فرانسوا باسيلي
إلي رفيقة الطريق
قال تبدو سعيداً وحزيناً معاً
بوجهٍ غامض القسمات
كالموناليزا
ترنو إلي الزحام والركام
صامتاً مجمد الحواس
هادئاً، ساكناً، ككنيسةٍ بلا قداس
تقول إنك شاعرٌ
لكنك لا تملأ الدنيا
ولا تشغل الناس
ألم تكن تعلن العشق شعراً
فيتبعك الغاوون
لفتح ممالك السحر والساحرات
أين هم الآن؟
وأين أنت؟
الخيل والليل والبيداء لا تعرفك
وأنا، صديقك، لم أعد أراك
أين أيامك؟ أين أسعد الأوقات؟
قلت: صرت أعيش حياتي في الكلمات
مكتفياً بالحياة
ومكتفياً بالذات
قال كيف اكتفيت
ولا يكتفي في الحياة أحد؟
قلت كنت أرفع الروح
إلي سحبٍ يستريح عليها الجسد
فلا يستبد به الوجد
قال ألم يستبد بك البحر
ما بين جزرٍ ومد؟
واختطفتك الريح من بلدٍ لبلد
ماذا جنيت من البلاد؟
قلت كم خرجت وكم دخلت
من بلادٍ بلا عدد
بعضها وطنٌ كأنه سجنٌ
وبعضها سجنٌ كأنه وطن
وبعضها حوريات بلا جنات
وزحامٌ بلا أحد
فلم أجد في البر أو في البحر
لي نجاة
لا معابد آلهة الأولين ولا آيات
منحتني خبزنا الذي للغد
وكم نهش القلب وحش المجاعات
فقضي الليل يرتعد
لم يشفه بلسمٌ ولا زبد
ورغم هذا
كنت أشكر ربي وأحمد
قال كيف تحملت هذي المعاناة
ألست علي هذه الأرض
وهي غارقةٌ في الدمع والدم؟
قلت لم أسكن خطوط الطول والعرض
كنت أسكن في الحلم
فلا يعوزني شيء
لا ماء، لا زاد، لا مسكرات
وكنت أسكن في الشعر
فلا تعوزني سوي المفردات
كنت أستنفذ الوقت بالوقت
وأفر من الموت ببعض الموت
وبعض الحياة
أردد ألحان نفسي لنفسي
فتذهلني الأغنيات عن الأغنيات
كنت مكتفياً عن نهاري
بما يمنح الليل من سكنٍ للنفس
تشرق شمسٌ وتغرب شمس
وأنا أحدق في الرائحات وفي الغاديات
من علي بعد
فلا أتعذب أو أجهد
ولا أتكلف ما يرهقنا العشق به
وما تطلب الرغبات
قال كنت إذن زاهداً
قلت لا لم أزهد
أكلت كل ما تمنح الأرض
من ثمرٍ وشهد
وفاكهة الغابات
ونهلت من عسل النهر
ومن لبن الجن والساحرات
ولكن بلا جشعٍ
وبلا عثرات
قال مندهشاً
ألم تكن تشتهي أن تنال المزيد؟
قلت كان لي ما أريد
ولا أريد سواه
لا إكتفاء لشيءٍ بشيءٍ
كنت مكتفياً بالحياة
قال لكنك الآن تبدو غريباً
طريداً
كأنك زورقٌ بلا دفةٍ في بحر
كأنك صرت في عسرٍ بعد يسر
كأنك بلا مكان
قلت لا أرض لي بعد مصر
ومصر التي كنت أعرفها
لا أراها
في القريب ولا في البعيد
وما عدت أسمع في ضفة النهر
خرير النشيد
قال كيف إذن
تتحمل ما أنت فيه
ماذا يهدهد قلبك في الملمات؟
قلت أحببت روحاً لها كل ما أبتغيه
من الحسن والحسنات
ومن طيبات ما رزق الله لي ولها
من العرس والحزن والمكرمات
ولنا ما منح الله من خلفةٍ وبنين
ثمر الكرمة، طرح الحقل
عطاء السنين
كإيزيس تجمع أشلاء نفسي
من أرض مصر
وترقد فوقي فأحيا
عشنا كأسطورة الأقدمين
عين حورس تحرسنا
وهاتور تسكب ماء الحياة
فتغسلنا بالمسرات
رقصنا فرحاً في فجر أيامنا
وتساندنا في المساء الحزين
سرنا حزاني مع البؤساء
فرحين مع الفرحين
فقراء مع المساكين بالروح
أغنياء مع السعداء المحبين
صرنا كروحين في جسد
تعارفا قبل بدء الأبد
تعانقا في أنين الأنين
واستغرقا في لذة الملذات
كل يومٍ لنا
كان معجزة المعجزات
خبزنا كفافنا
لذا عشت مكتفياً بالحياة
ومكتفياً بالحنين
إلي ما يحين وقته
وإلي ما لا أبداً يحين
اكتفاء المحب بالمحبة
اكتفاء الذات بالذات