أخبرته بما أظن فضحك عاليا وابتدرني بقبلة على جبيني داعيا إياي بالطفلة ، وبأن مسير القافلة مع كونه معروفا ً و آمن فهو غير مجدٍ، أما طريقه فمليء بالمسرات والعجائب التي يعلم يقيناً أنني لم أخبرها قط ، نظرت أمامي بمواجهة ظهره، و قلت لنفسي لابد أنه يعلم ما لا أعلم ، وليكن الغد أفضل يا الله.
غذذنا السير منذ يومنا الأول و كنت ألحظ تعمده مخالفة طريق قافلتنا المرسوم مسبقاً بلا داع ٍ من خطر عدو ٍ و لا كاسر، لم يبدُ بلا خطة ، غير أني لم أدرك كنهها لا حينذاك، و لا حتى اليوم ، حتى بعدما فصلت بيننا ألف صحراء و مائة قافلة ، حتى بعدما تغير لون شعري و لون عيناي، و بعد أن صرت أملك مائة خف ملون و مئات الأثواب.
كان إشتياقي لأبي قد بدأ مبكرا ً جدا ً ،لكنني شغلت عن التصريح به بالنار المندلقة علينا من السماء، تعامدت الشمس فوق رأسينا وانفردت بنا كفريسة سهلة، لم يبدُ أنه تأثر بحرارتها و لا سطوتها على رأسينا معا على عكسي ، إبتعدنا عن القافلة الأم وعن أبي ، وانهمرت الأشعة حمماً تشوينا معاً، لم يشكُ أبدا من اللهب المنصهر و هو يُصب صبا ً من السماء ، فأدركت بقلبي أنها ليست رحلته الأولى المنفصلة، لكنني لم أسأله وكتمت ما أيقنت ، كنا نسير طويلاً حتى في الليل، رجوته أن نتوقف قليلاً للراحة أو للحديث فرفض بتصميم ٍ قاطع ، و قال بتأفف أنه لم يقرر إصطحابي إلا لأنني شابة و قوية و أقدر على التحمل ، و أنه يتحتم عليّ أن أدع التذمر و أكف عن الحديث ، و أنني سأخجل من نفسي عندما نصل للنفق و نلقى أصحابه و رفيقاتهن القويات بارعات الجمال ،فصّمتُّ بمرارة ، غير أن ما بقي من خفي الجلدي تقطع فغدوت حافية تماماً.
بدأت قدماي تدميان، و تلتهبان من حرارة الرمال ، سألته ثانية ان نتوقف، أن يحملني ربما، أو أن أرى وجهه على الأقل فأنا ممزقة الخف منهكة القوى ولا أعرفه ، لم يبدُ أنه سمعني ،عوضاً مد يده وقال لي بلهجةٍ آمرة: خذي هذا، احملي .
صرت أثقل بلا قدرة على السير وغاصت قدماي في الرمال ، ظهري يؤلمني وما أحمله يزداد ثقلاَ ، حافية وجائعة وخائفة أسير مع رجل لا أرى وجهه ، دبغت الشمس ملامحي وانتفش شعري ، ثم بدأ في التساقط ،
فاض الكيل ، بكيت بصوت عالٍ وصرخت حين يئست فأسمعت كل الصحراء، طلبت إليه أن يحمل معي، أن يساعدني، وجلست على الرمال باكية منهارة القوى ، لأجده يتبخر، يتلاشى .
كان قد توقف عن الإمساك بيدي منذ أن شغل كفاي بما اعطانيه، و بدا انه مهمومٌ دوما بالنفق و لقاء أصحابه أثناء سيرنا الصامت …
حادثته فاختفى …
هكذا ببساطة…
تركني وذهب…
هل أذابته الشمس؟
أكان وهما؟
هل كنت ضحية كابوس مؤلم ؟
ماذا إذاً عن الدماء التي تأز من قدماي ؟
ماذا عن القروح الجلدية المحترقة التي تغطيني؟
لا أعرف ، لكنني فجأة وجدتني وحدي في منتصف صحراء قاحلة تنبت شوكاً و ترعى رعباً ، قلت لنفسي يجب أن أرجع لأبي مهما حدث ،
مسحت دموعي بسرعة كي أتمكن من رؤية أثار أقدامنا لأتتبع الطريق إلى القافلة، للغرابة لم أرَ سوى أثر قدماي أنا فقط ، و كأنما كنت أسير وحدي ، حتى أنني كنت أجد بقعا من الدم من أثر النزف ، لم تشرب ذرات الرمال دمي ، سرت و سرت حتى وصلت أخيراً إلى أبي، الذي لم يفاجأ بعودتي وحدي، كان حزيناً لرؤيتي على تلك الحال لكنه لم يُصّرح ، أتاني بطعام و فراش جديد داخل الخيمة وقال لكل أفراد القافلة أنني عدت لذا فعليهم تأجيل المسير للغد أو بعده، حتى أتدبر أمري ، نزع بهدوء عني ما إلتصق بيداي من الحمل الثقيل لأرتاح قليلاً وأمرني أن أنظف نفسي وأطبب قدماي قبل أن أذهب لأطلب من حكيم القافلة أن أعاود الانضمام للمسير .
تغامز الجميع عن خفي الممزق ، و عن رجوعي حافية إلى القافلة و عن دلال أبي الذي أفسدني فلم أتمكن من السير وحدي دون ناقتي و رعايته.
منهكة وضائعة مشيت إلى حيث يجلس حكيم القافلة، خيمته طيبة الرائحة و صوته الهادر الواثق الرخيم ، عوضا ً عن إستذانه و مراجعته ، إبتدرته بحنق المخدوع ، سألته لماذا حدث لي كل ذلك؟ ما معنى كل ذاك الألم؟ ما هدفه؟ سألته وجوفي يحترق عن معنى سيرنا في القافلة إن كنا في كل الأحوال لا نروم بلوغ النفق ، و إن كان السير هدفاً في حد ذاته، أو أنه مضيعة للوقت، أو أنه مجرد تسلية ، و أن كان هكذا فلم لا يكون حافلا ً بالمسرات ؟ سألته لم تقطعت قدماي في الطريق ذهابا وإيابا، إن كنت سأعود حيثما كنت ؟
كدت أجن و أنا أسأل و أسأل…
نظر إليّ طويلا ولم يجب. ثم تنهد وأخبرني أنني سأعرف إذا ما قُدر لي يوما ً عبور النفق.
ــــــــــــــــــــــــــ
*فصل من رواية بنفس الاسم تصدر قريباً