عبد العزيز دياب
رجل رث ورجل أنيق
ربما كانت مصادفةً أن يمشى رجلٌ رث بجوار رجل أنيق… ربما.
لم يكن الرجل الرث بكل ما يتمتع به من رثاثة يقصد ذلك، هو فقط حك ذقنه دهشةً، أو رهبةً، أو حبورًا عندما اكتشف خطو رجل أنيق بجواره، أو خَطْوَه بجوار رجل أنيق، هو فقط حدث نفسه الأمارة باليأس بكلمات باهتة لا تحمل أي معنى، كلمات غير مكتملة، مهروسة أو متآكلة الحواف.
يا له من رجل أنيق، تساءل الرجل الرث وهو يبدأ أول خطاه: كيف حدث ذلك التزامن الفطري ما بين خطاي وخطى رجل أنيق؟
سمع الرجل- الرجل الرث طبعا- همسًا وقهقهات عالية، كان الهمس مجموعة تساؤلات مركبة، متشابكة، تضيع كلها في زحمة الغموض، عدا سؤالا واحدًا هو الذى طفا على بركة تحيرها، كان بازغًا، ناصعًا، مضيئًا: وهل ولِدَ الرجل الأنيق أنيقًا؟؟
أما القهقهات فكانت: قه قه… قهقهقهقه.
أيا كانت القهقهات وأيا كان الهمس، فقد لاحظ الرجل الرث وهو يبدأ أول خطاه بجوار رجل أنيق احتجاج الكلاب الضالة في جوف الشوارع الساكنة بنوبات نباح شرسة، متواصلة، امتزج النباح بالقهقهات: هوهو… قهقه…عوعو… قهقه…
“ليس هذا نباح كلاب إنما هو نهيق حمير… وهذا لا يعنى أن أذني مليئة بالوسخ”، هكذا فكر الرجل الرث.
الرجل الأنيق كان في مقتبل العمر، أو هكذا يبدو، فالعالم مليء بالخداع، المهم أنه كان يمضي غير مَعْنِى بشيء، لكنه كان يلتفت متوجسًا إلى الرجل الرث الذى أصبح يمشى بحذائه، حدث نفسه: من يدرى… ربما اتخذته خادمًا”، كان مستسلما لِدَوِى غامض للريح التي تهب وتحمل صرخات استغاثة، أو نوبات توسل تأتى من هنا أو من هناك توصيه خيرًا برجلٍ رثٍ.
رجل أنيق يخيل إلينا أنه في مقتبل العمر يمشى وعن يمينه جنات من نخيل وأعناب، وعن شماله أنهر ثلاثة: نهر لبن، ونهر خمر، ونهر عسل مصفى، تجاوز في مشيه ساعة ظهيرة حامية البنايات العجوز، والنفايات، وأصحاب العاهات، والمتسولين، والمتسولات، رغم الضجيج وكلاكسات السيارات، لم يلتفت للخلف، عنقه مستقيم، يستطيل فقط لأعلى وعيناه مفعمتان بالتحقق، تمتد ذراعه فيمسك بالطير السابحات، يحملها على كفه كقديس يوشوشها، توميء له وتسافر، خطاه محظوظة، لا يمشى كما يمشى الآخرون، خطوة واحدة تنقله من شارع إلى شارع ومن بلد إلى بلد.
رجل رث يمشى بحذاء رجل أنيق تعوقه الشيخوخة وخرفشات صدره المثقل بأنفاس التبغ، وعوادم المركبات، عن يمينه المرض وعن يساره الجنون والمجون وخمسة عيال كانوا يمسكون بملابسه، أدرك أنه قد يتأخر عن الرجل الأنيق فتخفف منهم: رمى اثنان في البحر، ورمى ثلاثة تحت عجلات شاحنة رشيقة، كادت الحمير أن تعلن عن زهقها، لكنها ألجمت أفواهها، كفت عن نهيقها، تخفف كذلك من هدومه، خلع الجاكت البنى الكالح، شعر أنه بحاجة على المزيد، فتخفف من قميصه الطوبى القمىء، ومن بنطلونه الأجرب.
“قه… قه، عو..عو”
انتهى به الأمر أن تخفف حتى من ملابسه الداخلية، ومن مداسه، صار كيوم ولدته أمه، اكتفت الحمير بالصوت المباغت القبيح لهواء يخرج من دبرها وهى ترفس.
هذه اللحظة رآه الرجل الأنيق، ورآه الآخرون: المشاة، وأصحاب الحوانيت، والباعة الجائلين، لم ينزعج أي واحد لعريه، بل احتفوا به وصافحوه كرجل أنيق يمشى عن يمينه جنات من نخيل وأعناب، وعن شماله ثلاثة أنهر: نهر لبن، ونهر خمر، ونهر عسل مصفى.
قال لنفسه لابد أنها خدعة، لكنه عندما نظر إلى نفسه كان قد اكتسى ببدلة أنيقة، يمشى كرجل أنيق إلى أن يلحق به رجل آخر رث، يتخفف من سرب عياله من كل ملابسه حتى يصير عاريًا كيوم ولدته أمه.
***
مرسوم كفاكاوي
لم يكن بمقدور السيد “فرنز كافكا” أن يحدد صاحب اليد التي سحبت جسده الأهيف وأجلسته على كرسي عرش ملكي، خطفته كما تخطف يد القدر الروح من الجسد، وجد أن الحرس. الجنود. الحاشية يحفونه في البهو الواسع، جاءه صوت غليظٌ له دوى أحدث ذبذبات هائلة: أنت هذه الساعة ملكًا… ملكككاااااا.
ساعة لا ينبغي أن يكون فيها كرسي المملكة- كما تصور أحد الحكماء- شاغرًا-بهدف تماسك المملكة- حسب معتقد قديم- إلى أن يتم تنصيب ولى العهد ملكًا.
قالوا أول شخص يمر أمام القصر هو من يستحق الجلوس على كرسي العرش هذه الساعة، فكان السيد “فرنز كافكا” يمر هائمًا، يشحذ قريحته ربما لكتابة قصة قصيرة، في الخلفية كانت قهقهات تتناوب وراء بعضها كموج البحر، تلفت عَلَّه يستطيع تحديد مكانها، ألبسوه بدلة التشريفة، والتاج على رأسه من الذهب الخالص، والصولجان بيمينه، وهو يردد: يا عالم أنا لا أصلح لهذه الوظيفة.
جاءه صوت يلومه برقة فقد أصبح بالفعل هو الملك: أتعتبرها وظيفة؟!
بحث عن صاحب هذا الصوت ليقدم اعتذاره: أقصد أنني لا أصلح لهذه المهمة سواء كانت ساعة واحدة، أو كنت سأشغلها طوال حياتي، أنا فقط أكتب القصص والروايات.
كان ذلك الحدث بحسب ما جاء في مذكرات السيد “فرانز كافكا” المجهولة- أعرف أن ذلك سيكون صدمة للجميع- التي تم العثور عليها مؤخرًا في أحد الكهوف- ولَدَىَّ الشهود على ذلك- بجبل “بترين”، ولا تختلف هذه المذكرات مع نسخة المذكرات التي أودعها لدى صديقته “ميلينا” ويُحْتَفَظْ بها الآن بمكتبة “جامعة أوكسفورد”، لا تتناقض أو تتقاطع معها بأي شكل من الأشكال، إنما هي تتوازى في الأحداث معها، وإن كان ذلك بشكل مختلف، ربما كانت هي الوجه الآخر الميتافيزيقي لها.
لم يتوقع السيد فرنز كافكا أن يكون ملكًا لمدة ساعة واحدة، تأمل الحرس، والوزراء والحاشية، سأل باهتمام بالغ: أنا الآن ملكًا؟؟
أجابته صَيْحَةُ الحرس العفية عند أقواس البهو الملكي، قهقه من هم في حضرته، هو لا يدري إن كان ذلك سخرية أم أنه شيء طبيعي أن يقهقه الحرس والوزراء والحاشية في حضرة ملك، حاول أن يقنع نفسه بأنه في حلم، كل ما شعر به تلك اللحظة أنه خارج الزمان والمكان، أشار لصاحب اليد التي خطفته في البداية وأجلسته على كرسي العرش، قال: إليكم قراري الملكي.
الملك- المتوج لمدة ساعة- بدأ يمارس مهامه الملكية، مع دهشة من هم في حضرته من الوزراء والحرس والحاشية، يريد أن تُسَجَّلْ هذه الساعة من حُكْمِه في تاريخ البلاد، هكذا اعتقدوا وتهامسوا.
أعتمد قرارًا ملكيًا بمقتضاه يمثل المدعو “كافكا” للتحقيق معه بشأن ما اقترفت يداه من كتابات لم تكن خالصة لوجه الكتابة نفسها، كان الهمس الذي دار بين الحضور أكثر ضجة من قرع الطبول، أوضح الملك “فرنز كافكا”، قال: كتابات المدعو “كافكا” يا سادة ما هي إلا شفرات ينبغي البحث وراءها وحولها، أمامها وخلفها، ربما كانت في داخلها فَضْحٌ لأسرار هذا الوطن، هي شفرات يا سادة تتضمنها على سبيل المثال قصة “شعار المدينة”، وقصة “خبطة على بوابة السّراي”، وقصة “في الحلبة”، وغيرها من أعماله السردية التي ينبغي التحقيق معه بشأنها.
تسلم كبير الشرطة الأمر الملكي، كلف رجاله بمهمة القبض على المدعو “كافكا” قبل أن تنتهي الساعة، بالفعل مَثُلَ المدعو “كافكا” أمام الملك “فرانز كافكا”، أمر بأن يساق للتحقيق معه بشأن ما هو منسوب إليه حسب القرار الملكي، كان يشيعه بقهقهات مجنونة ساخرة لا يعرفها إلا أمثاله أهل الكتابة والأدب.
مضت الساعة الملكية للسيد “فرانز كافكا”، لم يعد بعدها ملكًا، مضى إلى حال سبيله وكأنه ما جلس على عرش هذه المملكة، حتى لو كان ذلك لمدة ساعة واحدة، أما المدعو “كافكا” المتهم والمحال للتحقيق كان يتم استجوابه بشكل بشع بعد أن سحبه حارسان في طرقات رطبة ومعتمة، تتفرع إلى طرقات أشد رطوبة وأشد عتمة، ظل الحارسان ينحرفان به يمينًا وشمالًا إلى أن استقر بهم المقام في قبو ضيق أكثر رطوبة وعتمة يسأله شخص لا يراه عما هو منسوب إليه، في البداية أتعب “كافكا” رجل التحقيق، وأتعب رجل التحقيق كافكا بوسائل لا تخفى على الكثيرين، وكانت براءة المدعو كافكا واضحة جلية، أثبت التحقيق أن كتاباته هي لوجه الكتابة نفسها، لا أكثر من ذلك.
حالة من التوجس لازمت المحقق، رغم إطلاق سراح المدعو كافكا، لم يستطع أن يخرج منها إلا بعد أن أمر بخمسين جلدة لكتبه.
بمجرد أن غادر “كافكا” بوابة القصر الملكي كانت في انتظاره أسماء كثيرة من السابقين واللاحقين: ماركيز. نجيب محفوظ. إيتالو كالفينو. خوان خوسيه مياس…، تأملهم في ذهول ودهشة، تجاهل نداءهم له، أطلق لساقيه العنان غير مصدق أنه تم إطلاق سراحه، فيما كانت طرقعات السياط على كُتِبِه هناك في القبو العميق المظلم شرسة وقاسية، تطارده ويشعر معها بالألم الرهيب، في الوقت الذى تأتيه قهقهات ساخرة للسيد “فرانز كافكا” الذى كان ملكًا.
ورد ذلك الحدث بتاريخ 19 أكتوبر 1921م ضمن نسخة المذكرات التي عُثِرَ عليها بكهف جبل “بترين”، تلك المذكرات التي أخذت على عاتقي- أنا الراوي- أن أجمع نسخها- دون أن يكون في ذهني هدف واضح لذلك- التي لا تزال في حيز ضيق ولم تتناثر بعد.
***
حلم
لا ينبغي أن يطلق أي واحد على الرجل كلمة عجوز، لأنه سيتحول في عين الصغير إلى فارس، قد يكون صلاح الدين، أو بيبرس، أو قطز، يغزو هذه الحجرة الضيقة، الحجرة التي لم تعد عامرة بأيقونات الجدة وتمائمها، بعد أن شيعها إلى مثواها الأخير وربت بكفه على القبو: المفتاح… المفتاح يا امرأة…..
وقف أمام صورتها ثلاثة أيام وهو يطلب منها المفتاح، دون أن يلقى بالا لدهشة كل من حوله، أصابه القنوط وكانوا قد اعتادوا وقفته المثالية أمام الصورة، حتى أنهم أيقظوه ضاحكين عندما تأخر نائمًا بأن وراءه صورة ينبغي الحديث معها.
سينام ويشخر، يحلم بأن المفتاح صار بحوزته، بعد أن جاءت الجدة متعبة، أخرجته من بين تمائمها، وضعته في كفه، كانت تود أن تقول له شيئا، وهو لم يطلب منها أن يجلسًا سويًا ليشربا الشاي بالنعناع، كان يغنى ” الحلوة دي قامت تعجن في البدرية….”، آخر مرة قذفت بِحُقْ النشوق في عرض الشارع، وأشعلت واحدة من سجائره، كان المفتاح سخيًا في كفه وهو يقول لها اذهبي يا امرأة إلى من حيث أتيت.
لم يغادر حلمه بعد عندما جاء الصغير بالمقص، يهذب الشعيرات النافرة بشاربيه، في مخيلته صورة أحمد مظهر، لن يستطيع الجد بعد الخطأ الجسيم، بعد أن أصبح بلا شاربين أن يلحق بمعركة حطين، نام الصغير على صدره قبل أن يمنحه أناقة أحمد مظهر، لكن صرخة الرجل أقلقت الجدة في نومتها الأخيرة لأن فردة من شاربيه ضاعت، كما يضيع مفتاح قديم بحجم كبير بين تمائم وأحجبة ولفافات.
يحتاج الرجل الآن شهرًا كاملا لينمو عنده شاربا أحمد مظهر، ويكون له حلم آخر، وينام الصغير على صدره نومته القديمة، حين يكون المقص بيدي، يدي التي لابد أن تتخلى عن رعشتها وهي تهذب شاربيه.