أحمد عبد الرحيم
حسنًا، أنت شاهدت الفيلم الأمريكى Seven، أو Se7en كما تكتبه دعايته المبتكرة، بمعنى “سبعة”، والذى أخرجه ديڤيد فينشر، مخرج الإعلانات والفيديو كليب السابق، عن سيناريو لأندرو كيفين والكر، سنة 1995، محققًا نجاحًا تجاريًّا بلغ 237 مليون دولار، ومجدًا فنيًّا تجاوز آلاف المقالات المادحة. وأكاد أجزم أنك لم تنس قصته عن زوج المحققين البوليسيين، ميلز الشاب (أداء براد بيت) وسومرست العجوز (أداء مورجان فريمان)، وكيف يتحدان ليقبضا على سفاح مهووس يدعى چون دو (أداء كيڤين سبيسى)، يحصد أرواح الناس عقابًا لارتكابهم أيًّا من الخطايا السبع القاتلة المرتبطة بالديانة المسيحية؛ الشره، والطمع، والكسل، والفسق، والتكبر، والحسد، والغضب. ولا شك أنك لاحظت مزاياه؛ من مذاق بصرى مختلف، وإيقاع لاهث، وأداء تمثيلى متقن، وسيناريو بارع، ونهاية شرسة الإذهال؛ يصل فيها القاتل إلى زوجة المحقق الشاب، ويقطع رأسها، قاتلًا الجنين الذى كانت تحمله، متحديًا زوجها أن يقتله، ليؤكد الخطيئة السابعة “الغضب”، وهو ما يفعله المحقق للأسف.
الفكرة أنى لن أحدثك فى كل ذلك مجددًا، ولن أخوض فيما تبارت آلاف المقالات فى عرضه وتفصيله، وإنما سأحاول التحدث عن توافر شىء فى هذا الفيلم أرى أنه سيجعله يعيش أطول بين أقرانه، واعتاد المشاهدون عدم مصادفته فى أغلب الأفلام التشويقية.
كم من أفلام أنواعية Films Genre، ومنها فيلم التشويق Thriller والفيلم الأسود الجديد Neo-Noir كهذا الفيلم، تنجح بفضل تحقيقها لشروط النوع، وتفوُّق مهاراتها الفنية؛ من سرد Narrative وأسلوب Style. ولكن الفيلم الأنواعى الأكثر خلودًا هو ما يحوى بجوار كل ذلك.. مضمونًا substance؛ قد يكون قضية ما، أو معنى إنسانى، يجبرك على إعادة مشاهدة الفيلم، والتفكّر فيه، واستخلاص قيم منه تفيدك فى رحلة حياتك. Se7en، ذلك العمل البوليسى الممتع، لا يكتفى بإثارة انفعالك، أو تسلية وقتك وحسب، وإنما يقوم بالفعل الأكثر مهارة؛ يقتنص الجوهر الذى يتسلّل إلى عقلك، ويعيش معك، ومع الأجيال اللاحقة لك أيضًا.
يكمن الأمر فى السيناريو الذكى، وأساسًا فى تصميمه للشخصيات. إن لديك مبدئيًا وجهتى نظر تأتيان من جيلين مختلفين، أو ببساطة نوعين من البشر. الأول هو ميلز، الشاب المتعجل، المتوتر، الذى دائمًا ما يجرى وراء مشاعره، ويعتمد على الصور الفوتوغرافية أو “شكل” الأشياء. ولكن رغمًا عن حقائق واضحة كحماسته، وشجاعته، ومثاليته؛ فإنه غير حكيم، وطائش، ويمكن له بسهولة إيذاء أو فقدان نفسه. إنه أضعف من انتظار العدالة، لذلك يحققها بيده، لأنه عبد لسرعة انفعاله؛ أو بالاختصار عاطفته. راقب مشاهد كهذه التى يجرى فيها لاهثًا فوق السيارات، وظهوراته المتعددة داميًا وبضمادات لترى ذلك جيدًا.
أما الثانى فهو سومرست، المنتمى إلى جيل أسبق، والممتلك لكل العقلانية والحذر، والمعتمد على الكتب أو “باطن” الأشياء، إلى جانب خبرته المحترفة، وطبيعته الأكثر ثقة وبرودًا. لكنه ليس تامًا هو الآخر. إنه اضعف من إحتمال الحب أو آلامه أو مسئولياته؛ لذلك لا يوجد شىء ممتع أو باقى فى حياته. تابع مشاهده فى منزله الأشبه بالقبر، والخالى من أى وليف، ثم كسره للساعة بعد معرفته بحمل زوجة زميله، لإدراكه أن الزمن هزمه، وراحت فرصته لتكوين أسرة أو إنجاب أولاد.
الاثنان معًا يمثلان وحدة تامة رائعة، ليُكمِل كل منهما الآخر؛ ولهذا السبب ينجحان فى مطاردة السفاح. ولكن انتظر.. نحن لسنا فى أحد أفلام Lethal Weapon أو السلاح المُهلِك، حيث ميل جيبسون ودانى جلوڤر شرطيان مختلفان على طول الخط، لكنهما يكملان نقائص بعضهما، حتى ينتصرا على قوى الشر فى النهاية. هذه المرة، ميلز وسومرست يختلفان، ويتناقضان، وخط الوسط الوحيد الجامع بينهما هو زوجة الأول تريسى (جوينث بالترو)؛ الفتاة الطيبة التى تحب زوجها وتكسب ود زميله. وبالتالى، حينما تروح ضحية القتل، ويقرِّر ميلز كسر القانون والفتك بقاتلها، تتفسخ العلاقة، ولا يصبح هناك وسط على الإطلاق؛ وهو المشهد الذى يبتعد فيه ميلز بغضبه القاتل عن سومرست، تاركًا إياه وحيدًا فى الصحراء؛ ليصبح الابتعاد أقوى من القرب، والافتراق هو المصير.
فى عالم Se7en، هناك طريقان شديدا التضاد، لكن ينتهيان إلى كارثة واحدة: الحب الذى قتل الخوف؛ مُمثلًا فى حب ميلز لزوجته، وهو ما أجبره أن يتحوّل إلى قاتل ويضيِّع مستقبله. والخوف الذى قتل الحب؛ ممثلًا فى خوف سومرست من الاندماج فى علاقة عاطفية دائمة، وهو ما أضاع حياته ويضيّع مستقبله. أما بالنسبة لچون دو، فالحالة فى أقصى تطرفها؛ إذ إن حبه وخوفه قُتلا منذ زمن بعيد. إنه تعوّد الاشمئزاز من الشهوات الإنسانية؛ لأنه لم يكن إنسانًا، ففقدانه للحب والخوف أضاع إنسانيته بالكامل، ليتحوّل إلى ماكينة قتل، أو جنون مطلق، أو التطرف ذاته.
وازن بين حبك وخوفك، أو ستصبح القاتل والضحية. هذا هو المعنى الذى سيجعل Se7en يتجاوز شخصيته كمجرد فيلم بوليسى مشوِّق، ويعيش طويلًا لأجيال كثيرة قادمة، مُحقِّقًا ذلك الجمع النادر والساحر، بين إثارة الانفعال وإثارة الفكر أيضًا.
……………………
نُشرت فى مجلة أبيض وأسود / العدد 37 / يناير 2015.