فرانسوا باسيلي *
ماذا يفعل إخناتون ملك الشمس في نيويورك في جليد ديسمبر 2019 ؟
الإجابة:
يفعل ما فعله في البشر في الغرب والشرق منذ أن عرفناه، يذهلهم ويذهلنا بما يفكر ويعبر، بما يقول ويفعل، بسيرته المدهشة كأول ملك شاعر مفكر مارق في التاريخ، وبسيرة زوجته الجميلة نفرتيتي صاحبة أشهر وأجمل تمثال تاريخي في العالم، وبسيرة ابنه توت عنخ أمون، صاحب أشهر وأجمل غطاء لتابوت هو تحفة فنية تاريخية لا تقدر بثمن، للملك الصغير المعروف حتي لأطفال المدارس هنا في أمريكا باسمه المختصر المحبب لهم، كنج توت، والذي يدور تابوته المدهش حول العالم من وقت لآخر في زيارات لأشهر المتاحف العالمية، فيخلب لب الجماهير التي تقف في صفوف طويلة في الشوارع لتلقي بنظرة علي المستوي الفني والجمالي الشاهق الذي يقدمه لنا الفنان المصري القديم الذي أبدع هذا العمل المتفرد البهاء قبل أكثر من ثلاثة آلاف وثلثمئة سنة مضت.
إنها حقاً عائلة ليست فقط محترمة ولكن مذهلة، بلا مثيل بين العائلات الملكية وغير الملكية، في تاريخ الشرق والغرب معاً، تاريخ البشرية جمعاء.
ولكن لماذا يذهلنا كما يذهلهم هذا الملك المصري القديم القادم لنا من قبل أكثر من ثلاثة آلاف وثلثمئة سنة؟
وماذا يفعل في نيويورك الآن؟
فلنبدأ بإجابة السؤال الأسهل، إخناتون في نيويورك في صورة أوبرا تعرض في دار المتروبوليتان أوبرا الأمريكية في مجمع الفنون الاستعراضية الأشهر في أمريكا، وهو لنكولن سنتر في الجزء الغربي من منهاتن قلب مدينة نيويورك، وهو مجمع بالغ الجمال المعماري ترتفع فيه دار الأوبرا بارتفاع حوالي ثمانية طوابق في الصدارة وأمامها ميدان واسع تتوسطه نافورة كبيرة، وفي أحد جانبيه دار للعروض المسرحية، وبالجانب الآخر دار لعروض ثقافية وفكرية واستعراضية منوعة، بينما في الخلف مسرح في الهواء الطلق تقدم فيه عروض موسيقية وراقصة في الصيف تكون عادة مجانية يشارك فيها آلاف الحضور بالغناء والرقص في ضوء القمر.
أوبرا اخناتون هي للموسيقار الأمريكي فيليب جلاس – مواليد 1937 – والذي ظهر علي المسرح يتلقي التحية الحارة من المشاهدين في نهاية العرض الأخير الذي حضرته هنا في السابع من ديسمبر 2019, وستلاحظ أن الأوبرات تنسب دائماً للموسيقار الذي وضع الموسيقي وليس لمؤلف الكلمات كالمسرحيات، فالأوبرا هي أساساً عرض استعراضي سمعي بصري، تلعب فيه الموسيقي الدور الأول ثم بعده تأتي الجوانب الأخري من الإخراج إلي التحرك إلي الرقصات إلي الملابس إلي الديكور اإلي الكلمات والأغنيات، الفكرة لا تلعب الدور الأساسي في الأوبرا، وكأن الفكرة أو القصة مجرد تبرير لتقديم عمل استعراضي يتميز عادة بالضخامة والفخامة، فالأوبرا عمل صوتي ضوئي حركي هو مهرجان من الألوان والدخان والأضواء والإيقاع والإبداع متعدد الجوانب يمنح المشاهد شحنة وجدانية فنية مثيرة للحواس لعدة ساعات، يشترك فيها ربما مئات من الفنانين من ممثلين ومخرجين ومبدعين في مختلف المجالات إلي مساعدين وعاملين، لهذا تصل تكلفة الاوبرات الحديثة إلي عدة ملايين من الدولارات، والتي تتطلب بجانب دخل التذاكر منحاً مالية ضخمة يتبرع بها عشاق ورعاة الفنون.
ربما وجدتني بحاجة هنا لهذا الشرح لطبيعة الأوبرا لمعرفتي بأن هذا اللون من الإبداع الفني ليست له شعبية في بلادنا العربية، ورغم وجود دار للأوبرا في مصر منذ العهد الخديوي – الملكي إلاً أن عروض الأوبرا تكاد أن تكون محصورة في النخبة المثقفة فنياً وغربياً والتي تتذوق هذا اللون الصعب، خاصة وأن معظم الأوبرات تكون بلغة أجنبية وحتي ليست الإنجليزية، وفي الواقع فتذوق الأوبرا هنا في أمريكا يظل محدوداً، ربما باستثناء من هم من أصل إيطالي حيث للأوبرا لديهم مكانة خاصة، ربما تشبه مكانة أم كلثوم وفيروز لدي الأذن العربية.
ولنفهم أوبرا إخناتون يصبح من الضروري فهم طبيعة موسيقي فيليب جلاس، والذي توصف موسيقاه أحياناً بأنها تنتمي للون “المينيماليزم” أو “الأدني” أي تقديم العمل الفني بأقل جزئيات ممكنة، ولن تجد في موسيقي فيليب جلاس الضخامة والتركيب والبهرجة والجمل الممتعة الشهيرة التي تجدها في الكثير من الأوبرات العالمية مثل أوبرا عايدة لفردي، وهي الأوبرا الأخري التي تقدم لنا مصر القديمة ولكن بصورة وموسيقي مختلفة كثيراً عن اخناتون.
كما تتميز موسيقي فيليب جلاس أيضاً بتكرار الجمل الموسيقية البسيطة تكراراً كبيراً، وكان هذا واضحاً في عمله “اخناتون”، وله عملان آخران يصنفان كأعمال تقدم “الأفكار الكبيرة”، فله أوبرا “اينشتاين علي الشاطيء” التي تتحدث عن الفهم الجديد للمكان والزمان، وأوبرا “ساتاجراها” التي تتناول فكرة المقاومة السلمية واللا عنف.
من اللافت أن الأوركسترا في أوبرا إخناتون قادتها امرأة، وهو شيء نادر، هي كارين كمنسيك، وهي قائدة صاعدة مواليد عام 1970 كان هذا هو ظهورها الأول في دار أوبرا نيويورك، بعد أن حازت أوبرا اخناتون بقيادتها علي جائزة “اوليفية” الشهيرة في لندن، ولكن لكي نضع هذا الحدث في إطاره التاريخي فلنذكر أن في مصر قبل ثلاثة آلاف وثلاثمئة سنة كانت المرأة الملكة نفرتيتي تحكم بجوار زوجها بشكل فيه الكثير من المساواة والتقدير لمواهب وقدرات المرأة، ربما تتأمل هذا وتدهش من ناحية لمدي تقدم الحضارة المصرية القديمة في رؤيتها للمرأة، ولتحزن من ناحية أخري لمدي الإنحدار في دور المرأة التي نراها في مصر اليوم وقد تغطت بالكامل بالنقاب أو بنصف أو ربع نقاب لأنها في عرف البعض قد صارت “عورة”.
هذه النظرة الدونية للمرأة لدي قطاع من المصريين اليوم يعرف بالسلفيين، ولدي غيرهم أيضاً نتيجة لصعود الفكر الاخواني السلفي ليتسيد المجتمع المصري منذ السبعينات، هو أمرٌ له علاقة مباشرة بحديثنا عن أوبرا إخناتون، وله علاقة بإجابتنا علي السؤال الأساسي في هذا المقال وهو لماذا يذهل اخناتون الناس في كل مكان، وخاصة في الغرب، فيقدمون عنه مثل هذه الأوبرا في نيويورك في عام 2019, وقبل ذلك كتبت عنه الروائية الشهيرة أجاثا كريستي مسرحية في عام 1937.
فنجد أن سبب مشاعر الإعجاب الشديد والمثير هو في اكتشافنا لحقيقة أن اخناتون كان أول رجل في التاريخ يتمرد علي آلهة القدماء في مجتمعه، وأول من إمتلك الجرأة والقوة علي تحدي هذا الميراث الديني الإلهي الهائل، وإعلان بطلان هذه الآلهة المتعددة، وتقديم فكرة الإله الواحد للبشرية، فكان أول الموحدين، وهكذا يعرفه علماء الآثار وكتب التاريخ اليوم.
كان اخناتون أول من فكر في قضية الألوهة ليتوصل إلي رؤية مختلفة تماماً عن السائد يقدمها إلي البشرية جمعاء، ثم يدفع ثمن ذلك بأن يثور عليه العامة بقيادة الكهنة مما أدي إلي إنهاء ما قام به وهدم مدينته الجديدة المسماة بإسم الإله الواحد الجديد أتون. وفي نفس الوقت كان أول ملك شاعر ترك لنا قصائد شعرية بالغة الجمال يعلن فيها محبته لزوجته الجميلة نفرتيتي، التي رفعها من بين عامة الشعب لتصبح زوجته وحبيبته وأم بناته، وليمنحها صلاحيات واسعة لتشاركه حكم مصر.
لك إذن أن تتأمل هذا الوضع المتقدم جداً للمرأة في عهد اخناتون، وفي رؤيته المتحررة لدور الكهنة والعبادة وصورة ومفهوم الآلهة، وتقارن بين وضع الدين والدعاة والكهنة والمرأة في المجتمع المصري الحالي، فتصاب ببالغ الدهشة لقدرة هذا الملك الشاب علي رؤية عصرية سبقت عصرها بأكثر من ثلاثة آلاف سنة، وما تزال تسبق رؤية المصريين للمرأة والدين اليوم.
ليس من المستغرب إذن أن يقوم مبدعون في الغرب بتقديم أعمال عن اخناتون، بينما لا يكاد يعرفه في بلده مصر أحد معرفة حقيقية، ولنعد إلي كيفية تقديم أوبرا اخناتون في دار الأوبرا بنيويورك.
إذا اتيح لك أن تشاهد هذه الأوبرا فلتحضر نفسك لمشاهدة عمل صعب لا يشبه ما قد تكون قد رأيته من أوبرات في السابق، وستشعر بهذا منذ البداية، فالأوبرا تبدأ بموسيقي بالغة الرتابة، بإيقاع عميق لا تسمع فيه صوت آلات الكمان إطلاقاً رغم أنها عماد معظم الأعمال الموسيقية الكلاسيكية، فهنا يقدم لنا فيليب جلاس إيقاعاً عميقاً يكاد أن يكون مخيفاً، يظل ينهال عليك لكي يخطف وجدانك من زمنك الحالي إلي زمن سحيق بالغ القدم والإختلاف، والفكرة هنا هي أنك لو تمكنت بسهولة أن تستسيغ وتستجيب للموسيقي فكيف يمكنها أن تكون موسيقي قديمة جداً إذن؟ كيف يمكن لها أن تكون من عصر بالغ الإختلاف، لمجتمع يتكلم لغة قديمة غير معروف وقعها ولا ايقاعها، لم يعد يتكلمها المصريون أنفسهم اليوم؟ إذن فلا بد للمبدع المرهف أن يقدم موسيقي مختلفة تماماً، إيقاعاً ولحناً، شكلاً ومضموناً، لابد أن تصدم مرة ثم مرة ثم مئة مرة كي يمكنك الإنتقال بعد ذلك وجدانياً إلي عالم مختلف، ومجتمع مختلف، في عصر مختلف.
نترك الموسيقي لننتقل إلي الأشخاص علي خشبة العرض، فنجد أن المبدعين الذين قاموا بتصميم الحركة المسرحية – الكيريوجراف – قد أرادوا بدورهم أن يحدثوا في المشاهد صدمة وجدانية أخري بأن تتحرك الشخصيات ببطء شديد، وكأنهم تماثيل مصرية قديمة دبت فيها الحياة ولكن بشحنة ضعيفة فلا تملك أن تمشي كما يمشي البشر، وأصبحت أمام أفراد ومجموعات من البشر تمشي كالروبات علي إيقاع بطيء لا يقدم لحناً يمكنك حفظه، في تكرار يصل بالوجدان إلي حالة من الخدر لكي يمكنك الإنحدار البطيء علي سلم الزمن تصل إلي قاع الدهر، لتتمكن من العودة نصف الميتة إلي بداية التاريخ.
المشي في بطء شديد والإيقاع بالغ الرتابة هي إذن رغم صعوبتها علي الأذن وعلي العين، سمعاً وبصراً، فكرة عبقرية لأسلوب نقلنا إلي عالم آخر، أنت إذن إنسان له وجدان مات علي كرسي المشاهدة لكي يبعث من جديد في عالم سحيق له قوانين حركة مختلفة، وأساليب تفاعل وتفاهم مختلفة، وعلاقات وطقوس دينية وإجتماعية مختفلة، فلا تنتظر أن تفهم الأوبرا فهماً كاملاً ولا أن يكون كل شيء تراه واضحاً جداً.
ومما يزيد من صعوبة التلقي هو أن المسرح يضم ثلاث طبقات رأسية، كمنزل من ثلات طوابق كل طابق به ثلاث غرف متجاورة وأنت تري ما يجري من أحداث في نفس الوقت في هذه الغرف والطوابق المتعددة، فقد تحدق في الغرفة علي اليسار فتفوتك أحداث في الغرفة علي اليمين، أو قد تتأمل ما يجري أمامك في الطابق الأرضي فيفلت منك ما يجري في الطابق الثاني أو الثالث، ولعل هذا الإخراج المقصود منه هو نوع من التشتت الذي يزيد من غربة وصعوبة العمل لكي يظل في بعد زمني مختلف عنك كمشاهد، فلا تستسلم لعمل مريح واضح لا يثير فيك عوامل الدهشة والبحث عن المعرفة الجديدة المثيرة.
الملابس كانت غريبة بدورها، بعضها يعطي إنطباع مصر القديمة بينما بعضها كأنه لأوروبا في العصر الأوسط، والملك يظهر عارياً أحياناً وفي ملابس من العصر الفكتوري أحياناً، والجموع شبه عارية مخططة وكأنها رسمت تاتوهات علي أجسادها، ولم تتسارع الحركة سوي في مشاهد ثورة الجموع علي الملك والملكة بتشجيع وقيادة الكهنة قرب النهاية، كما نجد أن الجموع في مشاهد عديدة كانت تلعب بالكرات في أيديها كما يفعل الحواة في الشوارع والموالد، ولم أجد مبرراً لهذا لعل معناه غاب عني.
الفكرة ليست أساس العمل الأوبرالي، والفكرة هنا معروفة وقد التزمت الأوبرا بالوقائع التاريخية كما نعرفها، ولم تحاول أن تقدم لنا رؤية جديدة أو تفسيراً جديداً للتاريخ، ولكنها نجحت في نقلنا لنعيش هذا التاريخ السحيق بأقرب ما يمكن لنا أن نفعل ونحن أسري الزمان الحالي، ولعل هذا هو التحدي الدائم لكل عمل إبداعي بشكل عام، ولعمل تاريخي علي الأخص.
لقد نجح اخناتون في تحريك وتحدي وجدان الأمريكان، فمتي يهز ويتحدي وجدان المصريين؟
………………………………………………………………………………………
* فرانسوا باسيلي شاعر وروائي مصري مهاجر لأمريكا يكتب حالياً رواية عن اخناتون بعنوان “في مخدع الملك، في مذبح الإله” تظهر في 2020