كتاب النغم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 59
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد العزيز دياب

   تنبعث الموسيقى ولا يسمعها أحد إلا من كانت يده طيبة. متسامحة. عطوف، تستطيع أن تمتد إلى ركام الكتب في الحجرة المعتمة، رغم اللعنة التي حذروا منها، ربما وجدت نفسك فأرًا، أو سحلية، أو عنكبوتًا ينسج خيوطًا وهمية.

   تنبعث الموسيقى بمجرد أن تدفع الباب المهترئ، تقف للحظات تتأمل فراغ الغرفة قبل أن تبدأ العمل، بالفعل يدك طيبة فيها من طيبة قلبك وهي تجوس في الأغلفة التي انفصلت عن تماسك الورق، نوبة سعال أخذتك بعنف وارتج لها جسدك، أدركت أن الهواء شحيح ولزج، ذلك لا يهم، أعرف أنك لن تتراجع بسبب يقظة الأتربة.

   (كتاب النغم والموسيقى من عهد إرم إلى ثمود، ومن جاء بعدهم من الأمم)

   سيكون لك طبعًا هذا الكتاب، أو أنه سيقع في يدك، كتاب سميك ودسم، اطمئن، تجاهل كل اللعنات التي حذروا منها، دع يدك تزحف إليه وتغوص في الركام، لا تيأس، ربما اكتشفت أن يدًا خفية في جوف العتمة واللزوجة والغبار تشدك إلي مكانه.

   بعد أن يصير الكتاب بحوزتك، تستطيع وأنت تقرأ أن تستحضر التاريخ، أقصد الماضي بكل شروره وعنفوانه، أو بكل الخير وثمره الطيب، سيكون ماثلا أمامك، الماضي الذي عشته والذى لم تعشه: من قتل من، من دس السُمْ، أو مزق الأحشاء، أو كانت بيده غدارة تزغرد طلقاتها وهى تسكن الأجساد الكريمة، تستحضر السفاحة وزوجها السفاح في بلد السفاحين والجرائد المبلولة في ماء الترعة بمانشيتات عريضة تتحدث عن البشر المشوهين بجروح في الوجنات، والشفاه، والرقاب، فيما يرمح أصحاب السيقان الناشفة على الجسور يستطلعون الخبر.

   الموسيقى العنيفة الفظة تصاحب هذه الصفحة من التاريخ، كأنها طعنات شرسة جبارة، وجه آخر للموسيقى يلعلع عندما يأتيك ماضي الدراويش والمساكين، الحكماء والبهاليل، ثمة رائحة بخور، بل ثمة دخان بخور يأتيك في جلستك على الأريكة تحت شجرة الزنزلخت في الحديقة، وما هذه المسبحة ذات الحبات الغليظة في يدك، علقها بذراعك وأنت تتطوح، على نقرات لدف، على صوت رخيم يلهج: حي… حي… الله

   ما كل هؤلاء البشر أصحاب الجلاليب البيضاء، العمائم والوجوه البيضاء، هل تخلقوا في فضاء حجرتك، أم دلفوا إليها وأنت مغمض العينين، هل جاءوا ينتظرون قرارك الحكيم؟

   لم يفاجئهم ضوء الشمعة اليتيمة عندما صار مبهرًا، لو قذفت بها إلى الخارج لن تحط عتمة أبدًا، لن يغيب الضوء في حضرة كل هذا البياض والتراتيل والذكر والموسيقى التي لا يسمعها سواك.

   ينبغي أن تدرك أنه بامتلاكك “كتاب النغم….” أن الموسيقى كلها صارت طوع أمرك، موسيقى للشواذ والمجرمين والسفاحين والقتلة، موسيقى خسيسة منبوذة، وأخرى استحضرت بها الدراويش والبهاليل، الحكماء والحمقى والبسطاء في معمعة دخان البخور، فأي الشخصيات ترغب أن تعيش فيها سواء في زمنك أو زمن لم يكن لك، أو زمن سيأتي، أمامك السفاح حامل الغدارة، مر بجوار جندي إنجليزي شرس وهو آت إليك من زمنه، أمامك الدرويش الذي يلهج بالذكر في سحابة كثيفة من البخور في حجرة متاخمة لبيت الشيخ “العز بن عبد السلام”، كل أتى من زمنه.

   أسرع فلا وقت لديك قبل أن تعصف بك الموسيقى وتقذفك إلى ما وراء الزمن ويصير كتاب النغم جمرة بيدك.

   اسمع…، ها هي الموسيقى فتحت لك الآفاااااااااق.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون