إفلات

مريم عبد العزيز
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مريم عبد العزيز

لا يكف كبار السن عن الإلحاح في أمور قد تبدو قيمتها أقل بكثير من الطاقة المبذولة من أجلها، اليوم تلقيت أكثر من اتصال هاتفيّ فائت من أمي أثناء الاجتماع وحيث أني لم أكن قد علمت بعد سر إلحاحها في الاتصال فانتابني بعض القلق- رغم حدس داخلي بأن الأمر لا يستدعي القلق- فاستأذنت في الخروج من الاجتماع للرد على هاتف عاجل، وقد صدق حدسي، كانت تذكرني بأن اليوم هو موعد استلام حصتها في إيجار البيت الذي ورثته عن أبيها، وأن هناك تعديل طرأ على الترتيب المعتاد حيث أن خلاف حدث بين الأختين مفيدة ونعمات -شريكتيها اللواتي ورثن حصة أبيهن شريك جدي- وكان من محصلة هذا الخلاف أن أصبحت نعمات هي المسؤولة عن جمع الإيجار فيما انتحت مفيدة جانباً تشاهد في تشفٍ فشل أختها في أن تحل محلها في عمل بسيط كهذا.

كان السيناريو المتّبع في كل مرة أزورها لتحصيل الإيجار لا يتغير، تجلس هي في شباك منزلها على أريكة أستانبولي، تعدّ أوراق النقود ثم تخصم منها فاتورة الكهرباء والمياه، تسلمني المبلغ الهزيل بعد أن زاده الخصم هزالاً وتطلب مني عدّه مرة أخرى، تنظر إلى الهوة السحيقة التي يطل عليها البلوك رقم خمسة من مساكن سوزان مبارك بالدويقة وتشير لأطلال حائط يبدو لونه الأخضر وسط الكتل البيضاء لجبل المقطم كصرخة استغاثة تكسر صمت الحجر وتقول في حسرة “شايف البيت الأخضر ده أهو أنا كنت ساكنة فيه”

أرد في تأثر “الحمد لله أنك بخير” وأكمل العدّ

فتقول في رضا “سبحان مين نجاني”

أفلتت هي من الموت الجماعي دهساً تحت الصخور المنهارة بينما فُقِد زوجها صلاح الذي تُعلّق صورة زفافها به على أحد جدران هذه الشقة التي حصلت عليها بوضع اليد بعد سقوط الصخرة على المنطقة، بينما على الجانب الآخر من الجدار صورة شخصية بالأبيض والأسود يرجع تاريخها لستينات القرن الماضي لشابة أنيقة بعيون ملونة بها ملامح تلك الأرملة المتهالكة التي تجلس أمامي على الأريكة، تمط شفتيها في حسرة حين تلمح انتباهي للصورة “شوفت الزمن بهدل الواحد أزاي …. دا انا كنت برنسيسة وكنت باروح مدارس فرنساوي”

كانت أمي تخبرني بذلك كلما تطرق حديثنا إليهما، أنهما كانتا تدرسان في مدرسة الراهبات بالفجالة، لكن مفيدة تهربت من الدراسة سريعاً لتتزوج من صبي السمكري “صلاح” وكان دونجوان الفجالة حينها وقد هرب هو الآخر من الورشة ليفتح ورشة مرتجلة في تخوم جبل المقطم ويسكن هناك مع زوجته، بينما ظلت نعمات تحقد على أختها الصغرى التي لم تراعِ الأصول في أنتظار دورها في الزواج وحلت محلها، وكما تقول أمي ” نعمات كانت عينها منه لكن هو حب أختها”

هذه المرة لن أركن سيارتي بجوار حي منشية ناصر لاستقل إحدى السيارات الخردة الأتيه من زمن بعيد المستخدمة في نقل الركاب لأعلى حي الدويقة، ولكن سأركن مباشرة أمام بناية ضخمة من البنايات العريقة لشارع الفجالة، أصعد للدور السابع بمصعد خشبي فخم رغم هِرمه، لأجلس على صالون مُذٌهّب أمام مكتبة تضم دواوين شعر لشعراء قِدام مع بعض الصور العائلية، وصورة “بروفيل” لشابة بقصة شعر أنيقة وعيون ملونة وبمقارنة بسيطة يمكن ملاحظة أنها نفس العيون للأصل المتهالك إثر الشيخوخة، الصورة واحدة في البيتين نفس الصورة المعلقة على الحائط الجيري بالبلوك رقم خمسة من مساكن الدويقة إذ يبدو أن تاريخ التقاطهما واحد كما يبدو الشبه الكبير بين صاحبتي الصورتين، تدخل نعمات في رداء أسود وعقد من اللولي وقصة شعر تشبه الصورة تحمل صينية بها فناجين الشاي وكوب ماء، تغالطني في الحساب الذي زاده هزال ذلك العجز الذي لم تعرف له سبب، فتخرج الإيصالات وتعيد جمعها مرات دون جدوى مع إصرار بعدم الاستعانة بأختها لتفسير العجز ونعتها بالجاهلة.

لم تترك نعمات الدراسة كأختها فأتمت تعليمها الجامعي وعملت بنفس المدرسة التي درست بها، ولم تتزوج ليظل لقبها في المدرسة “مودموزيل نعمات” وتقمصت دور الضحية التي خدعتها أختها مرتين مرة حين تزوجت قبلها من فتى أحلامها ومرة حين كتب لها أبيها نصيب أكبر من البيت الذي يتشارك فيه مع جدي وقد فعل ذلك ليعوضها عن نصيبها في شقة الفجالة التي استأثرت بها نعمات لكنها لم تفهم دوافعه وظلت تتحين أي فرصة لتحل محلها في أي شيء لذلك تمسكت بعد الخلاف بأن تقوم هي بجمع الإيجار.

مرة أخرى أخرجني من الاجتماع إلحاح أمي على الهاتف في الموعد ذاته من كل شهر وقد خمنت أنها تذكرني بزيارة نعمات لتحصيل الإيجار

“أيوه يا أمي، حاضر والله هاروح لنعمات علشان الأيجار”

ولكن صوتها أتى متقطعا ومذعورا ” مودموزيل نعمات وقع عليها البيت وهي بتلم الإيجار”

وسمعت صوت مفيده التي أفلتت مرة أخرى من الموت تحت الأنقاض ” سبحان مين نجاني”

 

مقالات من نفس القسم