كان يتسلل في الليل ليمشي تحت “العنباية”.. كانت شجرةً عنبٍ عجبأً.. تظلل وحدها على فدانٍ من الأرض، تمتدُّ وترتفع وتبسط فروعها على تلك المساحة وتغطيها بغير دعامات تحملها، وتبقى مورقةً خلال الفصول الأربعة.. عناقيدها الفوسفوريَّة تتألق بألوان الطيف السبعة.. أحياناً يجمع العنقود الواحد حباَّت من شتَّى الألوان.. البنفسجي.. الأزرق.. الأخضر.. البرتقالي.. الأحمر… تبدأ العناقيد في التوهج مضيئةً الطريقَ بعد الغروب، ويحسب السائرُ أن فوقه سماءً من سندسٍ أخضرَ تزيِّنهُ النجوم الملونة، وأنها تمتد إلى ما لا نهاية.. أما في النهار فهي شجرة عادية، وإذا ما قطف عنقود فقد خاصية التألق الذاتي الليليّ البهيج، وصار عنباً كالذي نعرف، ولكن بمذاقٍ مختلفٍ لذة للآكلين!
وشجرة التفاح ذات الأشواك التي تطرح ورداً بلدياً وتفاحاً على غصنٍ واحدٍ!
وشجرة اليوسفي المُعمَّرة التي تعود لعهد محمد علي باشا، وكانت تثمر كل عام.. يقال إنها من الجيل الأول من الأشجار التي جلبها يوسف أفندي معه من مالطا، والتي أعجب الوالي بطعمها، وأسماها باسم جالبها: يوسف أفندي.. وأمر بزراعة تلك الفاكهة الجديدة في حدائق قصر شبرا.. وقد أهدى محمد علي إحدى أشجارها لجدِّ الزمرد لأمها وكان يعمل في التجارب الزراعية هناك، وكانت تعتزُّ بها كثيراً.
ويحكي عن امرأة مبهرة الحسن والقوام، بشرتها بلون الورد، شعرها البندقي يصل إلى قوسي ردفيها.. كانت تسكن “بدرون” بيت من بيوت الزمرد، وكان يراقبها من شباكٍ حديدي صغير كأنه نافذة زنزانة.. كانت تخلع ملابسها قطعة قطعة أمام المرآة، وتدير أسطوانة على فونوغراف، وترقص عارية على أنغام أغنية بلغةٍ أجنبيةٍ لمغنية رخيمة الصوت تبعث طرباً مفعاً بالشجن، يبدأ لحنها بما يشبه صفير قطارٍ يغادر محطة.
كان يراها توقد شموعاً ملوَّنة معلقة في الهواء بلمسة من أصابعها، وبحركة من يدها تسبح الشمعاتُ المشتعلة وتتماوج في الفراغ مع تموجات أصابعها.. وتشعل لمبة الجاز بالطريقة نفسها.. وذات يوم رأته خلف الشباك.. خرجت ودعته.. تغلب شوقه على مخاوفه.. دخل حجرتها كالمسحور.. وهناك شاهد شيخاً مسنّأ صامتاً بلحية بيضاء مطبق الجفون يبدو أنه ضرير، بين أصابعه مسبحة طويلة من ألف حبة كالزيتون تتلوى على الأرضية، وكان الجو مشبعاً برائحة بخور الصندل.
قبضت المراة على ثمرة كستناء، فنضجت وتفتقت بين أصابعها، وعندما بسطت كفها كان البخار يتصاعد من الثمرة.. قدمتها للولد الصغير، فأخذها كالذاهل، وأحسَّ بسخونتها، وراح يأكل متلذذاً بحلاوتها!
داوم على زيارة ساكنة البدرون، التـــي ترطن بلغة غريبة لايعرفهــــا، والتي تضع قطعة العجين على راحة يدها وتشكلها بأصابعها، وفي لحظات تقدمها له كعكة جميلة تامة التسوية، على هيئة وردة أو قلب أو سمكة منقوشة، بنكهة الفراولة أو الشيكولاتة، محشوة باللوز أو الملبن.
وذات مرة صافحه الرجل فأحس بشحنة كهرباء تسري في جسده، ووصف له الشيخ الكفيف ألوان ورسوم مايرتدي من ثياب، وما في جيوبه من أشياء، بلغة عربية ذات لكنةٍ أجنبيةٍ!
كانت المرأة توصيه دائماً ألا يخبر أحداً بوجودها في البدرون مع الشيخ الهَرِم. وذات مرة زلَّ لسانه وحكى لجدته الزمرد عمّا رآه في البدرون، فتعجبت وقالت له إنه لايقيم به أحدٌ منذ بضع سنوات، بعد رحيل آخر ساكنيه، وكان رجلاً مسناً يصبُّ الجبس في قوالب ويصنع التماثيل أو ينحتها من الأحجار، وحذرته من الاقتراب من ذلك المكان.
انقطع عن الذهاب للبدرون بضعة أيام وعندما عاد إليه وأطلَّ من الشباك الحديدي لم يجدْ سوى بضعة تماثيل من الحجر الجيري، ونسخٍ جبسية كثيرة ربما لوجه مهرج على رأسه طرطور!
ويختم السندسي تلك الحكاية قائلاً:
ــ أتدري ما اسمها؟!
ويجيب في شجنٍ:
ــ الأميرة طيف الخيال!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـ مقطع من رواية “ساحرة الشمعدان” والتى صدرت مؤخرا عن مؤسسة عماد قطرى ـ القاهرة
ـ حسن صيرى – قاص وروائى مصرى