“ظلان لامرأة واحدة”.. في متاهة الوجود الهش

amal sobhy
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أفين حمو 

ليس من السهل أن تتورط في رواية كأنها تكتبك قبل أن تكتبها، وكأنها تُسائل جزءًا فيك كنت تظنه نائمًا أو طي النسيان. “ظِلان لامرأة واحدة” ليست رواية تُقرأ من الخارج، بل عليك أن تنزلق فيها كما ينزلق أحدهم في عتمة نفسه، أو كما يعود شخص إلى بيته بعد غيابٍ طويل، ليجد أن كل الأبواب قد تغيّرت مفاتيحها.

رواية “ظِلان لامرأةٍ واحدة” للكاتبة السورية آمال صبحي، تفعل ذلك، ثم تتركك أمام مرآة لا تعكس سوى ما تهرب منه.تنتمي الرواية الى الادب النسوي العربي المعاصر حيث تعكس قضايا المراة العربية في مواجهة التحديات الاجتماعية والسياسية.وتمثل ما يمكن تسميته بـ”الرواية المُنكسرة”، لا لأنها تنهار داخليًا، بل لأنها تكتب عن الكسر بوصفه فعلاً معرفيًّا وجماليًّا. البطلة ليست فقط طبيبة، بل صورة رمزية لإنسان العصر، الذي صار يحمل عبء هويته المهنية، الاجتماعية، والأنثوية، دون أن يُمنح حق التوقف عن الأداء.

ذات طفولة كانت كل أحلامي تتلخص في ارتداء المريول الأبيض، وكان لقب طبيبة منتهى أمنياتي، واليوم يتحول المريول إلى كفن يلزمني طيلة ساعات عملي ويرافقني مرة كل أسبوع بهيئة مناوبة. ولقب طبيبة بات عبئا ثقيلا، أحاول ما استطعت التبرؤ منه ولكن دون جدوى كما لو أنه وشم أبدي الصلاحية.

ليلى تعمل طبيبة في الثلاثين من عمرها، في دمشق 2013، بلد مثقل بالاسئلة وسماءٍ من رصاص، وأرضٍ تنزف كل يوم. تعيش في شظايا ماضيها وحاضرها المشتت، لا تُشبه النماذج التي اعتدناها. فهي لا تبحث عن رجل يُكملها، بل عن معنى تنجو به من شتاتها. امرأة بين يونس وعماد، بين الماضي الذي ينزف كل ليلة، والحاضر الذي لا يمنح سوى مزيد من الخواء. هي ليست امرأة عاشقة. هي وطنٌ ضائع، هواءٌ خانق، وذكرياتٌ ثقيلة كالتراب. فتقول : “عامان من الحرب كانا كافيين ليضعاني أمام مفاجآت وصدمات كثيرة وخيبات أكثر. لم اتخيل أن يكون معظم الذين أعرفهم لصوصا، ما كان ليخطر على بالي أن أحدا من معارفي يمكن أن يقتل عصفورا، وإذا بمعظم الذين أعرفهم يتحولون إلى قتلة “.

تضعنا آمال صبحي أمامها كمرآة تنكسر مع كل نظرة. هل هي حقًا تلك المرأة التي تُحاول أن تجد الخلاص في حب يهرب منها؟ أم أنها تلك التي تتلمس كيانها في الحطام؟ لا فرق، لأنه في الحرب وفي الحب، لا تكون هناك إجابات واضحة، ولا تكتمل الصورة أبدًا. وفي خضم هذه العلاقات، نجد أم ليلى، الأم التي تبدو كأنها امتداد لصمت طويل، لنساء كثيرات يمررن فوق الجراح دون أن يتوقفن، يرَبّين بناتهن على الصبر والصمت ، ثم يُفاجأن بانكسارهن. والأخ ، والذي نظنه إنه اليد التي تمتد لتضمّك، قد تكون ذاتها التي تخنقك لاحقًا. ليلى عرفت هذا جيدًا، يوم اكتشفت أن من كانت تناديها بـ”صديقتي”، صارت جثة باردة لأن شقيقها قرر أن الوطن لا يسع قلبين.

والحب؟ لم يكن مخلّصًا. يونس رجل في الخامسة والخمسين من عمره كان ضابط في الآمن السياسي الذي أحب ليلى واحبته ووهبته أغلى ما تملك لكنه تركها دون ان يخبرها السبب لنكتشف في النهاية انه كان السبب في موت والدها الشبح الذي ظل يلاحقه طيلة اعوام عدة . أما عماد صورةً أخرى للخذلان. يعشقها من خلف الكاميرا، لكنه لا يتجرأ أن يدخل معها الصورة.

الرواية ليست عن الحرب فقط، بل عن الحروب الخفيّة: تلك التي تقع في الداخل. داخل القلب. داخل الذاكرة. داخل العلاقات التي لم تُكمل معنا الطريق.

كانت أمّها أول جرح لم يتوقف عن النزيف: امرأة تؤمن بالخضوع كفضيلة وحيدة، وتُربّي ابنتها على أن الطاعة نجاة. فتقول في فقرة من الرواية: ” ارتديت الحجاب فقط مجاملة لأمي ولكنها ماتت قبل شهرين، فمن أجامل؟“.

لكن ليلى، دون أن تدري، كانت تكسر وصاياها في كل مرةٍ صمتت فيها عن الحُب، أو ابتلعت الغضب، أو داوت جريحًا لا تعرف إن كان قاتلًا أم ضحية.

ثم جاء “يونس”، الحبيب الذي لم يقل شيئًا. اختفى كما يأتي العابرون في الحروب، لا يخلّفون وراءهم سوى العطش. لماذا تركها؟ لا تعلم، والرواية لا تُريحك بإجابات سهلة، بل تكتفي بأن تمنحك وجعًا يشبه وجعك.

هل سألتَ نفسك يومًا عن أسوأ فعل يمكنك القيام به؟ وهل تدرك أن مارداً يسكنك دون أن تعلم؟”

لكن اللحظة الأكثر قسوة لم تأتِ من الأم، ولا من عامر، بل من يونس ضابط، عائد من جبهته الداخلية، يحمل معه جعًا لا ينتهي ظنّته مرفأ، فإذا به هو الآخر محمّلٌ بشبحٍ قديم.

في بيتها، وبين جدران الأمان المؤقت، يكتشف يونس أنه كان السبب في موت والدها، قبل ثلاثين سنة. الطيف الذي يطارده منذ زمن لم يكن وهمًا، بل الحقيقة التي كانت تنام بجواره كل ليلة. فهرب. ليس منها، بل من الاعتراف.

وهكذا، لا يبقى في حياة ليلى سوى الظلال: ظلّ أمٍّ كبّلتها، ظلّ حبيب لم يفهمها، ظلّ أخٍ عسكريّ يرمّز للدم، وظلّ رجلٍ لم يستطع مواجهة روحه. فتقول ذات مرة:

“قد أخرس إصبعًا ولكنني في المقابل سأكسب ذاتي.” آمال صبحي تكتب لا لتخبرك بشيء، بل لتتركك في حالة من التساؤل المستمر. هي لا تتحدث عن “الحب” بل عن غياب “الحب”. لا تُغني عن “الذاكرة” بل تسرق منها مع كل كلمة. الرواية لا تشرح، بل تفتح الجرح لكي يُبدي نفسه.

تستخدم آمال، في كل جملة، ألفاظًا تكتسب ثقلًا معنويًا يتجاوز دورها النحوي. مثلما في قولها: “كانت الظلال تطاردني في كل زاوية، حتى أصبحت لا أستطيع التمييز بين المدى القريب والبعيد.” الظلال هنا ليست مجرد ظلال، بل هي رمزٌ للفقد، ولا نعلم إن كانت الظلال تُلاحق ليلى لتظلِّلها، أم لتبتلعها. في هذه الجملة، تبدأ الشخصية في اختراق حدودها بين الحضور والغياب، لتصبح الظلال هي الوجود.

في إحدى اللحظات الحاسمة من الرواية، تقول ليلى: “الحب الذي أبحث عنه ليس هو الحب الذي أعطاني إياه، بل هو حبّ آخر، حبّ يعيدني إلى نفسي.” هنا، يطرح النص إشكالية الهوية، حيث لا تكون ليلى في صراع مع الآخرين بقدر ما هي في صراع مع ذاتها. إذا كان حب يونس مجرد تمثيل لغيابها الداخلي، فإنها تبحث عن ذلك الحب المفقود الذي يعيدها إلى حقيقة وجودها. في هذه اللحظة، نجد اللغة تتفجر لتخلق فجوة بين الحب والخيانة، بين أن تكون “أنت” وبين أن تصبح مجرد صورة.

ليلى، التي تنسج قصتها بين الماضي والحاضر، تجد نفسها تتنقل في مقبرة للأزمان، حيث لا شيء يمضي إلى الأمام. لا شيء يدعها تكتمل. كل شيء في الرواية هو بداية لا تنتهي، ظل لا يرحل. وكلما ظنّت أنها وجدت طريقًا، صدمتها الحجارة التي أُلقيت من أزمنة غابرة. هي في النهاية طائرٌ يحاول الهروب من سمائه، لكنه لا يملك سوى الرياح التي تعصف به في كل جهة.

إذا كانت الرواية تتحدث عن الحب، فإنه ليس ذلك العاطفي الذي نعرفه. هذا الحب هو مذبحة لامتناهية، لا يتوقف عن الحفر في أعمق جراح الروح. هل هو حب؟ أم تمرد ضد الوجود نفسه؟

تعتمد الرواية على تقنية السرد المتعدد حيث ينتقل بين الازمنة المختلفة مما يخلق نوعا من التشويش الزمني الذي يعكس حالة البطلة النفسية هذه التقنية تعزز من احساس القارى بالضياع والتشتت مما يجعله يشارك البطلة في تجربتها الوجدانية.

اللغة هنا ليست وسيلة، بل جلد. تُقصّ علينا الحكاية كما لو أنها تُفتّش عن خلاصٍ شخصي، كما لو أنها تقول لنا: “أنا مرآة. لا تحبّني، لا تكرهني. فقط انظر.” آمال صبحي لا تستعير البلاغة، بل تصنع بلاغتها من الشقوق. جمل قصيرة، كأنها نُسجت على حافة السكتة القلبية. لا خطابة. لا تشنج. بل صدقٌ جارح، وحِكمة نضجت في فرن التجربة. لا تعتمد على الاسترسال الوصفي، بل على الاقتصاد الجمالي في التعبير. الجمل قصيرة، مقطّعة أحيانًا، لكنها ملغومة بقدر هائل من التأويل. هنا تتجلى براعة الكاتبة في رسم “إيقاع التهشم”، إيقاع الحزن الخافت الذي لا يصرخ، بل يتنفس بصوت مكتوم. إن هذا الأسلوب يذكرنا بتيار الحداثة في السرد العربي، بوصفه انتقالًا من “المعنى المعلوم” إلى “المعنى المؤجل”، ومن التقرير إلى الإيحاء، ومن الاستهلاك اللغوي إلى الجمالية الرمزية.

كل كلمة في الرواية هي شظية تتناثر في فوضى الزمان والمكان، وتحاول ليلى جمعها، لكن في كل مرة تكتشف أن الظلال أكبر من أن تُحاصَر. رواية “ظِلالٌ لامرأةٍ واحدة”، عمل لا يمكن تلخيصه، ولا يمكن الحديث عنه دون أن تخرج منه ناقصًا. كل قارئ سيجد ليلى التي تخصّه، وكل امرأة ستشعر أن الكاتبة كتبت ظلّها، لا شخصًا آخر.

الرواية لا تمنح قارئها خلاصًا بل تتركه داخل سؤال مفتوح من أنا بعد كل هذا؟ إن البوح في الختام ليس تصالحًا، بل انكشاف. إنه البوح وقد بلغ من العمر عتيًّا، صار مرآةً للزيف، وضرورةً للرحيل. إن هذه النهاية لا تُغلق الرواية، بل تفتحها على احتمالات التأويل، تمامًا كما أراد لها وعيها السردي أن تكون: رواية الظلّ، الذي لا يُرى، لكنه يحكم كل شيء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقدة سورية 
الرواية صادرة عن مؤسسة أروقة للنشر 2022

مقالات من نفس القسم