داخل صهريج

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

قصة : راجي بطحيش*

لست موصوما بطيبة القلب الزائدة. ولكنني تخليت عن سياراتي لجموع المغتربين العائدين الى الوطن لقضاء متعة الحر الذي لا يرحم. بطيبة خاطر. باندفاع غير مبرر. باتت هذه الغرفة الفولاذية سجني. خاصة عندما أدخلها بعد يوم طويل من القيظ القاتل. لا شيء يشبه الجحيم هناك. ولا حتى نيران الحيرة. ها أنا أبحث عن الظل. أي ظل يجنبني الكارثة القادمة حتما. ذلك الوقت المقتنص بين فاجعة وغرفة طوارئ . بين صراخ وغرفة عناية مكثفة. يحتاج الوقت المسروق الى ظل. وها أنا أبحث عن احتمالاته. تجردك المواصلات العامة من ذاتية مفرطة.

لست محور الكون. يا للمفاجأة. ثمة قدر جماعي يجري داخل صهريج. قد تتحول هذه الطفلة الباكية الى أشلاء أمامي في حال انحرفت الحافلة فجأة نحو المجهول. في الحافلة هنالك فرصة لتأمل السقف عبثا. وفي الحافلة ثمة فرصة لتجنب ثرثرات سائق أجرة قتلته الوحدة. ثمة تكييف برائحة الوقت يعمل جاهدا على تفتيت العرق وتحويله الى عطور لا يمكن وصفها. ونحن في أزمة اقتصادية. لا ميزانية لسيارات الأجرة. سائقو الأجرة ثرثارون. يمينيون. يكرهون العرب. يستمعون الى محطات فاشية. لا أعرف كيف يضبطونها. يتلاعبون بالعداد. يسألونك طوال الوقت عن الأخبار. أية أخبار . يعشقون كرة القدم. أكره كرة القدم. لا يشغلون التكييف بتلقائية. يحسبونها بعنف. وأنا أبحث عن الظل بين الفاجعة وغرفة موت أخرى.

42 باص يخرج من مقبرة بات يام ويلفظ آخر ركابه في مزبلة قرب الجدار . وهو رقم أخاف منه . رقم لعمر يهدر. غير سائل . حد فاصل يلقي بك طوال الوقت بين الرهان على اللاجدوي وبين المخاطرة والمخاطرة الأعظم. امرأة محجبة تصعد . هي تعمل خادمة في نواحي الشيخ مؤنس. تخرج من حقيبتها شيئا . لا ينتبه لذلك أحد غيري . بربك من سينتبه لذلك؟ تلك الفلبينية التي تبكي طفلها الذي مات إثر إهمال طبي في إحدى مستشفيات ريف مانيلا ؟. إنها تفاحة بلدية.  صباح. لا تكف المراهقات عن الثرثرة. خاصة تلك. لقد تركها حبيبها بسبب قطة.أما الأم العرجاء فلم تتوقف عن الإبتسام لطفلها النائم في عربة الانتظار. انتظار خلاص.

18 باص يخرج من مقبرة هو الأخر . مقبرة مدينة أخرى. رمات جان على ما أعتقد. وهو يلفظ آخر ركابه في بحر يافا. مساره أكثر أناقة. شاؤول هميلخ.ايفن جفيرول. فريشمان. ديزنجوف. اللنبي. يتدهور المسار. هعلياة. سلمة…

فريشمان. يصعد في فريشمان. قطعة حياة. عشر سنوات. ماذا أفعل؟. يجلس أمامي. لا مكان فارغ آخر . لا تلتقي عينانا يا رفيق. رفيق الدرب. رفيق درب. 18 رقم بت أخاف من إفرازاته. القاهرة.المعادي تحديدا. القاهرة.وسط البلد تحديدا. القاهرة. المهندسين تحديدا. التسعينيات. يا الهي. عمي سهيل. براغ. برشلونة.مدريد. تلك السخافات .الحياة الوهم. باريس .جنوبها تحديدا. باريس. الماريه تحديدا.باريس.سان ميشيل تحديدا. باريس الحي السادس عشر تحديدا. باريس.ذلك الوجع تحديدا. كيف يغتالون الذاكرة. لا أتذكر شيئا حقيقيا.أي شيء. أي شيء.سوى غيرة ترفرف وبعض نبيذ. لا اتذكر شيئا هاماً. سوى عبث مركب وبعض ندم. سنوات عشر نتنظر حافلة تنطلق من مقبرة لكي تنتهي. 18 رقم أخاف من إفرازاته. . فثمة قدر جماعي يجري داخل صهريج.

 

نهاية الأسبوع: سيارتي الحبيبة، اشتقت لك .بمقدوري أن أقلي قرص عجة على مقدمتك.

ـــــــــــــــــــــــ

* شاعر وروائي فلسطيني

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم