بالطو امبريال

حسين عبد الرحيم
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسين عبد الرحيم

بعد انتصاف الليل بساعتين كانت الأمطار لم تزل تسقط بغزارة، خرجت من جربين الضاحي وبيدي بطانية رمادية قديمة متآكلة الأطراف، من بعيد ظهر عم كامل وهو يتودد للحاج محمد شاهين الفطاطري، مشيت حتى وصلت أمام الفرن أحدق لشعلة النار الحمراء المتوهجة التي تكشف صحن الفرن الكبير وقد تراصت الفطائر في شكل دائري تسوى على نار عالية تبخها فوهة صغيرة تضخ الغاز فتطقطق الفطائر على السطح المستوى، أقف مصلوبا أمام فتحة الفرن النصف دائرية، عم كامل شاهين يستأذن الحاج محمد شاهين بالصعود بعد شعوره بالبرد، فى الخامسة والسبعين من عمره، نحيل، طول فارع،  نظاره ذهبية، وجه أبيض شفاف ينظر بتريث وطمأنينة للزبائن القليلة التي وقفت بعد الواحدة والنصف في انتظار خروج الفطائر، حلو وحادق وبالسمن والكريم، وآخر بالبندق والفستق الحلبي.

 قدمي ترتعش،  أصابعي ميتة في حذاء موريتان،  جسدي رخو، أنهكني  الوقوف مستأنسا بصهد الفرن وأوار النار، جمر أحمر يتعالي في مساحات شاسعة من الفرن الكبير بقبته العالية يتوسط صحن المحل، ناداني عم كامل، حملت معه الحقيبة،  استدار يقصد الباب الخلفي لعمارة شاهين من جهة طولون، الشوارع ساكنة، العدل،  طولون والحميدي، أجول ببصري في البعيد المرئي، جهة تلاقي محمد على مع شارع الحميدي، هدوءاً وخلاء ترمحان فيهما الريح، أطوى حقيبة من خرق الدمور تلازم العم كامل دوما في ورديته، تتجلى رائحة الطعمية التي ابتاعها من  مطعم أبو سمرة، أرغفة الخبز من فرن عبد الفتاح،  رائحة أجبان شلاطة  تنفذ لأنفي لأجدني أتثاءب، أستدير، أنادي عم كامل، سبقته في الصعود حتى باب شقته في الدور السابع.

ودعته ونزلت، طويت البطانية تحت إبطي متوجها لفرشة البطيخ العالية التي تكومت في تلال هرمية، حسن شاهين منهمك في رش السكر وفرد القشدة على الفطائر، انصرف الزبائن تباعا، قدمي باردة وجسدى مصلوب في بلوفر رمادي وبنطلون جينز kint بيج، بدأ المغص ينهش معدتي وقتما نظر لي عم محمد شاهين متسائلا:

ـ أحضرلك فطيرة؟

 لم أرد.

 عيني ترقب القادم من جهة ناصية محمد على وتلاقيها مع شارع أحمد ماهر، بيوت الهيئة الساكنة، ملابس البنات والنساء الملونة ومن خلفها النوافذ والتراسينات المفتوحة تشع نورا وونسا ودفئا فى بيوت صامتة، رائحة زرعات اللبلاب، صبارات عتيقة منصوبة أمام مقهى الشكربالي،  صوت السفن الآتي بقوة،  في رتابة ووشيش مستحب يسري بمهل من قبل قبة هيئة قناة السويس، مراكب واقفة، وبوارج مطاطية تهدر، سفن حربية غارقة وأخرى تقف بالبوغاز عليها الأعلام الأمريكية، شاهين يتحدث عن وصول المطرب عبد العزيز محمود ابن بورسعيد،

 وصل الرجل فجأة بضحكة ملأت الدنيا بهجة، في ليل أول العرب، أخذه شاهين بالأحضان وأجلسه على كرسي الفوتيه الوحيد والذي أمرني بإحضاره من مكتبه الصغير.

 كانت المرة الأولى التي أرى فيها مطرب تاكسي الغرام ومنديلى الحلو صاحب المسيرة الطويلة في الغناء الشعبي، وجها لوجه، هو الراشق في روحي منذ أن رأيته في فيلمه الأشهر “تاكسي  الغرام”.

ضحك في وجهي عندما قدمني له شاهين:

ـ حسين الصومالي.

رد عليه:

ـ ماهو باين عليه خالص، صومالي وعيونه زرقا.

وأضاف المطرب ضاحكاَ:

ـ مين أبوك ياض.

أضحك، فيقول:

ـ واضح إن سونه فتى مدهش، جسور يا شاهين.

 ضحك وضحكت ورميت بالبطانية وسط فرشة البطيخ أمام خمارة لويس نعيم، قرب مطعم عبد الغني سلطان، الجو معتم، مقبض، حتى واجهة مطعم سلطان لم تعتقني من الهواجس.

عدت، كان المطرب قد قبل عم محمد شاهين كثيرا حتى وصل لجبهته وانحنى يقبل يده، سحب شاهين كفه وربت على كتفه، دققت في ملامحه فظهر بياض بشرته وقصر قامته ولازمة العرج البين في ساقه يؤكدان وقت تحركه تلك القدرة على  الخطو بجسارة، وجهه مشرق، رغد الملامح، بدلة شركستين لميع سوداء وبابيون أسود وقميص من الحرير الابيض،  قدمت له صينية كبيرة من النحاس فوقها القهوة الفرنساوي الغامقة فعاجلني شاهين بضحكة طويلة عالية زادت من دفء المكان،

قال شاهين:

ـ  والله واتبريت واتبرى إيرك يابن الكلب.

 فيقول المطرب:

ـ هانعمل إيه ياعم محمد العمر بيجرى وهو واقف ليل نهار، لا بيخمد ولا بينام، حد يصدق أننا في سبعة وسبعين والناس راجعه ديارها.

 رد شاهين:

ـ نعم، العمر والنسوان الحلوة يا كازانوفا، احك لي، أسمع الصومالي، كيف صرخت أمك في فيلمك الاول وهي تشاهدك كممثل للمرة الأولى عبر شاشة سينما الشرق الصيفي!!

يضحك  ويقهقه، تزغرد الدنيا بأرواح صافية تظهر حكمة العقود والسنين، ساكناً بدا عبد العزيز محمود بهالة ضاوية وملاحه لملامح سمحة شقية، صامتا في الغالب إلا من ضحكة ساخرة يطلقها من حين لآخر وخاصة عندما قال له العم شاهين:

ـ بس الأفتن، كانت هدي سلطان، أم تحية كاريوكا يا خناجري؟

 يضحك عبد العزيز ويقول:

ـ آه يا راجل ياقرد، الاثنتان.

ويضيف المطرب:

ـ  أتذكر ماكانوا يرددونه على سيدات أول العرب زمان، “نغشة”، هن هكذا، حلو الكلام، تري تري تم. من غير هم الهم، يكلوك لو زودتها يا  لظلوظ.  لم لمللم تيري آآه.

 ويستعيد  عبد العزيز محمود لزماته في نجف بنور:

ـ هن النجف البنور بحق يا سيد الفطير العتيق يا مربرب.

أضحك، يضحك شاهين ويهتز كرشه، ترتج نظارته المقعرة، ويباغته شاهين من جديد:

ـ لكن أنت اتجوزت  كام مرة يا خناجري؟!

 صمت ودمعت عيناه وهام في الآفاق. نظر لسماء بورسعيد في أول العرب وطولون وهو الجالس على كرسي الفوتيه تحت المظلة الخضراء، فرد ساقه وقال في همس:

ـ تعرف يا عم محمد، المرأة قلب الوجود، ومهما كثر وجودها في حياتك، زادت رؤيتك واتسعت عن الحياة بل والموت أيضاً، كل منهن لها طعم ورائحة ومذاق، نار وجنة، حتى الشهوة تختلف، لا أتحدث عن الغرام ولا الحب بين فتى وفتاة ولكني أتكلم عن أصحاب الخبرة والدراية بالحياة، حتى مفهومهن للفرج والرحم..

أضاف عبد العزيز محمود:

ـ حتى الموت والحياة يكون لتفسيرهما متسع من الحكمة بل والمعاني والمبررات، هناك امرأة  تمارس معها الحب، تضاجعها، فتنقلك لحيوات اخرى أكثر بهجة وعظمة، وهناك الفقرية التي لا تضيف لك إلا السواد وطعم المرار والفقر ومرارة النفس والعيش لتتركك كخرقة بالية وكأنك لم تكن تمارس معها الحب بل تضاجع وسادة صماء تصلبت وجف قطنها لتستعد للبحث عن تفسيرات أخرى للوجود والرحم وماهية ودوافع بل حصاد التقاء المرأة بالرجل، عن جدوى العيش وليس الحياة فقط، أقصد تشتت حواسك مع المرأة الفقرية هذه،  تحس أنك في برزخ رجال مسلوبي الإرادة، لم يعرفن إلا الفقر حتى في المأكل، السلوك، الخارج منهم بل والداخل فيهن، لعنهن الله و لعنهم، هذا هو ميراث الجهل والمرض و الفقر قبل العوز وفي أقبح وأسوأ حالاته وتجلياته على البشرية، كأننا  نحرث في أرض خراب جرداء، هكذا كانت حياتي يا رجل، ملذات وقطائف من نور ونار وسواد فاق البياض إلا من عشق أبدي لامرأة بعينها لم ولن أتحدث عنها لأحد قط.

ـ ولكنك..

توقف شاهين عن التعقيب، بدأ يصغي ويصيخ السمع. بدأت الدموع  تهوي من عين المطرب، نظرت له بشغف، فراح في الحكي:

ـ اسمع يا رجل يا ملظلظ بمخ مهلبية وقلب كريمة وقشدة وعقل ملبن تركي، بالأمس تحديدا توقفت عند عمري هذا، كل سنوات شقائي ومجدي، فكرت في بناتي كثيرا، كيف سيكون مستقبلهن في هذا البلد وخاصة بعد مجيء السادات وزيارته المتوقعة قريبا لإسرائيل.

 تجهم محمد شاهين فزاد إنصاتي وهو يقول:

ـ  ما علينا يا ملظلظ.. نمت حزينا وهذا ليس بجديد، فلا يغرنك ضحكي ولا عبثى ولا سخريتي هذه فأنت تعرف عني الكثير.

 رد عم محمد شاهين:

ـ  قول يا محمود، قل يا ابن الحرزات يا فلاتي.

ـ نمت، رأيتني أرقب فتاة تقترب من الثلاثين، كانت ترتدي بنطلونا أسود من التريفيرا أوبلوزة مهير بلون الكاكاو،  من بعيد ضوت ملامحها،  خطت على أرض لامعة، بلاط بازلتي، في بلدا غريب، وحدها كانت تمشي، من خلفها مبان فخيمة، عمارات قوطية، كان المشهد قبل الغروب أو قل عند الشفق، الغسق، كأنه فيلم سينمائي بشريط صوت،  لم يصدر منه إلا زعيق سفن بعيدة،  صفير رياح، صور لجميلات يلوحن لمجهول،  من فوق مراكب،  فلك شراعية عابرة،  لم أتبين الصور في الحلم،  كل ما أذكره من الحلم، كانت تلك الملامح، ملامح الفتاة. وجه يسطع بهالة نورانية تضوي،  بشفافية بين المبان، كانت هي من تمشي بمهل وثقة، في قلب الحانة، وقت أن تراصت بيوتها  بالزخارف في دوائر،  على شكل زهرة البانسيه، كانت البيوت،  قل المنمنمات،  قريبة من شراشف قرص عباد الشمس الذي افترش النهار، في بلاد بعيدة وغريبة.

دهش شاهين، وأنا لابد تحت قدم عبد العزيز محمود، عبث في خصلات شعري بلا وعي، نظر لي في حنان ملأني دفئاً رغم دوام سقوط المطر فى نهايات الخريف على ناصية الحميدى والعدل، أضاف وقت أن برق بصري، أرشق البصيرة، حواسي يقظة تلتقط كافة تفاصيل ملامح المطرب وقت أن راح يسترسل ممتلئة عيونه بالدمع تلون ملامحة فتبرق عينيه قبل الفجر:

ـ أتعرف ياشاهين، عينا البنت هي ما شغلتني وجعلت الحلم يطول حتى قبل سطوع شمس النهار، خاصة وأنها كانت تمسك بحقيبة ترميها فوق ظهرها وقصة الكاريه تزيدها فتنة وصوت السفن الغاربة يخترق أذني كأنه يطاردني منذ مولدي، ملامح البنت تتعدد مفاتنها، قل هي ساحرة، مسحورة، ترى في الحلم، في الحياة مرة واحدة، أما في الواقع فلا. هى جوهرة.، لؤلؤة المستحيل، ولكنها ليست بجنيي، كله إلا  تلك الرائحة والتي ووقت أن هممت للاقتراب منها في الحلم، كنت أخطو بخفة كطائر راحل، أقترب اكثر لأتبين شكلها وجنسيتها فما كان ولا بقى ولا فاح ولا تجلى في الأفاق ولا السماوات ولا حتى رحابة الارض والبازلت التي يحملها إلا أريج عطر أندلسي قادم من الجنة. كان البالطو التي تحمله على ذراعها الأيمن من جلد الثعالب، ظهر بني مرة وأسود مرات، تخطو بمهل وغنج وفي تأدب، بحذاء نبيذي، وبوت مشمشي يفارق الكاحل و القدمين الصغيرتين لاحا وقت أن أبدلت قدميها لتذهب متنقلة من حانة لأخرى وقد ظهر خلفها مجموعة من السيدات والرجال ذي الملامح التركية أو الاندلسية كانوا يحرسونها، يقتربون من فضاءاتها، يتبعون ظلها، حركتها، خطواتها من البعيد،  كنت في الحلم. أراها وكأنها حقيقة، أراني أقترب من وجهها، من روح أعرفها، تعرفني، تقابلنا في زمنا مضى،، أو هو آت لاريب، تفاصيلها، دقة الملامح، طابع الحسن، الغمازات بوجنتيها تؤكد روعة التفاصيل الخلاسية رغم بياضها الشفيف الضاوي المصبوغ بمسحة من الكهرمان يزيد من فتنة امرأة..  تشكلت وتلونت بملامح البراءة، الفتنة،  الشهوة،  الطيبة والفجر، الصمت، رغم أنها كانت  تتحدث في تليفون صغير، وضعته بكفها الأيسر فوق أذنها، كأنني أحيا في زمن آخر،، لم أتبينه، هل هو قادم، أم مضي، أم هي أمنيات من فتون وتمنى.. كأنني أطوف هائما صوب قبلة الخلود، يرجرجاني، المراوغة قبل اليقين والمخاتلة، بكيت وضحكت ورحت في سفر طال لساعات وأنا أسال نفسي في الحلم، أختلط وعيي، اشتبك بحدسي،  بوعيي، من هي هذه الفتاة، كأننا نتهامس في صمت، هل هي من زمن فات أم زمن ما قادم؟!! كان الخوف هو كل ما كان يشغلني وأنا أقفز متلصصا في الشارع الغريب للتأكد من ملامحها، كان فيها الكثير من رقة إبنتي وجمال أمي ووله عاشقة تنتظر بل تسهى للقائي من أول الزمان،  فيها الكثير من شاهندة وصوفيا وشقيقتي الباتعة، حبيبة أبحث عنها في الحياة والدنيا منذ مولدي.

صمت برهة وزاد، وزاغت عيناه في الأفق:

ـ  النهاية، أظننا يا عم شاهين نحمل بداخلنا صورة تشبه أو تتطابق  مع الحلم،  أحلامنا، حياة لم ولن نعشها، نري فيها جزء  ممن أحببنا أو عشقنا أوهي غواياتنا وهوانا، حلمنا المستحيل، صورة من حياة كان يجب ولزاما أن نخوضها لتتجلى بدنيانا، لكنها نسفت.  كأعمارنا، كجدوى رحلة الحياة وعيشنا، نظل نلهث لنرى جزء ولو ضئيل مما صنعنا وزرعنا، حتى وإن لم نبح بهذا العجز و الوله والتوق والعشق المكنون في كل ذرة في أجسادنا، نهايته…..

 كان عبد العزيز محمود يحكي وأنا وشاهين نبكي، ختم حديثه في النهاية بالقول:

،  وفي نهاية الرحلة أو الحياة أو الرؤية، سنموت بحلمنا، سيبقى الحلم في السماء قبل الأرض، في الحلم كانت الفتاة تقبلني، نعم طبعت قبلة على جبيني وأنا الخجلان يا شاهين، أنظرها من فرط الدهشة فأراها ابنتي مرة، حبيبة مسافرة مرات، حلما وغادرني للأبد، تتجلى ملامح وليدتي شاهيناز في حلمي فأخجل وتنحني رأسي، أقبل كفيها وتلك الأنامل الرقيقة، تصور يا شاهين أنها أصرت بالفعل على تقبيلي و تقدمت كثيرا من وقفتي في حانة الغرباء حتى دون أن تلتفت للبشر من حولها، قبلتني في فمي،  بكت بعدها ورمتنى بنظرة لن أنساها مهما طال بي الدهر فقمت خائفاً، لا أعرف لماذا.

كان الفجر قد اقترب ولم يزل المطر يسقط غزيرا مصدرا أصوات طرقعة وهو يصطدم بالبطيخ وقام عبد العزيز محمود يضع في كفه عملة ورقية فئة المائة جنيه،  ورآني عم محمد أشعل سيجارة وراء الأخرى وهو الذي لم يرني أدخن من قبل، نظرلي شذرا، في غضب قال:

ـ احمل  حقيبة الاستاذ محمود وتعالالي يا صومالي.

سلما على بعضهما البعض، بكي المطرب ومسح دمعة شاهين قبل الفجر، وقف فخطا يضرب ساقيه في الأرض الغارقة في ماء المطر مستندا على كتفي يودع المكان وعم شاهين مرددا:

ـ سآتيك قريبا جدا يا ملظلظ، اعذرني يا عم محمد،  نور الشريف جاي من بيروت في مركب بعد ساعة.

وضع علبة سجائره الكينت في جيب البالطو الإمبريال الذى ارتداه فوق البدلة الشركستين وصار يتوكأ علي حتى تلاقى  محمد على مع شارع أحمد ماهر لأجد عربة بونتياك في انتظاره أمام الكنيسة

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون