بسمة الشوالي
“الله يقرئك السلام يا جميلة”
هزّها الصّوت الرّخيم بلطف يشذّ عن قسوة الرّاهن الفظّ ويربك بركة الهدوء الرّاكدة. رفعت رأسها عن إطار النّافذة المفتوحة، تلفّتت جنبيْها مفجوعة مرتعبة تتفقّد مجلسها المتوتّر من اليقظة السّاطعة. نشّت ذبابةً زرقاء تحوّم حولها. دعيها يا حاجّة، لا تطرديها بعيدا عنك. ستذهب من تلقاء نفسها إن قرّرت ذلك.. قال شابّ محتقن الوجه يقطّع كلماته تقطيعَ الشّهقات لأنفاسه، تقول أمّي إنّها روح عزيزٍ مفارق، تجيء في ميقات الحسم لتصل أحبّتها وتخفّف عنهم شدّة النزع. ألم تلاحظي كيف تطنّ قرب سمعك لتعرفيها وتتشمّم بملامسها اللّحم الظّاهر لتعرفك؟
تبسّمت في شفقة تحرّك رأسها في بطء ووهن. ربّتت بحنوّ على ظهر إحدى يديه القابضتين بشدّة على ركبتيه مسندا جذعه المتساقط. رجّحت أنّه يفتقد والديه أو أحدا منهما فلم تشأ أن تفسد حسن ظنّه بالخرافة تهبه الأمل في أجمل ما قد يجود به الحظّ في هذه اللحظات المريعة: قناع أكسجين ورفيق رؤوم يحرص على إعادة القناع إلى مكانه كلّما سقط أو نُزع عنه قبل اكتفائه ليُسعف مختنقا غيره..
عدا هذا الشّكل الجنائزيّ من التواصل الذي لا يمدّ نحو الآخر سوى جسور وقتيّة متآكلة سريعا ما تنهار، لا أحد من بين الحشد البشريّ المتراصّ يهتمّ لأحد هو بالضرورة القاسية منافسه اللّدود على جرعة الهواء الأخيرة أو شبر محتمل في غرفة الإنعاش. ولا سلام في قاعة الاحتضار هذه. اللّحظة المتشنّجة لا تسمح بغير الطّنين الصّاخب للذّباب الأزرق يتحسّس بقايا الحياة ليقدّر بقاءه منتظرا هنا أو ينتقل إلى غرفة انتظار غيرها.
أكانت تحلم أم تهيّأ لها أنّ الله يخصّها دونهم بالتحيّة؟
برمَت شفتيها تعجّبا تعيد تدوير عقرب الساعة في الاتجاه المعاكس. هي لم تغْفُ. ثقل رأسها على كتفيها فأزاحته قليلا وألقت بشطر الحِمل إلى خشب النافذة دون أن يفوتها شيء ممّا يعتمل على مقربة منها. من بلّغها السّلام الرّبانيّ، إذا، هو نفسه من يخطر ببالها الآن. انشقّ إذّاك قمر الرّوح عن بسمة مشرقة ودَفَق نبع الرضا دفقة نور ومَض في ماء نظرتها الفاترة، وانتثر كحبّات العقيق على أساريرها الذّاوية.. تمتمت بكلمات تُسمَع هميسا غير بَيِّن. سكنت نفسُها الجزِعة. عادت سحالي المخاوف إلى مغاورها القديمة. انغلقت فُوّهة القلق. التأمت الشّقوق المتفتّحة على جدران الذّاكرة. الشّمس إلى زوال، والهودج جاهز لنقلها. لم يبق على السّفر سوى القليل.. ترى هل تفطّن أحدهم لغيابها الفجئيّ هذا الصّباح؟ لو ظنّت أنّها ستفقد داخل هذه القاعة القدرة على السير بمفردها حيث شاءت ما جاءت..
في ترقّب الموعد تشغل جميلة نفسها بنفسها، وتنشغل السيّدة بجانبها بالعدّ التنازليّ لأنفاس المريض الممدّد على سرير قباله مقعدهما، حيث تتلاصقان لضيق المكان واكتظاظه بالمرضى. لن يحلّ المساء حتى يُسهّل الله على روحه الخروج، علمتُ ذلك منذ رأيته هذا الصّباح.. قالت تحدّثها دون تعارف مسبق. أحدهم طلب منّي أن أبيت بمنزلي الليلة بدعوى أنّ صحّة رئتيّ لا تستدعي الإقامة الفوريّة في المستشفى على أن أعود غدا باكرا لعلّ وعسى.. لكن هيهات.. يحسبني غبيّة. يريد أن يفوّت عليّ السّرير الذي قضيت اليوم كاملا أنتظر أن يفرغ من صاحبه ليمنحه إلى غيري ودّا أو رشوة أو لأجل مصلحة ما.. إنّها الحرب. من لا يقاتل اليوم من أجل سرير إنعاش يموت متعفّنا في هذا المكان..
يا حاجّة، هل تحرسينه بدلا عنّي ريثما أعود من الحمّام؟ مثانتي ستنفجر، لم أعد أستطيع التأجيل أكثر. يا الله أجّل موته ريثما أفرغ بطني.. يا ألله..
وذهبت مهرولة ممسكة بأسفل بطنها لتثبّت الصمّام إلى مكانه من عبوّتها المائيّة وقد بلغت أهبة الانفلاق..
تصرف جميلة وجهها عن المحتضر وقد غدا علَما يخفق على سارية الألم تشرئبّ له الأعناق الملتوية، وتتعلّق به الأبصار المحتقنة، وتلهج بحدث رحيله الوشيك الصّدور الضيّقة والمهج المتضوّرة.. تُميل رأسها إلى مستراحه الأوّل من إطار النافذة. تمدّ شطر وجهها ناحية الفضاء الخارجيّ البهيّ المشتهى، وتغمض كي لا ترى الهواء محتشدا على المداخل ولا يدخل إلى حجراتها الدّاخليّة ولا إلى أيّ منزل عظميّ ممّن يكتظّون من حولها، يتسوّلون شهقة مجانيّة من جيب السّماء السّخيّة أو جرعة من ذلك النّفَس السّحريّ المعلّب في القوارير الطويلة المصطفّة كشواهد قبور متنقّلة.. كي لا تشهد الآمالَ تخيب والمنازلَ تنطفئ تلو المنازل..
تُغمض عينيها فتحجز طفافة السّكينة الباقية تحت جفنها المثقل بكيس خفيّ من الملح.. وميض البسمة ما يزال مرتسما خيطا رقيقا يضيء نيل الشّفتين. وميض بارق متراقص ينبثق من قاعة الخيال المضاءة بمصابيح العرس الأخير.. العمر يتبرّج لفرحته الثانية، وفستانها المرّة أبيض أيضا، لكن لا شِيَة فيه ولا خرزة، يُفصّل الآن، كما الفرحة النّادرة، لأجلها وحدها فلا يُستأجر من بعدها ولا يُعار.
هل أعدّت كلّ ما يلزم؟
تفيق جميلة بجمال أقلّ ورهَق أكثر. تعلقّ بصرها إلى السقف فينة يسرد خلالها الحكّاء الدّاخليّ أحداث اليومين الأخيرين.. تطمئنّ. تركت بيتها نظيفا مرتّبا لاستقبال ضيوفها، وجهّزت للعشاء ما يلزم من مال ومواعين ومؤونة. لن يحتاجوا شيئا. تنفلت منها نظرة فضول. تبحث قلقة عن السيّدة التي كانت حذوها.. ألم تعد بعْد من الحمّام؟ عندما رأت في الغرفة المقابلة مريضا جديدا يستلقي على السرير المأمول مكمّما بقناع الأكسجين، عرفت أنّ عمليّة سطو خاطفة قاسية قد تمّت لحظة غفوتها وأن جارتها في الانتظار، في حال ما تزال حيّة بعد، قد اتّخذت، حتما، نقطة رصد جديدة..
تُغمض عينيها ثانية..
يتناهى إليها من داخل الهودج الخشبيّ المتهادي رفيف الحزن المتأنّق في الحناجر الحبيبة لأحفادها الأربعة يسابقون الجميع لحملها على الأكتاف. يزعجها صخب الوداع الاحتفاليّ لكنائنها اللاّئي لم ترهنّ منذ سنة، والنّواح الغنائيّ لجارتها اللّدود تُجاهر بمناقبها ولم تعترف بها يوما، وتفرح في الآن نفسه لحفلة التّوديع المبهرجة تصاحب آخر ساعاتها في الحيّ. نساء كثيرات يذكرنها بخير. أعيان المدينة من معارف أبنائها المهمّين يتوافدون على حوشها البسيط. اسمها حبّة الهيل تُفوّح فناجين الكلام. الماء العذب يرطّب سرير نومتها القادمة..
المرّة أيضا تسافر إلى زوجها حيث هو، بعيدا عن منزلها الأوّل. تسير في المقدّمة والنّاس من خلفها جمع غفير يشيّعها خاشعا إلى مدينة غريبة بلا أسوار ولا أضواء تجلي عتمة الأنهج الخطيرة. لكنّها لن تذرف دمع الفقد ولن تستبق الرّحيل بالاحتمالات. ستصير أخفّ دون كيس الرّمل المربوط إلى ركبتها، وحبال مفاصلها وقد نتفها البِلى. لن تفصلها سنة أخرى عن أبنائها وأحفادها بعد اليوم. ستقضي في ضيافتهم ما شاءت من الأيام وربّما الأشهر دون أن تُزاحم أحدهم على مساحته الضيّقة من العالم والأسرار، أو تُربك انتظام الفوضى في الشأن العائليّ للكَنّة. من حسن حظّ الرّوح أنّ لسانها لا يغزل غير الحرير، كما لا أذن لها لتتسقّط أخبار كنائنها المتقطّعة من الإذاعات المحليّة لنساء الحيّ، بيد أنّها لا تعرف هل ستظلّ روحَ أمّ تغار من نساء سرقن أطفالها أم ستصير بعد خروجها من القفص الصّدريّ باردة كصقيع اللّيالي المهجورة..
تنشّ ثانية وبانفعال أشدّ الذبابة الزرقاء العنود. الشابّ الذي حدّثها قبل قليل نُقل إلى العناية المركّزة وتهامس المرضى بأنّهم نزعوا أسلاك الحياة عن رجل عجوز ليضعوه مكانه.. الأصغر سنّا أوّلا يقولون.. تتناسل الأقوال والأقاويل. تتالى الأخبار من جهات شتى نائية ومجاورة محمولة على أجنحة الذباب الأزرق العابر للمدن وقاعات الانتظار.. يزداد في اطّراد مفزع عدد الوجوه الممتقعة، والأعناق المائلة، والعيون المنطفئة، والمخبرين، وإعلاميّي المجاري الخصوصيّة للأشخاص والأماكن والأزمنة المتعفنّة الوقتيّين.. تلمع بلا انقطاع شاشات الهواتف فتسرّب حميميّة عذابات الرّمق الأخير للميّتين وتذيع إعلانات النّعي المتتالية مكتوبة أو منقولة صورة وصوتا كما لو أنّ العالم صار جنازة عالميّة يسير فيها الجميع خلف الجميع ويلتبس فيها المشيِّع بالمُشيَّع..
ترمي جميلة كلّ ما يقع في بهو السّمع إلى سلّة الإشاعات دون فرز. كُتبت مقادير الأعمار ومواقيتها منذ الأزل ولا تبديل لها، تطمئن نفسها المتقدّمة في العمر والمعاناة. هذه ليست قائمة المنتدَبين للعمل في مؤسّسة نسيت اسمها والتي حُذف منها اسم حفيدها الأكبر ليُستبدل بآخر بتدخّل من رجل دولة نافذ.. ما يزال الموت بيد الله وحده..
يثقل لسان حكّائها الدّاخلي ويتكسّر الكلام على شفتيه شَقَفا جافّة، نابية الحوافّ تخز حلقها وتدمي لهاتها المرتجفة. تُشرع عينيها جاحظتين. قلّ ازدحام الهواء على مداخلها، وتفاقم ازدحام الأجسام الملقاة على الأرضية الباردة ومن استطاع، أسند ظهره في شبه جلوس إلى الجدار.. بعضهم ظفر بقناع أكسجين وأكثرهم ما يزالون على مقاعد الاحتياط يفترشون الأرضيّة أو الحشايا المنزليّة أو بعض أثوابهم أو حُجور مرافقيهم.. سطع ضوء القاعة أصفر فاقعا يلسع المُقَل المحمرّة المفغورة كما لو كانت العيون تتّسع لتسعف أصحابها بشيء من الهواء عبر مجاري الدّموع المتكلّسة في المحاجر.. وحدها جميلة تطبق أجفانها لترى بعين القلب غرفها الدّاخليّة تظلم غرفة تلو الغرفة..
سبعونُ حياتها كانت سيرة ذاتيّة مختلفة لن يقرأ أحد تفاصيلها المحتدمة مكتوبة على جدران السنين بماء وطين، لكنّ أحفادها سيحفظون تاريخها الشّخصيّ من غائلة النسيان. في قلبها بعض الوصايا الصّغيرة لم تقلها لهم بعد، وفي أدراجها تركت لهم تُحف العمر النّادرة وبعض القطع الأثيرة من ممتلكاتها الشّخصيّة لم تعد بعْد على يقين أنّهم سيلمّعونها من غبار الهجر بين الفينة والفينة.. ابنها البكر سيفعل ذلك حتما. سيكون أكثر من يفتقدها رغم تزمّته العاطفيّ الظّاهر. تأسف الآن ومجدّدا أن لم تنجب بنتا. كانت لتكون مرافقة لها في غربتها الأخيرة هذه.. لكن.. ما الذي أخّرهم عنها..؟ يجب أن تعلمهم بمخابئ المفاتيح والمدّخرات الصّغيرة بدل أن ينبشوا أسرارها كفراخ الدّجاج. لا تحبّ أن يفسد أيّ منهم أو منهنّ خاصّة نظام منزلها وأسراره الحميمة.
تحتاج فقط، يدا، أيّة يد لتأخذ بجسمها المرتجف كثوب خفيف على حبل منسيّ خارج هذا المكان المحتدم بالمتنازعين على قوارير الأكسجين المعلّب.. طال انتظارها بلا جدوى، ترى الأقنعة تُنزع عن فم لتسدّ فما آخر فيتمرّغ الأوّل مختنقا ويستعيد الثاني جرعة قليلة من الحياة قبل أن يُنزع منه قناع التنفّس ليوضع على فم غيره، ولا يبدو أنّ دورها سيحين قريبا.. تناوب مرضى كُثر على السرير الذي كانت تحرسه السيّدة لاحتلاله عنوة حالما يلفظ النّائم نفسه الأخير.. دارت حوله كما حول كلّ سرير بالمستشفى معارك كثيرة ضارية لم يفز فيها سوى من كان مرافقه قويّا عتيّا أو غنيّا..
اِحترقت سُليْكات المصابيح المعلّقة بسقف خيالها المرح وصار ضوء الواقع باهرا يُدمِع عينيها وهي تفكّ اشتباك جفنيها.. بدا باب الخروج قريبا لكن السّير إليه عسير.. سيكون عليها أن تمشي في مشقّة حذرَ السّقوط على الأجسام المتكدّسة وقد نُخلت من قدرتها على الحركة البسيطة كسُحُب حوامل لم تجد ريحا تدفع بها إلى حيث تتخفّف من أثقالها.. أن تجتاز كلّ غابة الأذرع الممدودة نحو السّقف المشتبكة في عراك حامِ قانط مع الهواء المعلّق فوق الرؤوس دون ينجحوا في تمرير بعضه عبر فوهات الأفواه والخياشيم والعيون المفتوحة عليه برجاء مريع..
عبْر صدر النافذة المشرع على سماء مطمئنّة ترنو إلى طيورها الجذلى، أرسلت جميلة نظرة جانبيّة مرسلة نحو حياة نائية مستحيلة، يؤطّرها مضلعّ خشبيّ يمتدّ طوليّا إلى المجهول، ولا يسمح لها برؤية ما ينبض على جانبيه من تفاصيل اليوميّ البسيطة..
تستعذب الملامسَ الخفيفة لهواء رخيّ يلاطف خدّيها، ويلاعب عقدة منديل الرّأس أسفل الذّقن المتقبّض، ثمّ يرتع نشوان في الفراغات الضّئيلة بين الكيانات اللّحميّة المتهاوية أو المتهدّلة.. على جناح يمامة رماديّة رشيقة حطتّ مقربة رأسها الرّزين، أرسلت إشعارا مغناطيسيّا إلى زوجها يعلمه بقرب مجيئها عنده.
لملم حكّاؤها الدّاخليّ مِزق مرحه المتهالك، تصفّح بسرعة مرتبكة مرتجفة جذاذات سيرتها الذّاتية الباقية، وقام يشعل شمعة في قاعة الخيال المعتمة. على وزن الإيقاع الحركيّ للّهب المرتعش، رأت جميلة نفسها تغادر قاعة الانتظار كريشة بيضاء تتهادى خفيفة معافاة في الدّرب الذي رسمه إطار النافذة..
في الخارج وجه الله الجميل يضيء الممرّات المظلمة في جسمها، ويفتح فيها معبرا آمنا لهجرة الروح نحو مكان يسهل فيه شرب الهواء الحرّ وتناول فاكهة الطّمأنينة من أطباق الأحبّة..
في الخارج فقط قد تعثر على حفيد ما يحملها على ظهره ويجتاز بها الخطّ الحدوديّ بين ساحة الحرب هذه وأرض السّلم الأبديّة، فتذهب بعيدا عن ذبابة أمِنت يدها الناشّة فاستقرّت بزرقتها الفاحشة على وجهها تطنّ بفرح ذبابيّ مثير..
مارس 2021
……………..
*كاتبة من تونس