خطأ المجنى عليه..

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

وائل سعيد

علي ناصية شارعنا؛ يوجد مطبخ كبير لمحل كشري، يأخذ واجهة العمارة المجاورة للجامع بأكملها.. وفي الواقع، ليس علي الناصية تماما.. بالضبط أربع. خمس بيوت وتلقي نفسك في الشارع..

كلما مررت بهذا المطبخ اللعين؛ شعرت بأن التروسيكل الرابض أمامه سينفلت بفعل الجاذبية وتنفك ربطة فرامله.... خبط.. لصق.. يلبس فيا..

احساس لعين مضطر اقابله بشكل استمراري كلما خرجت لمشوار، وفي الواقع –مرة ثانية- بكون نازل من البيت مستعد تقريبا لأن يستفذني المطبخ؛ طول الليل يقدحون الصلصة ويشوحون البصل ولا يخلو الأمر بالطبع من طيف لرائحة عجين مستمر، ثم يقابلني أخينا الترويسكل وتوجساته، فتنقلب معدة الواحد.. خاصة ونحن علي صباحية ربنا.. لم يدخل جوفنا سوى دخان السيجارة الصباحبة.

ممكن واحد من حضراتكم، نبيه وفهييم وعُريف؛ يقول لي: طب ما تمشي علي الجهة المقابلة.. فلا توجد قطبان سكة حديد متصلة من بيتكم للشارع.. مقابلة! سكة حديد!! احب أقول لهذا العُريف: اتلهي علي عينك واسكت.. هي جهة واحدة يا سيد، لا فيه مقابلة ولا يحزنون.. كل ما في الامر قطعة أرض زراعية بطول الشارع، لايزال أصحابها يزرعون فيها البرسيم والفجل والكرات في مواسمها بإنتظام..

ونسيت ابلاغكم بأن القطعة الزراعية مائلة حبتين لتحت، وهذا ما يوجسني عند المرور بالترويسكل.. علي أي حال؛ نحن نمشي بعادية في الشارع كباقي خلق الله، ولا نتقوص جهة الميلان، الا لو الموضوع عيب خلقي مثلا، تقدم في العمر.. الي اخر ذلك من مصائب الزمن غير المنتهية.

أذكر الله في سري وقت هذا التوجس؛ علي رأي ابنتي (لو مكتوب أن تنفك ربطة فرامل الترويسكل، ستنفك ربطة فرامل الترويسكل)... افتكر لنا الخير يا اخي علي الصبح، وهوب.. أسمع لك؛ كلام غير غريب بالمرة، من سماعات توك توك مر من أمامي، بطيء، يتمخطر في هدوء: بحبك وبس.. وبيك قلبي حس.. ولما تغيب، أحن اليك.. واحس بعنيا، تدور عليك.. في كل الأماكن، هواك فيا ساكن، من غير لا ولاكن.. ده قلبي اللي حس..

خذ بالك ان لاكن اللي بالفنط الثقيل مكتوبة بالالف.. (لاكن).. وطبعا هي (لكن)، لكن.. هي في الحقيقة كتبتها كدا..(لاكن)، وخذ بالك أيضا أني عملت لك عرض؛ قصة وفيها قطعة موثقة ونادرة لأغنية قديمة لمطرب تسعيني اسمه شهاب حسني، اكتب علي جوجول الأسم وانت تعرف اني مكارمك..

لكن...-لكن عادي أهي- الشهادة لله أنا ارتحت لكم، حاكم القرُاء دول قِرف والله، وانتو شكلكوا قِرفتكم حلوة.. لما عللي صوت الرجل التسعيني في التسجيل، وتوقفت تكتكات الآلآت الكاتبة؛ طلعت من شقتهم، تمسك منفضة سجاد وتربط رأسها بمنديل..

-       هو فيه حاجه؟

دخلت علينا الحجرة؛ كنت جالسا علي الكرسي وظهري للآلة ووجهي للبنت الجالسة أمامي.. في تلك الفترة، كان في مادة اسمها (آلة كاتبة)، يدرسونها لعيال ثانوي تجاري، نتسلم الكتاب، المحتوي علي عهود المفاتيح: عالي وواطي.. والشريط.. والمسطرة.. والمسافات، بتوع تجارة التسعينات يفهمون ما اقول..

لم نكن تعرفنا بعد علي الكمبيوتر، وكانت تُقاس حرفية كاتب الآلة الكاتبة، بعدد الكلمات التي يُنجزها في الدقيقية الواحدة، كلما زادت.. كل ما أصبح أخينا مهندس تكنولوجي لم تجيبه وللادة. لهذا، كنا نشترك في مكاتب للآاة الكاتبة؛ نتدرب علي السرعة ونُطبق عهود كتب الوزارة النظرية..

-       لا ما فيش حاجه..

البنت التي امامي انكسفت، حين رددت عليها بعبارتي الفائتة ثم أدرت وجهي عائدا لآلتي فعادت هي الاخرى، في حين وقفت هي تبُص علي كلينا من قفانا لدقيقة تقريبا، ثم قالت: ممكن ثواني.. عايزاك برا نظبط مواعيد الحصص..

بيب.. بيب.. بييييب.... يا حمااار...

وبالطبع، يا حمار تلك، جاءت بتأثير استعادة ذلك العصر التسعيني، فمن المؤكد أن سائق التاكسي الذي تجاوزني حالا لم يقولها، ممكن يكون سب الدين أو ذكر أمي.. او اخترع شتيمة خاصة ومناسبة، لاسيما؛ وانني في نفس اللحظة، قد أكون سببت الدين أو ذكرت ام مطبخ الكشري وشارعنا وسائق التوك توك المُتلكع، الذي مر منذ قليل بطيء يتمخطر.. علي اي حال؛ قدر ولطف..

وقفت أعلي رصيف المنتصف للشارع العمومي آخذ انفاسي وأُفيق من الخضه، كنت سأروح فيها حالا تحت عجلات التاكسي، لكن ربنا ستر. لهذا، تلفت يمينا وشمالا قبل أن اعبر الجهة الأخرى من الطريق، لكن شهاب حسني لم يكن شهابا بالمرة؛ بقيت كلماته عالقة في دماغي.. في كل الأماكن.. هواك فيا ساكن.....

خرجت لها (برا) كما عازتني لنُظبط مواعيد الحصص، وفي يدي قطعة ورق مقوى مستطيلية، كُتب علي وجه منها: مكتب الأصدقاء للآلة الكاتبة.. ش كذا كذا رقم كذا، وبالطبع رقم تليفون ارضي، وعلي وجهها الاخر ارتصت مربعات بعدد ايام الشهر لتحديد الحصص، رددت الباب علي البنت في الداخل، وكانت هي قد جلست خلف مكتبهم بالصالة، فأعطيتها كارت المتابعة..

-       انا قلت اطلع اشوفك لتكون مُت وللا حاجه.. خصوصا لما صوت المكن وقف.

-       لا والله.. كنا بندردش شويه..

أصل البنت المكسوفة بالداخل، لها حوالي اسبوعين أو أكثر كل ما تشوفني تتنح وتنكسف، ثم ترتعش، وتحط عينها في الارض.. وكلام في سِركم؛ لم يحدث لي من قبل أن عاملتني بنت بهذه الطريقة، بالعكس؛ كنت أنا الذي يُتنح وينكسف، ثم يرتعش، وينزل عينيه للارض.. كلما بصصتُ لواحدة من بنات حواء..

ولما كنت من حوالي اسبوعين أو اكثر متخاصم معها هي؛ فشختني حالة البنت المكسوفة، وقلت في نفسي: ابسط يا عم.. والعب.. وانجعص.. وعيش اللحظة... خاصة وإن خصامنا كان بدري قوي، لم يمر علي مصارحتي لها سوى ايام:

-       انت متعرفش اني مخطوبه..

-       عارف.

-       انت متعرفش اني اكبر منك..

-       عارف.

-       طب متعرفش انك اهبل...

-       عارف.

طبطبت عليا وقبلتني علي خدي، وبعد معاهدة سينمائية بيننا علي ان نستمر في الحب الي ان يقضي الله امرا كان مفعولا.. تخاصمنا، فقلت اغيظها بصاحبتنا المكسوفة..

ومن جانبها، لم تُكذب خبر؛ تركتني يومين العب وفي النهاية صعدت تجر ناعم كما ترون.. نتشت كارت المتابعة من يدي، وبعد هات وخذ، وقيل وقال.. لعبت في التسجيل فوق المكتب وحطت شريط، ثم لانت، وقلبت الكارت لتكتب كلمات اغنية شهاب الشغالة بيننا..

بوووم...

اخرجت كارت متابعة جديد من درج المكتب، وكتبت عليه اسمي ودونت بعض الحصص، ثم اعطتني الكارتين وهي تضحك.. (اصلي عارفة انك اهبل)..؛ وفعلا، كان ممكن اغلط بسهولة واطلع الكارت المكتوب عليه قدام اخوها؛ صاحب المكتب.. خاصة وقد وقعت باسمها بعد (حبيبتك) اسفل كلمات الاغنية.

-       خلاص.. هنزل اتشطف واطلع لك..

نزلت، فدخلت مرة للمكسوفة وعلي وجهى انشكاح عجيب، فوجدتها مُذبهلة أمام ماكينتها.. اي والله مُذبهلة، ويكأنها تنتظر عودتي، سحبت الكرسي لجانبها، لكنها نطرت نفسها فجأة ولملمت اشيائها وهي تجري.

شعرت بالدنيا تسود من حولي، ولم احس بنفسي الا وانا مُمدد فوق سرير والم رهيب في ضلوعي وعيني اليمين مقفولة تقريبا، ورائحة الدماء واليود تنزُ من كياني.. ثم جاء في تقرير المستشفي: (وقد تبين أن المُصاب يعاني من ادعاء حادث سيارة، وبالكشف الطبي الظاهري تبين وجود كدمه بمفصل اليد اليسري وجرح قطعي حوالي 4سم فوق العين اليمنى..).

وبعد أن خيطوني، وجبسوني، وتعددت مشاويري مع المحامي للمحكة.. قابلني علي قهوة كانت مشغلة اغاني تسعيني أيضا وأعطاني صورة من مذكرة دفاع الخصم: ................. (وكان الثابت بالاوراق أن المجني عليه قام بالاسراع في محاولة عبور الطريق دون تبصر للسيارات وأخطأ في التقدير بأن قطع الطريق علي المتهم، لذا نلتمس من عدالة المحكمة القضاء ببراءة المتهم من ما هو منسوب اليه لاستغراق خطأ المجني عليه خطأ المتهم إن وجد..).

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص وروائي مصري 

مقالات من نفس القسم