تسيرُ في ثناياه قطعان الأنعام جذلى وهي مُحاطة بترانيم الطيور وبخرير السواقي ، إنه لعالم طاهر ينأى بنفسه عن عالم الحضارة الفاسد ، و يُرتّب الدهر كأنه الحياة الهانئة أو ” الأم الرّبيع” ليهيِّأ الكلأ الغض للسعداء وحدهم، وبما رحُبت تلك التّلال والوديان هي في غمرة سعادة وهدأة سكون وطهر، في خضم ريف عظيم الجمال، و يا له من منظر مُستعاد مُستل من ذكرى أيام خوالي ؛ عندما تعود الأنعام للتجلي من كل إشراقة ليوم جديد ، إنهن بقرات و جواميس حوطة ونذير حوَالي الوادي النّظير، الكل ينهل من غض وخشاش البر ما كُتب له أن ينهل.
إنّ في ممشى الراعيين تجليات طُمأنينة أبدية مصدرها صيحات الجواميس أينما شقّت الدروب بحثا عن المزيد ، بيد أن نسيم الواد الذي أحرق شوق الراعيين الجَارَين، الهافي بهما إلى الغفو في سلم وهناء دائم مع كل مضرب يشقّانه عبر الممرات الضيقة تلك، والمنحدرات المعشوشبة المغدقة بالرطب الوفير. و يعز على الراعيين التماس الرّعي بعيدا عن ضِفاف الوادي أو حتى توجيه القطيع، بعد أن عرف كلٌ نشوة الربيع في ذاته. [..] وفجأة… تتلبد السّماء وبسرعة البرق تتهاطل الأمطار مثلما لم تتهاطل من قبل، فتسيل المجاري وتمتلئ الحفر و الرّوابي مياهﹰ و يفيض الوادي الخصيب رويدا رويدا، ويساور القلق الراعي الشاب الغريب عن القرية : و هو راعي جواميس أحضرها له قريب له من أوروبا، واكترى له مزرعة قرب راعِﹺ كهل متمرّس في حرفته و أوصاه عليه، حتى يتعلم منه ويصنع مستقبله ، ويغتنم حسن صنيع قريبه بالإحسان وحُسن الجيرة.
بيد أن كل شيء لم يراد له أن يسير كما كان يُأمل ففي رمشة عين يفقد الراعي المسكين خمس جواميس دفعة واحدة ، والتي يبدو أنها لم تتعود على رعي الوديان حيث استأمنت فيضان الوادي برغم المياه المتراكضة نحوها كشلال متدفق.. وأخيرا نفرت لكن بعد فوات الأوان ونفر معها صاحبها لكن الوقت كان قد فاته هو الآخر؛ انزلاق التربة بها كان أمرا مؤكدا إذْ حاصرت الجواميس المياه و زاد زلقها إلى حتفها ، بينما استطاع الراعي الكهل إنقاض باقي جواميس صديقه بفضل حنكتهِ وحُسن تدبيره ، فقد كان يسُوقها باتجاه الحصى كي لا تنزلق وتهوي إلى المياه فتجرفها كما جرفت غيرها.
وبعد أن سكنت العاصفة شكر الراعي الشّاب صنيع صديقه الكهل وخجل كثيرا لعدم قدرته على حماية قطيعه؛ “تلك طريقة يندى لها جبين كل ريفي يقول أنا راعي”، فندم على التفريط وأنَّب نفسه كثيراﹰ غير أن جاره “الراعي الكهل” ذو الخبرة في مقارعة الكوارث والنّكبات وساه مُخففاﹰ من مُصابه، مُرجعاﹰ كل ما حدث إلى عدم تعوُّد الجاموس على تلك الأماكن ونصحه بضرورة الرعي قرب الوديان والمنخفضات لأنها خصبة جداﹰ في مثل هذه الأوقات ، وعليه عدم اليأس ، كما نصحه بالمثابرة في تعويد جاموسه على الوديان حتى إذا تكاثرت جسأت أقدام نسلِها وصارت على عهد بتلك الدروب القاسية، وأيامها الشتوية الضّنكة.
وفي اليوم الموالي لمّا كان ما كان من أمر ذلك الرّاعي الغريب والمسكين في ذلك الواد المُحيّر المُلغز بدءا بالتنقيب الحثيث في كل زاوية وشق و رافد عن جثث الجاموس المجرُوف دون أن يجدا له من أثر، فراودتهما شكوك أن تكون غاصت في اليم أسفل الوادي فتشّجعا وغاصا في اليَم ذات يوم رائق ليبددا شكوكاﹰ كانت تؤرقانهما. لكن ما فتأت الشكوك تتأكد وبدأ معها لغز محير يُضني فؤاديهما، فأين اختفت جثث الجواميس الخمس أم أن الأرض إنشقت و بلعتها؟
في غمرة القلق والارتباك المتصل هذا الذي حلّ بالراعي الكهل ذو المراس منذ عقود، قرر أن ينجو بجلده بمجرد أن شمّ رائحة شر غير بشري؛ فلاَ هي البقرات نُهشت من قِبل الذئاب والضباع و لا هي دُفنت تحت الأوحال..! فعلاﹰ.. قرّر بعد تفكير طويل أن يهجر هذا الوادي المسكون إلى المرتفعات البعيدة حيث القمم المكسوة بخضرة الحشائش الكثيفة، وجوانب الجبال مزدانة بألوان من شجيرات السفانا وشجيرات “الطاقة”.
وبلغ من أمر الراعي الكهل ما بلغ رجاءاﹰ في الشّفاء من لغزهِ المُحير، وإذ به وهو في أحد الأيام ينتشي سعادة فُرص قرضِ بقراته للذيذ الكلأ هنا وهناك، فوق روابي معشوشبة تطل على الوهاد والمنخفضات ينتابه فجأة إحساس نكد متبوع بخوف غير مسبوق ، بل رجفة تبعها نباح كلاب الرعي وهي تشير مع صهيل الحمار إلى أعلى التَّلة التي يسْرح فيها القطيع بعيدا عن الناس، وكان النباح والصهيل شديداﹰ سرعان ما لبث أن استحال أنينا وخوفا مُريب ومريع من مجهول يترصد الأجواء.
و[…]! إستمر أنين الحيوان في ذهول و هو متسمرا كالسهم مُشيراﹰ إلى الرّبوة، إلى ذُروة الرّبوة الخضراء في قمة الجبل حيث اتجه الراعي مضطرا وبخطوات ثابتة، ولكم كانت صعقته هائلة ودهشته مُريعة لدرجة عُقد فيها لسانه وإصفر وجهه و إمتقع و ارتعدت فرائسه وشُلّت قدماه وكاد أن يسقط مغشيا عليه لو لم يكن برفقة كلبيْهِ لفرَّ هارباﹰ أو سقط مغشياﹰ عليه ؛ إنه لمنظر مُريب وعجيب : هياكل خمس جواميس مُصطفة بانتظام في ذروة الربوة وأعناقها ممدودة مشدودة إلى اتجاه واحد.. ” – قدرة غير بشرية تلك ، ما الذي أصعدها إلى هنا.. أم تكون.. أم ماذا..؟” تساءل الراعي وهو واقف شارد الذّهن كالممسُوس.
وفي لحظات لعن العزلة وتعوّذ منها وحلف بأغلظ الايمان بهجرة تلك الأماكن المسكونة وفرّ مسرعاﹰ في اليوم الموالي إلى فقيه القرية فأُخبِر من لدنه، بعد أن قصّ عليه خبر الجواميس الخمس : ” إن الخمس جاموسات الافرنجية تكون بأدنى شك خمس أرواح شريرة.. خمسىة من الجن… خمسة أشباح …خمسة…خمسة …” وتصاعد صوتي حينها رويدا رويد مردداﹰ ورائه : “خمسة ..خمسة.. خمسة” حتى سمعني جميع من كان في الدار؛ لقد كنت أتلخبط في فراشي كالممسوس خارجاﹰ من حلُمِﹺ رهيب ، فما أشينه من نوم، نوم الساعة الخامسة.
……………….
*– يتنبأ الكاتب في هذا النص – وقد حرّر مسودته في 28 ديسمبر 2010- بأحداث الربيع العربي التي أودت ب5 رؤساء عرب.