النوم في حقل الجماجم.. قراءة في رواية “النوم في حقل الكرز”

النوم في حقل الكرز
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ميثم سلمان
في نص يغلب عليه طابع السخرية السوداء يأخذنا بطل رواية “النوم في حقل الكرز” للكاتب أزهر جرجيس في رحلة تتخللها ذكريات وكوابيس وأوهام وتجارب مهاجر عراقي في بلاد الثلج/النرويج. في هذه الرواية، التي رشحت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية في دورتها الأخيرة، هناك تداخل مدروس بين الواقع والخيال، ولا يفهم هذا التداخل إلا وفق مفاتيح معينة يبثها الراوي هنا وهناك. المفتاح الأهم هو تعاطي سعيد ينسين /الشخصية المحورية عقار طبي. لكن من التأثيرات الجابنية لهذا العلاج هي ارتفاع نسبة التوهم والهلوسة عند من يتعاطاه. وهذا العقار يكون السبب في حدوث فاجعة لم يكن يتوقعها القارئ في نهاية الرواية.
تبدأ الرواية بتوطئة سريعة على لسان الراوي الأول/المترجم ثم يختفي. تكون مهمته هي تقديم نص الرواية الذي يترجمه من النرويجية الى العربية والذي سنقرأه فيما بعد.
نعرف من هذه التوطئة أن خطأ ((وقع فيه ساعي البريد)) الرواية ص7، قاده لأن يتعرف على مديرة تحرير جريدة نرويجية تحتفظ برواية مكتوبة باللغة النرويجية لكاتب عراقي لاجئ، لذا تطلب من المترجم أن يترجمها للعربية. فهي تؤكد على “أن حكاية سعيد ينسين هذه، ينبغي أن يقرأها أبناء لغته قبل غيرهم، لأن فيها مافيها” الرواية ص9. ثم يعود المترجم للظهور مرة ثانية في نهاية الرواية في خاتمة سريعة جدا تخبرنا عن ما حدث لكاتب الرواية بعد الانتهاء من الكتابة “عُثر فوق منضدة الكتابة على رواية مخطوطة، كان سعيد ينسين قد فرغ منها ..” الرواية ص221.
بعد توطئة المترجم تبدأ أحداث الحكاية التي يسردها علينا بصيغة الأنا سعيد/الراوي الثاني/الشخصية المحورية.
وهنا يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال: لماذا لم تكن هناك محاولة من قبل المترجم للاتصال بمؤلف الرواية في السنين السابقة للترجمة؟ خصوصا وهو، المترجم، يقول في التوطئة إنه يعرف سعد ينسين جيدا وكان قد قام بترجمة العديد من القصص له. مبررات هذا التساؤل مشروعة كون المترجم/الراوي الأول وبطل الرواية/الراوي الثاني ينحدران من نفس البلد ولهما اهتمامات أدبية مشتركة ويعيشان في ذات المدينة في زمن واحد:
– تاريخ كتابة الرواية على يدي الراوي الثاني هو الثامن من تموز عام 2005 في أوسلو
– المترجم ترجم الرواية خلال عامين ليتمها عام 2010 في أوسلو
حسب كتاب “الفضاءات القادمة، الطريق إلى بعد ما بعد الحداثة” للباحثين معن الطائي وأماني أبو رحمة أن من بين تقنيات السرد ما بعد الحداثي هي: “السخرية واللعب والتهكم والسخرية السوداء والتشتت والتقطيع والتناقض والمعارضة الأدبية وكسر الزمنية وتضمين أنماط كتابية لم يكن متعارفا على وجودها ضمن السرد الروائي.” ص125. تأسيسا على ذلك يمكن اعتبار أن رواية (النوم في حقل الكرز) هي رواية ما بعد حداثية كونها تستثمر تقنيات السخرية السوداء والتهكم والتقطيع وكسر الزمنية. إضافة لتوظيفها تقنية ما وراء السرد في بناء الرواية. وتعريف هذا المصطلح الذي يرتبط بمرحلة ما بعد الحداثة وفق ليندا هتشوش هو “رواية عن الرواية، أي الرواية التي تتضمن تعليقا على سردها وهويتها” الفضاءات القادمة ص127. ومن المعروف أن ما وراء السرد (الميتافكشن) كان قد شاع في النصف الثاني من القرن العشرين وارتبط بمرحلة ما بعد الحداثة التي انتهت في تسعينيات القرن الماضي.
وظفت رواية “النوم في حقل الكرز” هذه التقنية الفنية من خلال وجود راو أول/المترجم يحدثنا عن الرواية التي يسردها راو ثان. فتكون لدينا حكايتان: حكاية هامشية عن المترجم وحكاية رئيسية (مخطوطة) عن سعيد مردان/ينسين.
سعيد ينسين لم يغادر النرويج إلى بغداد (فالزمن مابين ذهابه المفترض الى بغداد/خيال والانتهاء من كتابة الرواية/واقع هو يومان فقط، السابع والثامن من تموز عام 2005) إلا أنه يأخذنا من خلال هلوساته الى بغداد من نفس العام. في هذه الصورة الوهمية يذهب البطل الى بغداد لاستلام رفاة أبيه المعلم الشيوعي والذي دفنه حيا عناصر النظام البعثي في مقبرة جماعة قبل سبعة وثلاثين عاما. وهو عمر الراوي تقريبا حيث أن الأب اختفى بعد ثلاثة أشهر من زواجه من الأم.
هنا أعتقد أنه بالإمكان فهم قضية تناول الكاتب للمقابر الجماعية رمزيا. فكما هو معروف أن لا مقابر جماعية حدثت خلال نظام البعث أثناء حكم أحمد حسن البكر بل بدأت في زمن صدام حسين. تحدثتنا عبير، صديقة سعيد ينسين، عن “أكبر مقبرة عُثر عليها بعد سقوط النظام 2003م. قالت بأنها تقع في قرية أبو سديرة التي لا تبعد سوى بضعة أميال عن مدينة بابل التاريخية. وتضمّ بين أحضانها ألفين وثماني مائة جثة، لضحايا تم دفنهم بشكل جماعي في عام 1991م. كانت الجثث متفسخة تماما، لم يبق منها سوى الجماجم والعظام ونتف الشعر، والخرق البالية” الرواية ص184. ولم تنتهي المجازر بحق الشعب العراقي حتى بعد سقوط النظام.
بمعنى أن المقبرة الجماعية في هذا النص هي رمز للطغيان بأفضع صوره والتي بدأت سلسلته عندما هيمن النظام البعثي على حكم العراق عام 1968. كانت هناك تصفيات واعتقالات وتعذيب لكن لم تصل الى درجة المقبرة الجماعة.
هؤلاء الذين دفنوا في هذه المقابر لديهم حيواتهم وذكرياتهم وأحلامهم وهمومهم الجديرة بأن يكتب عنها الكثير من القصص والروايات. بل يجب أن يكتب عنها بعمق أكثر وتحليل اللحظة التاريخية التي حدثت فيها كل مقبرة جماعية في العراق لنتعلم من الدرس القاسي. وليدرك العالم، خصوصا العربي منه، مدى قسوة النظام الذي حكم العراق منذ عام 1968 الى عام 2003. وهذا لا يعني طبعا تبرأة النظام الحاكم الحالي، وأن بغداد قد (تحولت إلى جنة) بعد سقوط النظام كما يتهكم بطل الرواية. لكن حقيقة وجود الطغيان اليوم في ظل حكم الأحزاب الإسلامية وما يعارضهم من جماعات إسلامية مسلحة لا يجوز أن يدعو لتجميل قبح ساحة نظام الأمس. فقصور الطاغية صدام، كما يقول الراوي الثاني، “وبيوته ومقارّ حزبه وأوكار تابعيه، فقد تحولت إلى قصور طغاةٍ صغار وأوكار تابعين خدّج ومقار حزبية مباركة… آه يا أبي! إن الظلام الذي كنتَ، بصحبة رفاقك، تحاولون إيقاد شمعة لتبديده، مازال يغلّف البلاد ويحيط بأكتارها. مازال ذاك الظلام حاكما…” الرواية ص209. نعم سقط النظام، لكن لم يسقط الظلم. فقد تعدد القتلة والعراق واحد.
هذه الرواية تسلط الضوء على حياة أحد أبناء هؤلاء الضحايا. تتناول التأثر الكبير أو الانعطافة التاريخية التي حدثت في حياة الزوجة والابن بعد اختفاء الأب. فجاءت الرواية لتبث الحياة مجددا بروح الأب بعد أن عامله نظام الحكم على أنه مجرد رقم في حزب مناوئ. كان سعيد يطمح أن يمنح أباه قبرا يليق به وشاهدة قبر تحمل اسمه لحفظ ذكراه لكن الأهوال المتنوعة التي تعصف بالعراق دائما حالت دون ذلك لتبقى هلوسات سعيد وكوابيسه وآلامه ناشطة.
محظوظ من تنام جثته في حقل الكرز فهو قد يتحول إلى شجرة كرز كما يطمح بطل الرواية لكن ماذا عن أولئك الذين تنام جثثهم في مقبرة جماعية/حقل جماجم؟
………………….
*صدرت رواية النوم في حقل الكرز عن دار الرافدين/ بيروت عام 2019

مقالات من نفس القسم