موال غير المنتمين.. رواية الحكي السيّال والوهج الإيروتيكي والحشد التاريخي

موال غير المنتمين
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الكفراوي

أعادتني رواية “موال غير المنتمين” للكاتب الروائي كريم نور إلى فكرة الرواية الملحمية، ليس لأنها رواية ضخمة عبارة عن جزئين في 900 صفحة من القطع الكبير، لكن لما تتضمنه من أحداث تاريخية مهمة ومؤثرة في مجرى التاريخ، من ثورات وحركات احتجاجية وحروب ومعارك حربية وسياسية، وتنقل الكاتب بخفة وأريحية بين أماكن مختلفة ومتنوعة من حيث الأجواء النفسية أو الروحية أو الأوضاع السياسية، كما رصد تطور الموسيقى الجديدة في أوربا وأمريكا خلال الستينيات وما تلاها من عقود القرن العشرين، بالإضافة إلى التحليل الاجتماعي النقدي لثورة 23 يوليو وما ترتب عليها من آثار أطاحت بآمال وخطط ومشاريع عدد كبير من العائلات الأرستقراطية في مصر، في محاولة لتحقيق التوازن الاجتماعي بين الطبقات المختلفة، ليتضح بشكل كبير كيف أعادت الثورة تشكيل سيسيولوجيا المجتمع المصري، ربما لهذا السبب وضع الكاتب عنوانا فرعيا للرواية هو “قصة لم ترو عن ضياع الستينيات”.  

تتكون الرواية من ثلاثة مستويات في الحكي الذي يأتي متداعيا سيالا بلا توقف، كأنه حكاية ممتدة وقابلة للامتداد إلى ما لانهاية، المستوى الأول هو أرواق سهى دوس البطلة الخفية  التي تعيش في كندا حياة ميسورة مرفهة إلى حد كبير لكنها تعاني الوحدة والبرودة والفتور في معظم جوانب حياتها.

المستوى الثاني يتمثل في الراوي الذي يقوم بدوره شاب روائي أصدر كتابا ولم يحالفه الحظ في الاحتفاء به فوقع في دائرة الاحباط والعزلة وبدأ يبحث عن شغفه في مجال التكنولوجيا، ومن خلاله يطل الكاتب على الوسط الأدبي والثقافي ومفرداته وخباياه في وسط البلد.

المستوى الثالث وهو المستوى المركزي والأهم في الرواية هو “أوراق صادق شاكر دوس” البطل الحقيقي في هذا العمل، الذي يتجول في كل أركان العالم بحثا عن السعادة الحقيقية أو الحياة التي يحلم بأن يعيشها سعيدا مرتاحا بعد أن يشبع من العالم بكل ما فيه من متع ومفاجآت ومغامرات.

تبدأ الرواية بأوراق سهى دوس الشابة الجميلة التي تجاوزت الثلاثين، تعيش وحدها في كندا وتعمل في وظيفة مرموقة وتحصل على دخل محترم وتعيش حياة مرفهة لكنها في الواقع تعاني من الوحدة والرتابة في حياتها وتبحث عن سبيل للخروج من هذه الحياة المملة الرتيبة، وربما تجد الحل في الاتصال التليفوني الذي جاءها من والدتها ولم ترد عليه لكنها تجد رسالة من والدتها تخبرها بسرعة الحضور إليها لأمر هام، وحين تذهب إلى والدتها وزوجها تاجر الألماس الكبير تعرف أن والدها قد توفى وأن هناك شخصا يدعى نديم ينتظرها في باريس لكي ينهي معها مسألة الميراث.

تعيش سهى حياة جنسية منفتحة للغاية، بلا عقد الشرق وقواعده وعاداته، لديها صديقها الحميم الذي تعامله بمنطق القوة، فتطلبه وقتما تريده وتصرفه وقتما تريد الاختلاء بنفسها، حتى لو اضطرت لطرده في منتصف الليل، وتخوض تجارب بين حين وآخر مع من يعجبها من الشباب الذين تقابلهم وتعطيهم إشارات تشجيع، في مغامرات ربما لا تزيد عن الليلة الواحدة.

أما المستوى الثاني من الحكي، فيتمثل في الشاب الذي يعرفه الكاتب بأنه شاعر وقاص عرض أعماله على عشرات الكتاب والنقاد والمثقفين والناشرين في مقاهي وحانات وسط البلد دون جدوى، وحين يتوحد في حياته الخاصة الفقيرة جدا والمعدمة تقريبا بعد أن تم طرده من العمل في أحد فنادق الجيزة بحجة التحرش بسائحة، يأتي ابن خالته الذي يعمل في السياحة ويعطيه فرصة عمره للسفر إلى جزر المالديف مع مركب متجه إلى هناك وعليه عدد من الأشخاص سيقوم بدور المحاسب والمبرمج فيما بعد للمركب.

ومن خلال هذا المستوى يرصد الكاتب عالم الغوص تحت الماء، والهوس بهذه الرياضة وشهرة البعض بتصوير أفلام وثائقية تحت الماء.  

المستوى الثالث والأهم والمركزي في الرواية يأتي بعد أن تقرر سهى دوس التي تسافر على المركب نفسه إلى جزر المالديف للحصول على ميراثها أن تعطي هذا الشاب / الرواي أوراق والدها التي تتضمن مذكراته ورحلاته وصولاته وجولاته في كل أنحاء العالم، وذلك بعد أن عرفت أنه يكتب الأدب، ربما يستطيع أن يصيغها أو يخرج منها بعمل أدبي أو فني أو روائي أو حتى تكون مجرد مذكرات ولكنها دالة على العديد من الأحداث التي عايشها وعاصرها واشترك فيها صادق شاكر دوس.

تأتي القصة الرئيسية بداية من حدث موت الأب أحد أعيان أسيوط النائب في البرلمان شاكر دوس بعد عودته من بلدته أسيوط إلى القاهرة حيث يقيم ويعمل، يموت بأزمة قلبية غضبا بعد رفض أخوته بيع أراضيهم بعقود صورية للفلاحين حتى لا يصادرها الضباط الأحرار، وبعد رفض أخوته ووفاته حدث بالفعل أن تمت مصادرة أملاكهم كما توقع بالضبط، لتعاني العائلة من العوز والفاقة وتبحث عن سبل جديدة لكسب الرزق والعودة لحياة الثراء والرفاهية.

 الطفل صادق شاكر دوس الذي التحق بفيكتوريا كولدج قررت الأم والجدة أن يستثمرا في تعليمه حتى لو اضطرتا إلى بيع كل شيء يمتلكانه من حلي وأثاث، وبالفعل سافر لدراسة الحقوق في السربون، بينما تزوجت والدته من اللواء خالد صاحب المنصب المهم والمقرب من الضباط الأحرار، والذي يعقد صفقات السلاح مع دول الكتلة الشرقية.

في باريس تبدأ ملحمة صادق شاكر دوس الذي يتعرف على حياة جديدة وأجواء جديدة من إيفيت الطالبة الأناركية التي تعرفه على والدها البروفسير الكبير ووالدتها الكاتبة الصحفية والمحللة السياسية، ويبدأ صادق رحلة القراءة والتثقيف، يطلع على الفلسفات القديمة والحديثة مثل الوجودية والأناركية والشيوعية والماوية والتروتسكية وغيرها من الحركات التي انبثقت من سيولة المد الثوري في تلك الفترة، وينخرط البطل صادق في تنظيم أناركي رافض لكل نظام، ويظل لفترة معهم، ويتعرف من خلالهم على العديد من الأفكار والرؤى الجديدة التي يتبناها المجتمع الفرنسي والغربي عموما، ويشارك في مظاهرات الطلبة في 1968 التي ضمت كل الأطياف السياسية والفكرية في ذلك الوقت.

تبدأ الحياة الإيروتيكية الحقيقية لصادق الذي يخوض مغامرات عاطفية كثيرة ويقع في حب الكثير من الفتيات ويعاشر الكثيرات بشكل محسوب أو عشوائي، من منزل البروفسير والد صديقته إيفيت التي لم يرتبط معها بعلاقة وإنما استدرجته الأم في علاقة عابرة وشيقة وفوجئ بالأب يدخل عليهم في وقت العلاقة ولا يكترث بما يفعلون، بل يسأله سؤالا روتينيا “هل أنهيت الكتاب الذي أعطيته لك؟” ويعرف صادق أن العائلة منفتحة بشكل كبير على مسألة الجنس، وربما تكون هذه نقطة مهمة في فهمه لطبيعة الحياة في أوربا وتحديدا في أوساط النخبة.

ثم ينطلق صادق ليعمل محررا في مجلة تريد ترجمة مقالات من الشرق الأوسط خاصة مقالات هيكل إلى الفرنسية وكان من حظه أنه يجيد الفرنسية بطلاقة، وبالفعل بدأ ينخرط في أحداث الشرق الأوسط ويترجم المقالات ويدخل الكثير من المغامرات باعتباره صحفيا.

في باريس يتعرف صادق على الحياة من كل جوانبها، السهرات في الحانات، العلاقات العاطفية، الأفكار الفلسفية، السياسية، المدارس الفنية الجديدة، يساعده في ذلك الحياة المرفهة نسبيا التي وفرها له زوج والدته اللواء خالد.

ترصد الرواية حياة صادق من خلال أوراقه الشخصية التي تركها بعد وفاته وكأنها أشبه بحياة دون كيشوت، فهو يتجول هنا وهناك، يحارب طواحين الرياح، يتاجر في كل شئ، الآثار، السلاح، المخدرات، يتنقل بين دول أوربا الشرقية والغربية والشرق الأوسط، وكأنه بلا وعي يبحث عن المناطق الملتهبة في العالم ويتوجه إليها.

من خلال وجهة نظر صادق ترصد الرواية العديد من المظاهر الإيجابية والسلبية في فترة الستينيات على مستوى مصر والوطن العربي وأوربا منها مثلا حركة التأميم وهزيمة يونيو ومن قبل ذلك العدوان الثلاثي على مصر وما أدى إليه من تغيير معايير القوى والسيطرة على الشرق الأوسط، وخروج مصر ظافرة، لكن جاءت النكسة لتترك وجوما على كل الوجوه، ومن بعدها وفاة عبد الناصر وحركة التصحيح الساداتية ومحاولته طمس معالم النظام الناصري الذي ينتمي إليه اللواء خالد زوج والدة صادق.

بالتفاصيل الدقيقة وكأن القارئ جزء من الحدث يرصد الكاتب العديد من الأحداث الكبرى مثل حرب أكتوبر أو الانتصار المصري على الإسرائيليين في يوم كبور، كيفية توريد السلاح للمصريين وعلاقة الزعماء العرب بمصر، والجيش السوري ودوره في الحرب، والكثير من التفاصيل حتى الثغرة التي نفذ منها الجيش الاسرائيلي بدعم أمريكي، والتي اضطرت مصر للقبول بوقف النار والدخول في مفاوضات السلام بعد ذلك.

الجزء الأكبر والأهم والذي يتضح فيه أيضا سيولة الحكي، ورصد أدق التفاصيل يتمثل في الحرب الأهلية اللبنانية، والعداء الشديد بين الكتائب اللبنانية واللاجئين الفلسطينيين، واتهام الأنظمة العربية لهنري كيسنجر أنه يريد دفن القضية الفلسطينية في لبنان.

صفقات السلاح والمخدرات والعشق الإيروتيكي الصافي بين صادق وداليتا كان المدخل للحكي عن فترة بيروت وتفاصيل الحرب الأهلية والمشاحنات بل والمجازر التي ارتكبتها الكتائب في المخيمات الفلسطينية، واستغلال صادق وشركائه هذه الحرب الأهلية في توريد السلاح لكل الأطراف والاستفادة من تلك الحرب بقدر الإمكان.

الحياة الحاشدة الثرية التي عاشها صادق جعلته يقابل ويعرف شخصيات كثيرة مشهورة فقد جمعه لقاء مع القذافي، كما كان صديقا لعمر الشريف وداليدا وألبير قصيري والعديد من أعضاء الفرق الموسيقية الحديثة في أوربا الذين كانوا يحظون بشهرة واسعة .

في النهاية يموت صادق ليترك ابنه ماركو من عارضة الأزياء البرازيلية التي تزوجها لفترة ويترك سهى ابنته من داليتا المرأة اللبنانية التي وقع في غرامها، ويترك لهما ميراثا ضئيلا في دبي ولكن من جهة أخرى يترك لهما منزلا أو ربما جزيرة في المالديف يقرران الانتقال إليها وعيش حياة هادئة وصاخبة في الوقت نفسه، ثم العودة إلى الأسكندرية بعد مغامرات وحالة من الصخب الإيروتيكي بين سهى ونديم صديق والدها الراحل.

يأتي عنوان الرواية ليمنحها بعدا فلسفيا عميقا يشير إلى الفلسفة العدمية أو انعزال الإنسان عن الواقع الخارجي إلا بقدر ما يحتاجه لفهم نفسه والتصالح معها، وهو نموذج شهير في الأدب، أن يعيش الإنسان حياته خفيفا ببساطة ويسر دون التقيد بشروط الوجود أو الانتماء. النموذج الذي شرّحه كولن ولسن في كتابه النقدي المهم “اللامنتمي” والذي جسده ببراعة ألبير كامو في روايته “الغريب”.

وكأن الكاتب هنا يخلق حالة من التناص أو الإحالة إلى هذا النموذج الذي ربما ينطبق على البطل وهو صادق وينطبق أيضا على ابنته سهى وكذلك على الراوي.

الزمن في الرواية مراوغ والقفزات الزمنية التي تحدث بين حين وآخر تخلق حالة من التشويق، خاصة حين يتم الانتقال في الزمان والمكان في وقت واحد، ويعتبر هذا العمل عملا ملحميا بجدارة وقد ترك الكاتب نهايته شبه مفتوحة على سفر صادق إلى الهند.

 

مقالات من نفس القسم