رواية “رسائل الجنة”: الحياة كمسرحية بطلها كومبارس

رسائل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسام الدين سيد 

يقول شوبنهاور «العالم إرادة وتمثل، إرادة تُريد التكاثر عبر ذوات مُتخيلة هي نحن، لهذا الجنس يختبيء خلف كل شيء، هو إرادة الحياة نفسها»
بينما تقول عفاف بلهجة أكثر بساطة:
«هل تعلم أن أغلب مشاكلنا سيُحل لو إرتحنا، مشاعر السيطرة، القوة، الغضب، اللهاث وراء الحب، الحنان، كلها مكانها السرير وليس الشارع أو الشغل»
تدور رواية «رسائل الجنة» للروائي أحمد سمير حول الجنس باعتباره جزء أصيل من تكويننا الإنساني، ويعتبره فلاسفة مثل شوبنهاور الرسول الوحيد عن إرادة عمياء تحكم العالم وترغب بالإستمرار وحسب، تؤسس الرواية للحظة التي يتحول فيها الجنس مُجتمعيًا من إحتياج فطري، لمُشكلة ثقافية، يعتبر البعض تبسيط النظر للجنس كاحتياج فطري مثل الطعام تبسيط إباحي، تعريفنا في طيف منا كمخلوقات جنسية يُحيلنا دومًا لصور حيوانات مُقززة تُمتع ذاتها، تستكشف الرواية الوجه الآخر، ماذا لو عاملنا الجنس كفيل جاثم في غرفة لكننا ندور حوله، كجائزة لا تسمح بها الظروف المُجتمعية إلا بعد 15 سنة من البلوغ(في الظروف الجيدة)؟
يقول فرويد أن إحتياجاتنا الغير مُلباة تعود من جديد في صور أكثر رُعبًا مما لو أشبعناها، تصحبنا الرواية في هذه الصور، مُجتمع حول الجنس لمُشكلة مُخفاة، فعاد الجنس مثل غول يتمظهر بغيابه، وثمن ذلك أن إحتياجنا الجنسي سوف يُعيد تشكيل كل شيء. بأكثر الطرق تراجيدية وعدوانية
__
«نحن نعيش مسرحية، نقول ونفعل ما يريدونه، نمثل أمام جمهور لازم يخرجوا مبسوطين، تمثيل؟ حتى تلك ترقية لا نستاهلها، نحن كومبارس، مجاميع في مشهد زحام في الشارع»

يتتبع الكاتب أربعة أجيال من الأزواج، في مجتمع يتحرك من بداية القرن حتى الآن في إتجاه واحد وهو توسيع الفجوة بين سن البلوغ وسن الزواج، ليصير الجنس سؤالًا مُلحًا بلا إجابة، وأي محاولة للإجابة عليه خارج كتالوج الأعراف ستصم أصحابها بالعُهر.
أن تمتلك، الرغبة، السن المُناسب، الحبيبة، هذا يكفي في الدانمارك لحياة سعيدة أو ألمانيا، أما في مصر هذا صفر، أنت لم تمتلك شيئًا بعد، سيظل الأمر لعبة فروق توقيت، أن تمتلك شيء ويغيب آخر دومًا.
لن تكون حبيبتك الأولى هي اختيار قلبك إنما هي أول فتاة سمحت الظروف باختلاس قُبلة منها، باستكشافها جنسيًا في غفلة من الكبار، كذلك لن تكون زوجتك الأولى هي اختيار قلبك إنما هي أول فتاة أتاحتها الظروف بعد أن تجهزت ماديًا خلال عقدين، ولن يسيئك ذلك. لإنك لم تعد تنتظر سوى الجنس المختوم بقبول اجتماعي، أي مُحاولة لمزاوجة الجنس والحُب في قالب واحد ستصم من تفعلها معك بالعُهر، متاهة مؤسسة أخلاقيًا ليس تبعًا لأعراف المجتمع بل أعراف الليمبو، المكان العالق بين الجحيم والفردوس.
___
يعتمد الكاتب على تنويع طرق السرد بين المسرحية والمقال، ليس عن رغبة في إستعراض مهارات الكتابة إنما يُحول الكاتب عمدًا شخوص الرواية لأسرى عرض سينمائي، مسرحية جميع الذوات فيها ضحت بأصالتها لصالح أعراف تسحقهم، ليعيشوا حكاية مقبولة مُجتمعية ينالوا في نهايتها التصفيق وليس الحُب، يبدو الأمر سوداويًا لكنه شديد الواقعية

كناقد سينمائي يُمكنني أن أخبرك الحكاية ذاتها بتتابع مشابه عبر الأفلام: جيل الثمانينات عبر عنه الشاب أحمد زكي في «حب فوق هضبة الهرم» الذي يُريد فقط وصال حبيبته، ولا يجد مكانًا لقبلة، لن ينظر لحبيبته باطمئنان إلا في عربة الترحيلات بعدما أدانهما المجتمع، لن يرى براح حبيبته سوى في سجن.
جيل التسعينيات، ستجد فيه شخصية المنسي، شاب يحيا وسط خيالاته الجنسية بينما يعمل في محطة تحويلات، قطارات تسير بسرعة لوجهاتها بينما هو عالق في خيالاته، لا يُمكنه أن يتحرك خطوة للأمام مثل القطارات التي يديرها
في الألفية ستجد شباب «فيلم ثقافي»، لم تعد المحاولة مجدية مثل جيل الثمانينات ولم يعد الخيال سهلًا مثل جيل التسعينات، يدور الفيلم بأكمله حول محاولة للإختلاء لإيجاد مكان لاستهلاك الإباحية.

كل الأبطال ينتهوا مُدانين في قبضة السلطة، بينما في الرواية ينجو الأبطال من السجن أو الوصم العام لكن ينتهوا لمصير أسوأ، كهولة ذواتهم الشابة، ينظروا لنُسختهم القديمة ويُقروا أنهم لم يعيشوا إلا كما أراد المجتمع. وكما كان نص المسرحية. بل تحولوا بأدوارهم الجديدة كآباء وأبناء لكهنة أو رعاة لكل الأعراف التي سحقت شبابهم وأجبرتهم على إختيار الشخص الخطأ والعيش في الظل مع من يحبونه خوفًا من الوصم، كل المعاناة التي صنعت حكايتهم سوف يصدروها بعناية لأبنائهم في بنية دائرية من الجحيم المُستعاد
__
«أنت مجرد شخص عالق في علاقة لا تُرضيك جنسيًا، إنسان عادي يواجه مشكلة عادية، لا تميز لديك»
ما يجعل النص شديد الحُزن هو أن الراوي يؤسس من البداية أن مُعاناة أبطاله ليست ملحمية، مُعاناة شديدة التفاهة، الجميع يُقاتل هواجسه ومخاوفه وخزيه وطمعه، تجليات تبدو عملاقة لكن ورائها غريزة فطرية غير مٌلباة لا أكثر، تقول البطلة جنة
« يا عمري معاناتنا لو مر بها ملايين فالألم ألم، لن يمحوه كثرة عدد من عانوا منه»
تحاول الرواية تأطير المفارقة بين آلام عظمى وقرارات تُغير الحياة للأبد من خلال أصوات شديدة الخصوصية، لكن في النهاية تُدرك أن الحكاية جماعية وعامة،( يدعوك الكاتب في النهاية لأن تُسميها بنفسك وتختار شخصيتك فيها، لإنها حكايتك بصورة أو بأخرى)
حكاية جذرها شديد البساطة، احتياج غير مُلبى سيعود في صورة غول ليقتات على أصحابه، تأتي نهاية الرواية شديدة العادية والحزن، تجرد الشخصيات من خصوصيتها وتظهر حقيقتها كرموز روائية لمأساة عامة، مأساة لفرط عموميتها تصير مُبتذلة. ولفرط بساطتها يصير العمر المهدور فيها تراجيديا رخيصة

تحزن ربما في النهاية لموت البطل، ثم تتذكر بابتسامة أن البطل لو كان حيًا كان ليُعيد قصة أبيه وجده، كليهما عالق بين امرأة تزوجها عندما بات مؤهلًا ماديًا، وحبيبة إختبر معها الجنس الحر من القيود، لكن المجتمع لن يزوجه إياها أبدًا دون وصمه بالدياثة ووصمها بالعُهر
__

تدور الرواية حول قصة حُب معتادة بين الهجر والوصال بين أحمد وجنة، قصة تقود السرد فيها خطابات المراهقة جنة التي تحتل ثلثي الرواية، وبقدر ما تبدو مُبتذلة أو ركيكة أدبيًا في كتابتها إلا إنها تُجسد وجدان مراهقة، لن تكتب إلا بتلك الطريقة، يختبيء النص خلف صوت المراهقة، شديد الطزاجة، الذي يختبر تعقيد العالم بمزيج من التمرد والإستكشاف، نستكشف معها ما يعنيه أن تحيا أنثى في مجتمعنا، نٌدرك كل ما تواجهه ولا يُفاجئنا، لكن يُفاجئنا أنه يفاجئها، وأن أسئلتها على سذاجة صياغتها وطرحها تحمل موضوعية لا نملك ردًا عليها. تحمل صدق بريء لم يخلق المألوفية والتطبع بعد مع المأساة

نُدرك أن البطل أحمد لم يُحبها أبدًا، هو تجسيد السلبية الكاملة، بينما هي كانت تجلي لمشاكل الذكورة والجنس خاصته، أول جسد يستكشفه، أول رمز للغواية يهرب منه بالتدين، باللوم، بالإحتقار، أول قيد مسئولية يتذوق الحرية بخلعه، وأول ملاذ من الوحدة يطمأن بوصالها من جديد، لا تمثل جنة إلا مرآة أو تجلي لشخص عاجز عن توصيف إحتياجاته في مُجتمع لا يسمح للفرد بإمتلاك حق التوصيف والصياغة قبل الثلاثين. في غياب المسار الطبيعي للحُب والجنس، لا تتخلق العفة بقدر ما تتخلق إحتياجات أكثر قسوة وعوار أكثر إلحاحًا، ومتاهات بلا جدوى وبعبثيتها ترسم مصير أصحابها للأبد. يدور أحمد في تلك المتاهات لكنه يكره جنة لإنها دومًا تخرج منها نحو توصيف المشكلة كما هي، يقول :«الجحيم أن يكون ما في قلبك على لسانك، الجحيم هو جنة»
يريد أحمد أن يكون ملائكيًا كما يريد المجتمع بنفاقه وشهوانيًا كما يريد جسده ويظل عالقًا خلف مرايا العجز بينما جنة تقول
«حبنا حب ملائكة لكن الملائكة لا يتقلبون في السرير كل ليلة، لأنهم يتمنون حبيبهم في أحضانهم أو داخلهم»
__

في كل مرة نخرج من متاهات الشخوص للفضاءات العامة، للشوارع، نجد الجنس حاضرًا في صور التحرش الذي تعرضت له البطلة كثيرًا، وقام به البطل كثيرًا، الثمن الحتمي لغياب الجنس في نظام مجتمعي يُحول الزواج والجنس لمشكلة هو هروب التجربة الأكثر حميمية وخصوصية لدى البشر من الغرف المُغلقة للحافلات المزدحمة، والإحتكاك الحيواني بلحم لا تعرفه بحثًا عن ذروة مُختلسة. أكثر المفاهيم والتابوو الذي إجتهدت الاعراف لحصره خلف الأبواب المُغلقة سيعود في عدالة فرويدية بأكثر الصور قبحًا في أكثر الفضاءات عمومية وجماعية
__

تُروى الحكاية من خلال راوٍ عليم، نرى الشخصيات تتوجه له بالمُخاطبة في أقصى أحوال الإضطراب والعجز، تطلب تفسيرًا بينما التفسير ماثل أمامهم، الراوي أقرب لملاك أو ألوهة حنونة وساخرة بشكل لاذع، ترى شخوصها عالقين في متاهات دائرية بإسم الرب، بينما المخرج أمامهم، بينما تحمل جنة في شخصيتها التمرد والغضب والطفولة والتساؤل والرفض والمحاولة باعتبارها أكثر شخوص الرواية إيجابية، يحمل إسمها الحل ذاته، في كل ما سبق الجنة و في قبول التيه والإنصياع من كل الشخوص جحيمهم الأبدي من عدم التحقق.

في النهاية عندما تعود كل شخصية لماضيها، لحكايتها، لا تجد أبدًا سكينة، لم نختار من نُحبهم لأننا أحببناهم، ولم نترك من أحببناهم لإنهم سيئون، لم نحيا قصتنا لإنها كانت قصة رديئة، بل لإنها إرتجال في مسرحية مُعدة جيدًا،و الكومبارس لا يرتجلون.
_
يعيب الرواية الطول المفرط الذي كان يُمكن إختصاره، وحضور قوي لصوت أحمد سمير، كاتب المقالات الذكي الساخر، حتى لو اختبأ خلف ألوهة ساخرة، حضور جعل بعض أجزاء الرواية مقالات شديدة المباشرة في توصيف المٌشكلة، لكن ربما ناسب طبيعة ما أراده الراوي، أن يروي إله ساخر جحيم صنعه شخوصه بإرادتهم ونسبوه له، وكذلك يجبر الأمر ذكاء الراوي في تقمص مشاعر مراهقة طغت على السرد بكتابتها. وطعم المرارة اللاذع الذي تبقى لدي بعد الصفحة الأخيرة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب وروائي مصري 

مقالات من نفس القسم