خلعت الرواية على الجنس بها صفة الميكانيكية، فصورت الأفعال الحميمية بلا أيةتهويمات مجازية، ليأتى وصفها مباشرا و فجا فى آليته. وكأن قبح المدينة يطبع تمثلاته على العلاقات الحميمية بين ساكنيها، ويبدو أن الإشباع قد تمإرجاءه إلى ما لا نهاية. الجنس فى القاهرة التى نعرفها لم يكن مصدر سعادةلأحد : ” صيحات الألم المتسربة من نساء مختونات يضاجعن أزواجهن بغشم،وبسرعة قبل أن يغلق مترو الأنفاق أبوابه فى الساعة الحادية عشرة“.
“.. وكأنها حياة مجموعة من البؤساء يعبرون الطرق فى فوضى النساء المتشحاتبالكثير من الملابس والأقمشة والرجال منكسى الرؤوس، هياجهم الجنسى دائملكنه غير متحقق“.
أما القاهرة الجديدة، كمدينة ما بعد حداثية) أو ربما ما بعد بعد حداثية !)، مدينة ما بعد الكارثة/المحرقة، فيصابشبابها بالاكتئاب، وتخضع سلوكيات ومشاعر أهلها للتنميط وآليات الرقابة التىتقوم بها وتروج لها “مؤسسات التنمية الذاتية ” وتأويلات ” علم نفس مابعدالعاصفة”. محاولات سلطوية للتكيف تذكرنا بتلك التى أوردها أنتونى بيرجس فى “البرتقالة الآلي” ٬كما تذكرنا الرواية بطبيعة السرد الشفاهى فى رواية بيرجس (وكما سمعناه فى ترجمة ستانلى كوبريك السينمائية).
•••
تبدو “استخدام الحياة” كرواية تقدم منجزا معرفيا ما،عن طريق سرد بعض “الحقائق” التاريخية أو العلمية. لكن الحقائق الى توردها هوامش الرواية يجب أن تعاملكإحدى ألاعيب الرواية التخييلية. لا تلعب الهوامش الدور التوضيحى للمتن،قدر ما تمعن فى الإيهام بتماسك عالمها المخاتل.
تقيم الروايةالبنى المعرفية الخاصة بها والتى تتماهى فيها الحدود بين “الحقيقة” و”الزيف”( إن كانت ثمة فروقات بينهما)، فالمعرفة إحدى أوجه قوة الدولةالقومية أو الشركة الكونية الجديدة، ينزع النص الروائى القداسة عن التاريخ، ويعيدانتاج سرديته الخاصة. تتأكد سمات الاستقلال للعمل الفنى بنظرته المتشككةإلى اللغة والمعرفة والتاريخ، حيث يراها كأقانيم تشكل وجود السلطة، فلايوظفها كموضوعات “محايدة” و”بريئة”، بل يسعى السرد إلى صياغة مغايرة لها،تنتج عالما مسكونا بعناصر نفيه.
تدفع الرواية المغزى الدلالى للأسماء فى النص إلى حدود مراوغة. المفاهيم أو الأفكارالتى تمثلها شخصيات فليمون و إيهاب حسن، بوصفها شخصيات مرجعية، تؤكد كونها علامات تنتج “خطاب”، كما أن الخطاب الروائى نفسه ينتج الشخصيات بمدلولات مختلفة عن تلك التى عهدناها فى الواقع. تصعِّد مراوغة النص الروائى، فى توظيف تلك الشخصيات، من المحددات الايديولوجية التى يبديها الكاتب. هل الرواية تقدم رؤية مناهضة لما بعد الحداثة (أو بالأدق احتقارها للأسئلة الكبرى) رغم تمثلها للعديد من سماتها الفنية؟ أم أن ما تبديه شخصية بسام بهجت من تفهم لأفكار وطموحات إيهاب حسن ينبئ عن تشاؤم حيال المرحلة الثقافية أو المعرفية التالية لما فيه العالم اليوم؟
يقول إيهاب حسن “الواقعى” فى إحدى مقالاته: ” بعض أعمال الهندسة المعمارية، درست كأمثلة لعمارة ما بعد حداثية، مثل متحف جاجنهيم لفرانك جاري في مدينة بيلباو الأسبانية، وقصر أشتون ريجات مكدوجالفي ميلبورن بأستراليا، ومركز سكيوبا لأرتا أيسوزوكي في اليابان، وأصحاب هذهالأعمال تجنبوا خشونة الزوايا الهندسية للباوهاوس، ونقاءها التجريدي،فمثلا الأطر ذات الحد الأدنى من المعدن مع الزجاج عند فان دير روه تخلطالعناصر الجمالية، بالتاريخية، كما تعبث بالشظايا، وتستخدم العناصرالرديئة.” أما إيهاب حسن فى “استخدام الحياة” نجده عن مطالعته لنفس تلك الأعمال المعمارية يطرح أسئلته حول “الدور الوظيفى للفن وتحديدا فن العمارة”، ويحمل سؤاله قدرا من “الثقة النقدية والإيمان الأعمى بحتمية وجود قوى عظمى أو حقيقة مطلقة تحدد ماهو صواب وما هو خطأ بشكل نهائى وقاطع” بتعبير الرواية. هنا يختلط الحقيقى والقصصى (بتعبير ايهاب حسن “الحقيقى”)، أو كما بين بودريار، فإن ما تمت حكايته (أو نموذج المحاكاة الروائية ) يحل محل الواقعى و”يغدو هو الواقعى بدلا منه”. فالصورة الفنية لم تعد مقيدة إلى شئ ثابت فى العالم الواقعى، بل تتحرك بكل طريقة يمكن تصورها.
●●●
يرى المفكر وعالم الجمال ” ثيودور أدورنو” أن موسيقى شوينبرغ تعتبر مثالا للعمل الفنى المستقل. فشوينبرغ يرفض أن يقدم للمستمعين مقولات مألوفة ذات هالة تعمل على تنظيم استجاباتهم،بل يكسر سكونية التلقى عبر دفعهم إلى اتخاذ موقف من موسيقاه “المنفلتة إلى أبعد الحدود”. تقف “استخدام الحياة” على الحافة الحرجة، بتحطيمها الهالة المقدسة للفن مع التمرد على السوق والتسليع. روائع الموسيقى الكلاسيكية صارت مقرونة فى آذان الكثير منا بالإعلانات التجارية ( سمفونية بتهوفين التاسعة: اعلان السمن النباتى والزيوت المهدرجة، كارمن بورانا لكارل أورف: اعلانات المنتجعات السياحية و الوجبات السريعة). السلطة التعسفية ومراقبة الكتابة، وتحديد ما يمكن أن يدرج فى “المعيار الأدبى” وما ينبغى أن يستبعد من نطاق ا”لأدب الرفيع” وفق رؤى تنبنى على معايير السلطة الحاكمة فى المجتمع ومؤسساتها.. وسط هذا الحصار تتخلق الرواية.
يؤكد الكاتب الأفريقى الكبير “وثيونجو” أن “الفن فعل ثورى”، و الصراع الذى وصفه بين الفن والدولة يجد صداه فى “استخدام الحياة”: “الصراع بين قوة أداء الفن وبين أداء قوة الدولة”.
وما تحاوله الرواية هو التحرر من القبضة المحكمة على الكتابة، وتستعين بقوة الفن النافية على كل القوى التى تحاول إفساد الفن.. و الحياة.