أضواء على عشيقات جبران

جبران خليل جبران
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نمر سعدي 

عندما قرأتُ رائعة جبران الخالدة وباذخة الجمال والروعة “الأجنحة المتكسِّرة” كنتُ في نحو الخامسة عشرة أو دونها بقليل، أتقرَّى طريق الشِعر والأدب وأسبح في عوالم من نور وخيال وأحلام وحدائق من مطر وضوء، وأرتعش مرهفاً لوقع كلِّ كلمة تسقط كقطرةٍ من الندى على وردةِ قلبي، وتتسرَّبُ في روحي الغضَّة، أتماهى مع ذبذباتها المرهفة وأنصهر وأذوب وأعيش مع جبران الحالم.. الرائي.. والمكثَّف كضبابٍ أبديٍّ، كان جبران يهمس لي بنثرهِ المائيِّ ولغته الورديَّة المتفتِّحة واليانعة، وكانت روحه في المقابل طيفاً غير مرئيٍّ يطالعني من مرايا الأبديَّة، أتذكَّرُ الآن كيفَ عانق هذا الكتاب المشرق الرقراق روحي وصفعها بما يشبه النار الباردة أو المتجمدة، بلهفة كبيرة.. زرقاء وخضراء وبيضاء ومتعددَّة الألوان، بعبير الحبِّ ملأ فضاءاتي. لم تكن “الأجنحة المتكسِّرة” رواية بالمعنى الدقيق للكلمة، كانت عاصفة أنثويَّة، لهباً حنوناً، أو خليطاً غريبا من الأحلام المكتوبة والسيرة الذاتية وفلسفة الحبِّ والتأملات الوجدانية والهمس الذاتي والبحث المضني عن الجمال البشري، وتحليل العواطف الإنسانيَّة. يتجلَّى جبران العاشق في وصف سلمى كرامة بلغة مجازيَّة عالية وعميقة البوح “إن الجمال في وجه سلمى لم يكن منطبقًا على المقاييس التي وضعها البشر للجمال، بل كان غريبًا كالحلم أو كالرؤيا أو كفكر علوي لا يقاس ولا يحد ولا يُنْسَخ بريشة المصور، ولا يتجسم برخام الحفار. جمال سلمى لم يكن في شَعْرها الذهبي، بل في هالة الطُّهر المحيطة به، ولم يكن في عينيها الكبيرتين، بل في النور المنبعث منهما، ولا في شفتيها الورديتين، بل في الحلاوة السائلة عليهما، ولا في عنقها العاجي، بل في كيفية انحنائه قليلًا إلى الأمام، جمال سلمى لم يكن في كمال جسدها، بل في نبالة روحها الشبيهة بشعلة بيضاء متقدة سابحة بين الأرض واللانهاية. جمال سلمى كان نوعًا من ذلك النبوغ الشعري الذي نشاهد أشباحه في القصائد السامية والرسوم والأنغام الخالدة. وأصحاب النبوغ تعساء، مهما تسامت أرواحهم تظلُّ مكتنفة بغلاف من الدموع.
وكانت سلمى كثيرة التفكير قليلة الكلام، ولكن سكوتها كان موسيقيًّا ينتقل بجليسها إلى مسارح الأحلام البعيدة، ويجعله يصغي لنبضات قلبه، ويرى أخيلة أفكاره وعواطفه منتصبة أمام عينيه.
أما الصفة التي كانت تعانق مزايا سلمى وتساور أخلاقها فهي الكآبة العميقة الجارحة، فالكآبة كانت وشاحًا معنويًّا ترتديه فتزيد محاسن جسدها هيبة وغرابة، وتظهر أشعة نفسها من خلال خيوطه كخطوط شجرة مزهرة من وراء ضباب الصباح. وقد أوجدت الكآبة بين روحي وروح سلمى صلة المشابهة، فكان كلانا يرى في وجه الثاني ما يشعر به قلبه، ويسمع بصوته صدى مخبَّآت صدره، فكأن الآلهة قد جعلت كل واحد منا نصفًا للآخر يلتصق به بالطهر فيصير إنسانًا كاملًا، وينفصل عنه فيشعر بنقص موجع في روحه”.
تحضرني العبارة التي افتتح بها جبران كتابه ذاك أو سِفر عشقه الأبدي، مهدياً إياهُ إلى المرأة اللغز في حياته ألا وهي ماري هاسكل
“إلى التي تحدِّقُ إلى الشمس بأجفان جامدة، وتقبضُ على النارِ بأصابع غير مرتعشة، وتسمعُ نغمةَ الروح “الكلِّي” من وراء ضجيجِ العميانِ وصراخهم، إلى M.E.H أرفعُ هذا الكتاب”.
في تلك الفترة ظهرت في أحلامي شبيهة سلمى كرامة وراقصتني تحت المطر الخريفيِّ.. وكانت صديقةَ قصائدي غيرَ المرئيَّةِ وهي تمشي بجانبي في النهارات المغسولة بعبير الذكريات وسراب القصائد وعبق الصيف.
من منا نحن الشعراء من لم يبحث في خيالاته عن سلمى كرامة جديدة يصوغها وفق مقاييسه وعلى هواه؟ من لم يحلم بشبيهة ميشلين أو بظلال ماري هاسكل الممتدَّة كسماواتٍ من حبٍّ وعطف وأمان؟
والشعراء في تجلياتهم العشقية يستدعون عشرات العشيقات السريَّات الأخريات.
قال الروائي الفرنسي دانيال روندو عن جبران خليل جبران: “إنه المجهول الأشهر فوق هذه الأرض. اسم بلا وجه، كاتب دونما أسطورة احتفظ في موته بنضارة المبتدئ. هو عربي كتب بالإنجليزية ولبناني من الجبل، مستكشفاً طريقه في المنفى، عثر على الحرية، واكتشف حبه الكبير لوطنه الأم. وهو قارئ للإنجيل لكنه يتكلم مثل متصوِّف أو مسيحي يعتزُّ بمجد الإسلام، وعاشق لنساء ناضجات يبحث في مرآة أعماله عن صفاء روحه”.
خُلق جبران ليعشق ويحلِّق في سماء الحب والحريَّة والفن والجمال، ولم يُخلق لزجِّ روحه في قفص الزواج الذهبي، فقد تمرَّد عليه وكلَّما حاول الاقتراب منه أو راودته بعض معشوقاته وحاولن دفعه للوقوع فيه راوغ وانفلت ونجا ولو في اللحظة الأخيرة كما حصل بينه وبين ميشلين في باريس.
في مقطع من بحث شيِّق بترجمة عبود الجابري عن مراسلات جبران وماري هاسكل تقول ماريا بوبوفا وهي كاتبة بلغارية تقيم في الولايات المتحدة الأمريكية “في إحدى رسائله الأولى إلى هاسكل من باريس، يصوِّر جبران ما قد يكون أعظم هدية للحب، مهما كانت طبيعته – هدية أن يراه الآخر على حقيقته: “عندما أكون غير سعيد، عزيزتي ماري، أقرأ رسائلك. عندما يطغى الضباب على “الأنا” بداخلي، أستلُّ حرفين أو ثلاثة من الصندوق الصغير وأعيد قراءتها. تذكرني بذاتي الحقيقية، تجعلني أتغاضى عن كل ما ليس عالياً وجميلاً في الحياة”.
وعلى مدار العام التالي، تكثفت علاقتهما. تسجِّل هاسكل التسلسل المحوري للأحداث في يومياتها في اليوم السابق لعيد ميلادها السابع والثلاثين عام 1910: “قضى خليل المساء بالقرب مني. أخبرني أنه يحبني وسيتزوجني إذا استطاع، لكنني قلت أن عمري يجعل هذا الأمر غير وارد”.
قال: “ماري، كلما حاولت الاقتراب منك في الكلام، تطيرين إلى مناطق نائية لا يمكن الوصول إليها”.
قلت: “لكنني سأخذك معي”. وقلت أنني أريد أن أحافظ على صداقتنا دائمة، وأخشى أن أفسد صداقة جيدة من أجل علاقة حبٍّ سيئة.
لكن في الربيع التالي، اتخذت علاقتهما منعطفها الأكثر تميزًا وتمييزًا – القرار، الذي كان جذريًا تمامًا في ذلك الوقت، هو عدم الزواج بعد كل شيء، بل البقاء في التوأمة الأكثر حميمية في الحياة، وقررت ماري أن تتبع “الإصبع الأخيرة لله” في إشارة إلى صواب قرارها. «كنت أعلم دائمًا أن علاقتنا ستدوم”، هذا ما قالته هاسكل لاحقًا في القرار، لذلك “أردت استمرارية العمل الجماعي الواعي”، هذه الفكرة، الناشئة عن الشهامة الهائلة لحبها غير المتملك، ستقود جبران في النهاية إلى الخلود المعافى للعلاقة الصحيحة.بعد شهر من قرار عدم الزواج، يوجه جبران رسالة إلى هاسكل من نيويورك: “عدتُ للتو من المتحف. آه كم أريد أن أرى هذه الأشياء الجميلة معك. يجب أن نرى هذه الأشياء معًا يومًا ما. أشعر بالوحدة الشديدة عندما أقف وحدي أمام عمل فني عظيم. حتى في الجنة، يجب على المرء أن يكون لديه رفيق يحبه لكي يستمتع بها بشكل كامل”.
في إحدى رسائله الأولى إلى ماري هاسكل من باريس، يخاطبها قائلاً: “حينما يعتريني الغمُّ، يا عزيزتي ماري، أقرأ مكاتيبك. حينما يغمر السديم “الأنا” في داخلي، آخذ اثنتين أو ثلاثاً من رسائلك من الصندوق الصغير وأعيد قراءتها. إنها تذكِّرني بذاتي الحقيقية. إنها تجعلني أبصر كل هيِّن وجميل في هذه الحياة. ينبغي لكل واحدٍ منا، يا عزيزتي ماري، أن يجد ملاذاً في مكان ما. وملاذ روحي جنَّة غنَّاء حيث تحيا معرفتي بك”. في تأكيد واضح على أن ماري هي المرأة التي أصبحت ملاذَ روحه الوحيدة.
كان علاقة جبران بماري ممتدَّة وطويلة بدأت من بدايات شغفه بالكتابة والفن واستمرَّت إلى آخر أيامه. بينما علاقته بسلمى كرامة كانت حبَّاً خاطفاً. فسلمى كرامة هي حبَّه الأوَّل وفتاة أحلامه وحبيبته في صباه ومطلع شبابه. غضَّة، ليَّنة، ناعمة كنسمةٍ في نيسان. شفَّافة كماء الينابيع البريَّة، تزداد نصاعةً بجمالها وفتوَّتها. أما ماري هاسكل فكانت المرأة القويَّة الناضجة، الحاضنة، المحتوية، الداعمة معنويَّا وماديَّاً والمتفهِّمة لهموم الكاتب الطموح وهواجسه الصاخبة. كأنها السرحةُ الوارفة الظلال التي آوت طير قلبه المتعب بعد رحلة تشرُّدٍ في عاصفةٍ ممطرة. وإرثُ رسائلهما المشتركة الذي يربو على عشرة آلاف صفحة في أرشيف مكتبة جامعة “نورث كارولينا” يؤكِّد قوَّة العلاقة بينهما وعمقها الإنساني وتركيبتها المعقَّدة. فيما يذهب بعض الباحثين في سيرة جبران إلى كون ميشلين الحضن الجسدي الدافئ المحتوي لعذابات الشاعر والفنَّان والفيلسوف، وقلقه الوجودي.
ولا نغفل في هذا السياق المرأة الجميلة، الموهوبة، المبدعة، والعاشقة التي وسمت حياة جبران بالشعلة الزرقاء ألا وهي مي زيادة. أحبَّ جبران مي زيادة حبَّاً روحيَّاً حقيقيَّاً بكلِّ جوارحه وبكل شغف روحه وأشواقها، وتمنَّى لو التقى العاشقان مع أن سبل اللقاء كانت متاحة في حينه، فجبران في نيويورك ومي في القاهرة، ولكن هناك من اعتقد من الباحثين بأنه ربما تقاعس وتكاسل العاشق عن لقاء حبيبته الأرضيَّة. تُرى كانت تشوب هذا الحبَّ الطاهر المطهَّر النقي بعض النوازع الجسديَّة؟ الرسائل بينهما تقول الكثير، تقول أنهما كانا عاشقين من صنف خاص ومتفرِّد ونادر وأنهما كانا في علاقة روحيَّة قويَّة عميقة وشبه أزليَّة، تجمعهما خيوط الحبِّ العذري متيَّمين ببعض ومسكونين بنشوة الحنين لذاتيهما.
يطلق جبران وجدانه ليحلِّقَ في سماءِ الحبِّ وهو ينتقي بدقة ومهارة عبارات الشوق والوجد والانعتاق ليخاطب بها حبيبته مي “ما أعذب رسالتكِ في قلبي. ما أحلاها في قلبي يا مي.
ذهبتُ إلى البرية منذ خمسة أيام، ولقد صرفت الأيام الخمسة مودعاً الخريف الذي أحبه، ورجعت إلى هذا الوادي من ساعتين، رجعت مثلجاً، مجلداً، ذلك لأنني قطعت مسافةً أطول من تلك المسافة الكائنة بين الناصرة وبشرِّي في سيارة مكشوفة… ولكن… ولكن رجعت فوجدت رسالتكِ، وجدتها فوق رابية من الرسائل، وأنتِ تعلمين أن جميع الرسائل تضمحل من أمام عينيَّ عندما أتناول رسالة من محبوبتي الصغيرة، فجلست وقرأتها مستدفئاً بها. ثم أبدلت أثوابي. ثم قرأتها ثانيةً، ثم ثالثةً، ثم قرأتها ولم أقرأ شيئاً سواها. وأنا يا مريم لا أمزج الشراب القدسيَّ بعصير آخر.
أنتِ معي في هذه الساعة. أنتِ معي يا مي، أنتِ هنا، هنا، وأنا أحدثكِ ولكن بأكثر من هذه الكلمات، أحدث قلبكِ الكبير بلغة أكبر من هذه اللغة، وأنا أعلم أنكِ تسمعين، أعلم أننا نتفاهم بجلاءٍ ووضوح، وأعلم أننا أقرب من عرش الله في هذه الليلة منا في أيِّ وقتٍ من ماضينا”.
ولكن الكاتب الجزائري مولود بن زادي يؤكِّد أن جبران لم يعترف بحبِّه لمي زيادة قائلاً ” ولا نلتمس أي اعتراف مباشر بحبه لمي زيادة طيلة هذه السنوات، ما يشكك في مصداقية هذا الحب. وأي حب هذا الذي يدوم عشرين سنة بدون أن يعبّر فيه الحبيب عن عميق الحب ومرارة البعاد! وها هو جبران من جهة أخرى وعكس ذلك تماما، وبعيدا عن أي خجل أو زهد، يعترف بحبه السرمدي للمرأة التي أحبها حقا، ماري هاسكل: «سأحبك حتى الأبدية. فقد كنت أحبك قبل أن نلتقي كبشريَيْن من لحم ودم بزمن طويل. عرفت ذلك حين رأيتك للمرة الأولى. كان ذلك هو القَدَر. أنتِ وأنا قريبان؛ ففي الجوهر نحن متشابهان. أريدك أن تتذكري هذا دائمًا». ويؤكِّد أيضاً أن جبران كان رجلا مولعا بالنساء “جبران لم يحب امرأة واحدة، فقد تقاسم حياته عددٌ من النساء من أمثال سلطانة تابت وجوزيفين بيبوديه وميشلين وشارلوت تيلر وماري قهوجي وماري خوري وكورين روزفلت ومسز ماسون وبربارة يونغ. وكثير من المراجع يحصي حوالي 12 امرأة. وليس من شك في أن ماري هاسكل انفردت بين كل النساء لتكون الحبيبة رقم واحد حتى أنه لم يتردد في كشف حبه لها وطلب يدها. والغريب في الأمر أنه كان يحيا تجارب غرامية مع بعض النساء في الوقت الذي كان يبعث فيه بأجمل رسائل «حب» إلى مي زيادة توهم أي قارئ أنه لم يحب سواها!”
ينطفئ المبدعون فجأة، أو بعد مرضٍ قصير أو سريعٍ، يلفظون أنفاسهم الأخيرة قبل كلماتهم الأخيرة، وفي أحيان كثيرة يودِّعون الحياة في منتصف أعمارهم تقريبا كما هو الحال مع جبران الذي انطفأ في الثامنة والأربعين وحيداً في مستشفى القديس فنسنت في مدينة نيويورك في الولايات المتحدَّة الأمريكيَّة. يرحل الشعراء والمبدعون كرحيل النجوم ولكنَّ أرواحهم تبقى تشعُّ برهافة وبشكل بطيء وبكامل العذوبة، كنجمة صباحٍ زرقاء إلى الأبد.

مقالات من نفس القسم