أتَحَدَّثُ عنِ المدينة

أُكتافيو باث
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أوكتافيو باث

ترجمها عن الأسبانية حيدر الكعبي

إنها بـِدْعةُ اليومِ وخرائبُ ما بعدَ غد؛ فهي تـُدفـَن وتـُبعثُ كلَّ يوم،
وهي مقيمة في الشوارع، والساحات، والباصات، والتاكسيات، والسينمات، والمسارح، والبارات، والفنادق، وأبراج الحمام، والمدافن،

إنها المدينة العظيمة اللانهائية كالمجرة، والتي تكفي غرفةٌ من ثلاثة أمتار مربعة لاحتوائها،

المدينة التي تحلم بنا جميعاً، والتي نصنعها وندمرها ونعيد صنعها ونحن نحلم

المدينة التي نحلم بها جميعاً، والتي لا تكف عن التغير بينما نواصل الحلم

المدينة التي تستيقظ كل مئة عام، فتتطلع في مرايا الكلمات، وحين لا تتعرف على نفسها تعود للنوم

المدينة التي تتبرعم من أجفان المرأة التي تنام الى جانبي، وتستحيل بنصبها التذكارية وتماثيلها وتواريخها وأساطيرها الى نبعٍ من العيونٍ، كل عين تعكس المشهد نفسه مسمّراً في حدقتها أمام المدارس والسجون، والأبجديات والأرقام، والمعابد والقوانين

النهر الذي هو أربعة أنهر: البستان، والشجرة، والأنثى والذكر اللذان يرتديان الرياح،

— لنعُدْ، لنعُدْ، لنكن صلصالاً مرة أخرى، لنستحمَّ في ذلك الضوء، لننمْ تحت تلك الأجرام السماوية،

لنطـْفُ على مياه الزمن كورقة القيقب المشتعلة يجرفها التيار،

لنعُدْ — أنحن نائمون أم مستيقظون؟ نحن موجودون. موجودون، لا غير. يطلع الفجر، الوقت مبكر،

نحن في المدينة، لا نغادرها إلا لنسقط في مدينة أخرى مطابقة لها ومختلفة عنها،

إنني أتحدث عن المدينة الهائلة، عن الحقيقة اليومية المكونة من كلمة واحدة لا غير— «الآخرون»،

ففي كل واحد من هؤلاء «أنا» مختصرةٌ في «نحن» — «أنا» مجروفة،

أتحدث عن المدينة التي بناها الأموات، والتي لم تزل مسكونة بأشباحهم العنيدة، ومحكومة بذكراهم المستبدة،

المدينة التي أتحدث معها حين أتحدث مع لا أحد، والتي تلقنني الآن هذه الكلمات المؤرَّقة،

أتحدث عن الأبراج والجسور، والأنفاق ومرائب الطائرات، والعجائب والكوارث،

أتحدث عن الدولة المجردة وجهاز شرطتها الملموس، وعن معلميها وسجانيها ووُعّاظها،

عن المحالِّ التجارية حيث يوجد كل شيء، وحيث ننفق كل شيء، وحيث يستحيل كل شيء الى دخان،

عن الأسواق وأهرامات ثمارها، عن تعاقب الفصول الأربعة، عن الذبائح المعلقة في الكلاليب، عن تلال البهارات، عن أبراج القناني والمعلبات، عن كل الطعوم والألوان، عن كل الروائح والمواد، عن طوفان الأصوات — المياه والمعادن والأخشاب والطين — عن الحافلات والمساومات والصفقات المشبوهة القديمة قدم الدنيا، عن مباني الصخر والرخام والأسمنت والزجاج والحديد،

عن الناس المحتشدة في الأبهاء والبوابات، عن المصاعد التي تعلو وتهبط كالزئبق في المحارير،

أتحدث عن المصارف وتعليماتها الإدارية، عن المعامل والمشرفين عليها، عن العمال ومكائنهم الزانية بمحارمها،

عن المسيرات الاستعراضية الأزلية للدعارة في شوارع طويلة طول الرغبة والضجر،

عن ذهاب وإياب السيارات، مرآةً للهفاتِنا، ومشاغلِنا ورِغائبـِنا، (لماذا؟ ومن أجل ماذا؟ وإلى أين؟)،

عن المستشفيات المكتظة دائماً، حيث نموت دائماً وحيدين،

أتحدث عن ظلال الكنائس، وعن اللهب المتراقص لشموع المذبح

كألسنة متلعثمة يتحدث بها البؤساء الى القديسين والعذراوات بلغة متقدة متذبذبة،

أتحدث عن عشاءٍ تحت مصباحٍ أعورَ على مائدةٍ عرجاءَ في صحونٍ مكسّرة،

أتحدث عن قبائلَ بريئة تخيم في الأراضي القاحلة مع نسائها وأطفالها وحيواناتها وأشباحها،

عن الفئران في أنابيب المجاري، وعن العصافير الشجاعة التي تعشش على الأسلاك الكهربائية في الكورنيشات وفوق الأشجار الشهيدة،

عن القطط المتأملة وحكاياتها الفاسقة تحت ضوء القمر— إلـه السطوح المتوحش هذا،

عن الكلاب الضالة — الفرانسيسيين والرهبان البوذيين — الكلاب التي تنبش عظام الشمس،

أتحدث عن النُسّاك، عن أخوّة الأحرار، عن شعوذات القضاة، عن عصابات اللصوص،

عن أكاذيب دعاة المساواة، عن جمعية أصدقاء الجريمة، عن نادي المنتحرين، عن «جاك مقطـِّع الأوصال»،

عن «صديق الرجال» شاحذ شفرة المقصلة، عن القيصر «حبيب الجنس البشري»،

عن الحارات المشلولة، عن الجدران الجريحة، عن النافورات الجافة، عن التماثيل الملطخة،

أتحدث عن مزابل بحجم الجبال، وعن الشمس الصامتة التي تتخلل سحب الدخان،

عن الزجاج المهشم وصحارى أنقاض الحديد، عن جرائم البارحة، عن مأدبة (ثريمالسيون) الخالد،

عن القمر بين هوائيات التلفزيون، وعن فراشة على قارب من القذارات؛ أتحدث عن مطلع الفجر مثل سرب من مالك الحزين على بحيرة، عن شمس بأجنحة شفافة تحط على الأوراق الحجرية للكنائس، عن تغريد الضوء في الأغصان الزجاجية للقصور،

أتحدث عن ظهائر بدايات الخريف، عن شلالات الذهب الروحاني، عن تحولات العالم، حيث يفقد كل شيء جسده، حيث يغدو كل شيء معلقاً،

حيث يفكر الضوء فنغدو محض أفكارٍ طرأت في ذهن الضوء، وطوال لحظة مديدة يغضي الزمن، فنصبح هواء مرة أخرى،

أتحدث عن الصيف، وعن الليل الهادئ الذي ينمو على مهله في الأفق مثل جبل الدخان ثم يتفتت شيئاً فشيئاً وينهار فوقنا كالموجة،

عن تصالح العناصر، عن جسد الليل الممدد كنهر هائل غلبه النوم بغتة، ونحن نتأرجح على أمواج تنفسه، وقد أصبح الزمن محسوساً حتى ليمكنك أن تمسكه كالثمرة،

ها قد أشعلوا المصابيح، فاتقدت الطرق بوميض الرغبة، وفي المتنزهات راحت الأضواء الكهربائية تتخلل الأوراق وتسقط فوقنا مثل رذاذٍ أخضر فسفوريّ يضيؤنا دون أن يبللنا، والأشجار تهمهم، وتقول لنا شيئاً،

ثمة شوارع مظللة كابتسامات غامضة لا ندري الى أين تؤدي — لعلها تؤدي الى مرافئ الجزر الضائعة،

أتحدث عن النجوم فوق الشرفات العالية وعن العبارات المستغلقة التي يكتبْنها على صخرة السماء،

أتحدث عن وابل المطر الذي جَلَدَ الزجاج وأذل الأشجار والذي دام خمساً وعشرين دقيقة، خلـف إِثْرَها ثقوباً زرقاء في الأعالي، ونافوراتٍ من الضوء، وبخاراً يتصاعد من الأسفلت، وسياراتٍ تلمع، وبركاً تبحر فيها ظلال زوارق،

أتحدث عن غيوم بدوية، عن موسيقى نحيلة تضيء غرفة في الطابق الخامس، عن ضجيج الضحك في منتصف الليل مثل مياه بعيدة تجري بين الجذور والأعشاب،

أتحدث عن اللقاء المأمول مع ذلك الشكل المفاجئ الذي يتجسد فيه المجهول ويتمظهر للجميع:

عيوناً تشبه ليلاً نصف مفتوح، أو نهاراً يستيقظ، أو بحراً يستلقي ممدداً، أو لهباً ناطقاً، أو نهوداً جريئة كفيضان من الأقمار،

أو شفاهاً تقول «افتح يا سمسم» فينفتح الزمان، وتستحيل الغرفة الصغيرة الى حديقة للتحولات، ويتصل الهواء بالنار، ويختلط الماء واليابسة،

أتحدث عن قدوم اللحظة التي يدور فيها المفتاح في القفل فيتوقف الزمن عن الجريان، هنالك في الجانب الآخر الذي هو هنا بالضبط،

لحظةِ «الى هنا»، لحظةِ نهاية الفواق والأنين والقلق، حين تفقد الروح الجسد، وتنسل عبر ثقبٍ في الأرض، وتسقط في ذاتها، وقد انخرق قعر الزمن، فدخلنا في ممر لا نهاية له، ورحنا نلهث داخل دهليز،

أتراها تقترب تلك الموسيقى أم تبتعد؟ أتراها تشتعل تلك الأنوار الشاحبة أم تنطفئ؟ ويغني المكان ويغضي الزمان: إنه اللهاث، إنها النظرة التي تنزلق عن الجدار البرّاق، إنه الجدار الذي يصمت، الجدار،

إنني أتحدث عن تاريخنا العام وعن تاريخنا السري، تاريخك وتاريخي،

أتحدث عن غابات الحجارة، عن صحارى الأنبياء، عن النفوس الآهلة بالنمل، عن تحالفات القبائل، عن بيوت المرايا، عن متاهات الأصداء،

أتحدث عن الضجةِ الكبرى التي تأتي من أعماق الزمن، الهديرِ الغامض لأمم تتوحد وتتبعثر، دورانِ الحشود وأسلحتها وتساقطها كأحجار من سفح، الضجيجِ الأصم لعظامٍ تنحدر الى قعر التاريخ،

أتحدث عن المدينة راعية القرون، أمنا التي تنجبنا وتفترسنا، تخترعنا وتنسانا.

Paz, Octavio. Obra poética (1935-1988). Barcelona: Seix Barral, 1998

https://www.alqabas.com/article/5877821 :إقرأ المزيد

مقالات من نفس القسم