج الهجينة وتعري الشخصيات، وتتجلى المرأة في هذا الإطار أكثر صمودا وإصرارا ونبلا، وكأن المرأة هنا هي المعادل الحقيقي لحب الحياة والإصرار عليها، وهذا ما يتجلى في شخصيات سميرة قطاش وأمها التي طلقها أبوها بعدما هرب إلى فرنسا وأخذ كل أموالهم، فكانت هي الصامدة والمصرة على تعليم ابنتها، وكذلك حال أختها التي تطلق هي الأخرى من شيخ الجامع الذي يخطب في الناس بالبر وهو الباحث عن ملذاته، وهذه الشخصية وإن كانت نمطية ومتكررة في رواياتنا العربية وربما في بعض الأعمال السينمائية أو الدرامية فهذا دليل على تردى الواقع الذي يضغط على الذهنية المبدعة ويلح نموذج رجل الدين الفاسد والمتظاهر على هذه العقلية المبدعة فيتعاظم حضوره وفق هذا النمط في الأعمال السردية، وهذه مسألة طبيعية، لأن كل شخصية من هذا النموذج لرجل الدين تكون لها تنويعاتها المختلفة في التوظيف من نص سردي إلى آخر. المهم في تقديرنا أن صورة المرأة واختلافها عن الرجل على قدر كبير من الثراء وتحتاج إلى بحث أكثر تفصيلا وقدرة على المراقبة والتوقف المتأتي التأويلي، لأن الرجل هو القاتل وهو عذرائيل وهو الهارب وهو المتخاذل والمغتصب والمرأة على النقيض من كل هذا لأنها الضحية في كل تلك الأحوال وهذه مسألة لافتة للانتباه.

توظف الرواية تقنية الأصوات التي تتفاوت في مساحتها بحسب أهيمة الشخصية أو موقعها وحدود رؤيتها في هذا العالم، وذلك لخلق حال من الجدل الإنساني وتنازع المصالح وتعارضها في محاولة من الخطاب السردي أن يتخذ موقفا موضوعيا من كافة الأطراف ليسمح لكل نموذج بأن يطرح ذاته ورؤيته للمجتمع في خضم هذا الصراع وليكون هناك نسق من التبادل بين هذه الشخصيات حتى يحدث نوع من التشويق أو انتظار المتلقي للصوت الآخر أو يكون مترقبا لرد فعل بقية الأطراف أو يتطلع لما سيأتي منهم من أحداث وبخاصة شخصية القاتل الذي يبدو هو الأكثر حسما في حين تصبح الشخصيات الأخرى كما لو كانت تعرف بنفسها أو تقدم شهادة على مسيرتها في تلك المرحلة، وهذه الشهادة لا تخلو من محاسبة للذات وللآخر عن عدد من الأسئلة مثل الحب والرغبة والمال واللذة والشهوة وصراع الطبقات وهو ما تجلى في اغتصاب ليندة المتطلعة إلى حياة برجماتية تواجه فيها أصحاب المال بجمالها وجسدها ولكنها تصبح الخاسرة، وسؤال التعليم والإخلاص للفكر والتحديث وتطوير الدولة وغيرها من الأسئلة الكثيرة التي تطرح بشكل مباشر وتصبح من الشواغل الرئيسة للشخصيات.

الرواية كذلك فيها حس بوليسي يدعم ملامح التشويق في هذا الخطاب السردي، لأن هذا القاتل الهارب المتحرر والمتجول كما عزرائيل ولا يترك وراءه أثرا يصبح مصيره هو الآخر معلقا حتى نهاية الرواية التي تكشف عن تجدد مهمته وأن لا يحتاج لأكثر من التوقف لبعض الوقت لالتقاط الأنفاس، وهو ما يمكن تفسيره بأن العقل المبدع لا يرى مناصا من الموت وأن هناك حالا من اليأس تجاه أوضاعنا الاجتماعية التي مازال هذا الصراع قائما فيها، وكأنه لا حل بعيدا عن الدماء والقتل، وهذه رؤية الرواية التحذيرية التي يمكن عدها أقرب لصرخة في وجه هذا الواقع العربي القائم على التفتت وغياب الرؤية الموحدة أو النقطة الأساسية التي يتعايش الناس بها، وإن كان هناك الحضور الثابت لفكرتين هما الوطنية ومحبة الحياة والرغبة في التعايش أو التصالح وهو ما يجعل الرواية في النهاية متوازنة في طرحها أو فيما تطرح من قيم دلالية حول الأزمة الأساسية التي تتعرض لمقاربتها وهي فكرة الصراع المجتمعي الداخلي وغياب الرؤية الموحدة أو المشتركة على الأقل.

لكن من الناحية الجمالية فهي رواية ثرية ومتنوعة الإيقاع بين البطء والسرعة لأن المساحات التي تتوقف فيها الشخصيات للتأمل والمراجعة والتساؤل يكون هناك بطء للسرد أو تهدئة مطلوبة ليحدث توازن مع تلاحق أعمال الشخصية الأكثر سرعة ومضاءً وهي شخصية القاتل، فهو يعمل في سرعة تفوق كافة الشخصيات ويجول بينهم جميعا، فيما تكون لبقية الشخصيات فرصة للتأمل والتفكر وطرح الأسئلة والنقاشات أو تبادلها فيما بينهم، وهذا نابع كذلك من تخصص هذه الشخصيات التي يعمل ثلاثة منهم في الجامعة وهذه نسبة غالبة، وكأن رجال الجامعة هنا أصبحوا الضمير الحي الجدير به أن يقوم بهذه المراجعة والمحاسبة الضرورية عقب كل أزمة أو فترة عصيبة.   

……………………..

*نشرت في جريدة “القاهرة”

مقالات من نفس القسم