د. نعيمة عبد الجواد
منذ قديم الأزل، هناك مقولة شهيرة متواترة، ألا وهي: “التاريخ مرآة الشعوب”. فالمقولة هي وسيلة للتعبير عن أهمية التاريخ في حياة الأمم، حيث تكتب الأمم تاريخها لتدون مآثرها ومآسيها، حتى تكون شاهداً وشهيداً عبر الأزمنة على ما مرت به من حقب متتابعة متتالية شكلت ملامحها. ومثلما يؤكد جون فرانسوا ليوتارد Jean-François Lyotard (1924-1998) – الفيلسوف الفرنسي الشهير وكذلك عالم الاجتماع والمنظر الأدبي – التاريخ هو مجرد حكاية محبوكة، أو بمعنى آخر سرد شيق، مثل أي حكاية في حياتنا. وهو أيضاً نوع من أنواع المعرفة. ومثل أي نوع من المعرفة، يقوم التاريخ ليس فقط بتفسير ما يدور من أحداث، بل أيضاً إضفاء عنصر الشرعية على أي حكاية، ومن ثم يصير من السهل تصديق ما يتم ترويجه من حكايات. وعلى هذا، يسهل تصنيف تلك الحكاية على أساس أنها حقيقة ثابتة.
ولقد ظهرت المعارف في بادئ الأمر على شكل حكايات، أو سرديات. ففي العصور القديمة قبل تقسيم العالم إلى شعوب، كان سكان الأرض مجموعة من القبائل. وكان نوع المعرفة المتوافر لديهم هي الأساطير، والأسطورة بالتأكيد هي حكاية. ومن خلال تلك الأساطير، نمى إلى علم الإنسان وجود مخلوقات أخرى سبقت البشر على وجه الأرض. وعملت الأبحاث العلمية فيما بعد على توكيد أغلب ما جاء بتلك الأساطير، بل أيضاً استدل العلماء على مواطئ البحث من خلال تلك الأساطير؛ فذهبوا إلى الجبال، والسهول، والبحار التي تدور فيها أحداث الأسطورة، ومن ذلك المكان بدؤوا أبحاثهم. أي أن ما حدث هو ليس فقط تفسير لتلك الأساطير، بل أيضاً إضفاء صفة المشروعية لها، حتى صارت تلك الأساطير علماً لا يمكن إنكاره، مثل أي فرع من فروع العلوم القائمة على التجارب والمشاهدة. وبنفس الطريقة، عند تطبيق الخرافات والأساطير على العادات الاجتماعية، وممارسات الشعوب، فإنه يتم وضع تلك الحكايات في إطار شرعي، ومنها تنتقل إلى عالم الواقع، وتطل عليه كحقيقة ثابتة. ومثل هذا النوع من الحكايات – السرديات Narratives – هو مجموعة من القوى التي تشكل ملامح العصور والأزمنة، وليست فقط قاصرة على الأساطير والخرافات، بل تمتد للطب، والهندسة، والفنون، والعلوم الطبيعة، وكذلك أيضاً الأديان؛ لأن أي منهم قائم على فكرة، والفكرة هي سردية، بما في ذلك المعادلات الحسابية والكيميائية. فلو مثلاً ذكرنا أن اتحاد الأكسجين مع الهيدروجين ينتج عنه ماء، فهذه سردية.
واتحاد كل هذه السرديات يكون ما يسمى بالسرديات الكبرى Grand Narratives، ويطلق عليها يؤكد جون فرانسوا ليوتارد Jean-François Lyotard مصطلح “سرد التحرر” Emancipation Narrative؛ وذلك لأنه ليس ذاك النوع من السرديات الفوقية Metanarratives التي تتحدث عن تعاقب أحداث أو رواية سردية تلو الأخرى، لكنه سردية تتمتع بنوع من الترابط بين الأحداث، التي توضح العلاقات الداخلية بين الأحداث بعضها البعض، ومن خلالها يمكن توضيح تعاقب الأنظمة الاجتماعية، والتطور التدريجي للظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، إلى ما شابه ذلك. ومن ثم، تصير السردية الكبرى “سردية تحرر” لأنها تحاول فهم التاريخ، وفهم مغزى ما يدور به من أحداث، وليس مجرد جمع غير واعي لأحداث منفصلة، ومثال على ذلك، تدوين بعض المفاهيم، مثل مفهوم الحرية، والاشتراكية، والنضال، والقوى الرأس مالية. فبدون سرد الأسباب أو الأحداث التي أدت لنشوء تلك المفاهيم – أي حكاية القصة وراء ظهورها – لن يكون لذلك المفهوم مغزى يمكن استيعابه، ومن ثم لسوف يصعب تطبيقه.
وذلك فيما يتعلق بالسرديات الكبرى التي تتألف منها حكايات الأمم، لكن ما هو الحال بالنسبة للأفراد؟ هل حياة كل فرد مؤثرة في حركة التاريخ؟ قد يؤكد البعض أن هناك أفراد كانت حكايتهم مؤثرة، ومن ثم انتقلت لإطار التاريخ وصارت مشهورة، مثل سيرة حياة العلماء، والأدباء، أو حتى بعض المجرمين مثل ريا وسكينة. فتاريخ الأشياء الصغيرة هو سردية صغرى Little Narrative، التي قد تنتقل إلى غمار السرديات الكبرى إذا ذاع صيتها، عندما تصير عضو فاعل بالمجتمع. وقد يعتقد البعض أن ذلك المنظور لا ينطبق على تاريخ الأفراد العادية. فالفرد العادي الكادح حكايته تتلخص في أنه يعيش حياة فقيرة، ويموت دون أن يدري عنه أحد. فالبائع المتجول، والشحاذ، وربة الأسرة المتفانية، والأب الكادح، والجار السئ، والشخص الطيب، والعواهر، وتجار المخدرات – إلى ما شابه ذلك – جميعهم أنماط نسمع عنهم في حياتنا اليومية، وقد ينمو إلى علم البعض منا حكاية أي فرد منهم بالتفصيل، بما في ذلك معرفة اسمه، وتحديد عنوانه. ومثل تلك الحكايات الفردية تسمى “بالحكايات الصغرى” Little Narratives. وبإمعان النظر، نجد أنه قد يظن البعض أن تلك الحكايات الصغرى غير هامة؛ فماذا يعني لنا إن كان اسم ربة المنزل “عفاف” أو “شيرين”، أو ما إذا كان فلان قد عانى من الإنفلوانزا مؤخراً. واستناداً على هذا المفهوم، قد يميل البعض ممن ضاق بهم الحال إلى الانتحار مؤكدين أن وجودهم في الحياة مثل عدمه؛ فلن يذكرهم التاريخ، كما لا يذكرهم أحد في الحاضر الذي يعيشونه.
وعلى النقيض تماماً، حياة الأفراد، التي تسمى ب”السرديات الصغرى” هي السبيل الوحيد لتكوين أي “سردية كبرى” التي من خلالها يمكن تشكيل ملامح حياة الشعوب، وقد تغيير سردية صغرى واحدة وجه العالم بأكمله. فالسرديات الكبرى تتألف من مجموعة لا منتاهية من السرديات الصغرى، وتلك السرديات هي الجزء الحر في التاريخ؛ لأن له الحرية أن يرسم ملامح حياته كيفما شاء. ومن ثم، فهي العنصر الثوري الوحيد. وبالنظر لأي سردية صغرى نجد أنها بمثابة الحجر الذي يحرك أي مياة راكدة. فحياة أي فرد مهما كانت ليست ذات قيمة – من وجهة نظره – لكنها هي حجر الزاوية لتشكيل ملامح التاريخ. فلو كانت السردية الكبرى تسمى ب”سردية التحرر”، نجد أن “السردية الصغرى” هي الحرية ذات عينها.
ومن الحكايات الطريفة التي تدلل على ذلك المفهوم، ظهر في الحضارة الأندلسية القديمة محمد بن عيسى بن عبد الملك بن عيسى الزُّهري القرطبيُّ، أبو بكر، المعروف ب”ابن قُزْمان” (1078- 1160)، وهو شاعر وزجال من أشهر الزجَّالين بالأندلس، الذين اشتهروا بإلقاء شعر وزجل غريب المفهوم والمنطوق، حيث كان يخلط اللغة العربية باللغة الأسبانية منتجاً ما يسمى حالياً ب “الفرانكو أراب”. وغالباً، ما يؤلفه من أشعار ليست ذات مغزى جليل وسامي مثل ما يتفوه به شعراء عصره. لكن أحبت العامة – وخاصة الطبقات العاملة أو غير المتعلمة – أشعاره وأزجاله. وعلى النقيض، اعتبرها كبار الشعراء إهانة لفن الشعر. وكان يطلق عليها المثقفين أنها لونا من الفن “يبهج أسافل الناس”، أي أنه فن خاص بالسوقة فقط. لكن بتوالي العصور، نجد أن هذا اللون من الفنون بدأ يتوغل ويسود ليس فقط في عالمنا العربي، بل أيضاً في جميع بلدان العالم، حتى صار تقريباً هو اللون المفضل من الغناء، واعتقد أن أغاني المهرجانات هي خير مثال على ذلك. وبالتأكيد، أشعار وأزجال ابن قزمان لم تكن وليدة قريحته هو فقط، بل مهد لها ألوان من الأدب أو حتى الحديث أشيعت عن أفراد أخرى، لكن استطاع ابن قزمان أن يصنع منها منهاجاً.
وبالوقوف على مغزى ما سبق، من الضروري أن يعلم أي فرد أنه جزء أصيل، وعنصر فاعل في التاريخ، مهما شعر بأن وجوده غير مؤثر. فالفرد منا فكرة، فلو حتى انمحى ذلك الفرد من الوجود، لكن الفكرة لا تموت، ولسوف تجد حتماً من يرويها ويكملها لتصير العنصر الثوري الذي شكل حركة التاريخ.