سماء أسفل النافذة                

حسام المقدم
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسام المقدم 

  أنا الذي ذهبت إليهم، وطلبتُ أن أرى الله، وحتى لا يظنوني مشروع وَليّ صغير أو بداية راهب غَض؛ قلت إنني شاعر، أقرأ وأعيش وأحب السينما.

  قالوا: “لا تتكلم كثيرا، اصعد هذه الشجرة، واصِل إلى آخر غصن يتحمّلك، بعدها اضبط أنفاسك المتعَبة، وانظر إلى السماء”.

   كانوا ودودين، كلموني بهدوء يليق بوجوههم الطيبة.

  لم أر هذه الشجرة من قبل، وإن كانت تشبه جميزة عملاقة تقف راسخة تحت الشمس العمودية، فروعها عفيّة وأوراقها نضرة. تغلبتُ على تردّدي وبدأت الطلوع، ساعدتني خشونة الجذع الكبير في تثبيت يديّ. كنت أنظر للأعلى، بعد كل ارتفاع لجسمي، ناسيا وصيتهم الأولى: “لا تنظر إلى فوق أثناء طلوعك”. ركزتُ جهدي ونظري أمامي، هذا اللحاء البُني العتيق.. كم عُمره؟ وهذه الثمار العجيبة، هل هي جميز أم تين؟ صرفتُ بداية أفكاري المتسلسلة، ليس هذا وقتها، ما يهم هو مواصلة الصعود.

  توقفتُ حين أمسكتُ بشيء مختلف عن الملمس الخشن، شيء طري، لن أرفع رأسي، سألتزم بكل ما قالوه. تمكنتُ من شد نفسي نصف خطوة للأعلى، رأيتُ يدا ممدودة، يدا أنثوية بيضاء بأصابع ممتلئة. هذا البياض الناعم في جوار تجاعيد جسم الشجرة شيء لا يُحتمل. ماذا عن باقي الجسد؟ لا يمكن أن تكون اليد قادمة من فراغ.. هل تنظر إلى أعلى أيها المُخالف للوصايا؟ هذا الجمال هنا، أوقعوني في الفخ، وعليّ أن أتعامل. طبيعي أن يكون الصعود محفوفا باختبارات.

  زحفتُ لأعلى قليلا..

  لا شيء يغطي اليد حتى الكوع، بياض ملفوف، زحفتُ أكثر، الكتف المدورة، مقدمة الشعر الأسود الملموم، لماذا يتدلى الجسد العاري مقلوبا؟ بالطبع لك أنتَ، فجأة اعتدلَ الرأس ونظرت عينان في وجهي، آآآه، عينان واسعتان، نار، أوووف، وقعتُ على الأرض!

  وجوههم الطيبة المنوّرة مرة أخرى. نظر الثلاثة في وجهي بتصميم أشد، استدرتُ من جديد.

  وجدتُ جسدها معتدلا في مواجهتي، تجلس على غصن كأنها على كرسي وتضع رِجلا على رِجل. بين قدمها الصغيرة المصبوبة وشفتي سنتيمترات، ساقاها طالعتان باستدارة نخلتين في “العَلالي”! ثدياها شامخان بحلمة وردية تشبه الثمار من حولي. كل هذا العُري المتماسك أمامي، وعلى شجرة، حيث لا أرض ولا سماء. تذكرتُ رجلا شِبه مُختل، في أحد أفلام “فيلليني”، صعد إلى شجرة وظل لفترة رافضا نداءات النزول. كان يصرخ راجيا: “أريد امرأة”! تعال يا أخي المعذّب، اترك مكانك وتخَلّ عن نحيبك الخائب، كن معي وسترى الفتنة مُجسّمة، ستجحظ عيناك مثلي في مواجهة عينيها الرهيبتين الناظرتين إلى خط الأفق، في تجاهل كامل لوجودي كأنني غير مرئي.

  ماذا أفعل، لن أستطيع المرور إلا إذا وسّعَت لي أو مالت قليلا. أفقتُ لما أريد أن أفعله بنفسي، هذه الفتنة التي أُفكر في تخطّيها، سأكون أحمق لو فعلت، لستُ راهبا يختبرونه أو يُجهزونه لطريق قتل الرغبات. اقتربتُ مُتبتّلا، مشيتُ بلساني على جلدها، من إصبع قدمها إلى الركبة، إلى ما أمكنني أن أطوله. مدت يدها بواحدة من ثمار الشجرة، أكلتُ بعضها وأعطيتها الباقي. فتحَت ساقيها فرحتُ أتذوق عسلها وطعم الثمرة. دُختُ، نفضتُ رأسي، كلّمتُها: “أنتِ لستِ امرأة، من المؤكد أنكِ جِنيّة أو عروس نيل، وربما حورية بحر، مَن أنتِ؟”. لم تلتفت، هل تغيظني؟ اعتدلتُ نسبيا لأشرب فتنتها الحيّة. أعرف أن جسدي لا يرتوي إلا حين أسدُّ مسامّه تماما، وما أروع جلدها المخملي لهذه المهمّة العظيمة. تقدّمتُ، هبطتُ برفق، جعلتُ جسدي ساترا لها، لحافا وسماء وغلافا. تكهرَبت خلاياي بنشوة رعشة طالت على عكس ما عرفتُ من قبل، تركت نفسي للتيار، عمتُ في ماء وخمر نهرها. بعد زمن غير خاضع لمقاييس عالمنا؛ عرفتُ أننا انتهينا وأنني نمتُ. لم أجدها حولي، أحسستُ بإحساس المُنتشي الحزين على الانتهاء، والمستمد طاقته من حالة لا يزال يعيش فيها، حالة ستعينُني على استكمال صعودي المُؤجل.

  المحاذير في رأسي، لا نظر تحت أو فوق، أُركز على مستوى الغصون والأوراق الخضراء، طائر يفر أو حشرة تتسلّق جنب يدي. مُعلّق لا أدري ماذا بعد، هل أظل في مكاني؟ مسكين ذلك القديس الذي قضى معظم عُمره مقيما فوق عمود حجري، ومنه أخذ اسمه: سَمعان العمودي. قالوا إنه ظل ناسكا، عائشا بهذا الاختيار القاسي. حالي الآن يُشبهه إلى حد ما، لكنني أفكر في أمور صغيرة لا تشغل بال القدّيسين والشيوخ، مثل كيفية قضاء حاجته على قمة العمود، وتعامله مع روائحه البشرية التي تُفسد أي أثر للقداسة ذات الرائحة العطرة! أتخيله يهبط ويصعد أكثر من مرة في اليوم لممارسة أموره الآدمية العادية. التفاصيل هي السر، تبقى مجهولة في مشوار الوصول، إلا تفاصيلي في الطريق الذي أرشدني إليه أصحاب الوجوه المستبشرة.

  غصن وراء غصن، طال طلوعي، تمنيتُ حاجزا يوقفني، فهمتُ أن المشوار طال هذه المرة إمعانا في استبيان مقدار صبري. ها هو الحاجز القادم، كتاب، كتاب كبير. تذكرتُ لساني الفالت حين قلت لهم: شاعر وقارئ و.. طيب يا شاعر، هذا سِفْر لم تر حجمه من قبل، مدّ يدك والمسه، اقرأ إلى آخر عمرك ولن تُنهيه. وهل كنتَ تظن أن وجوههم المتسامحة ستتساهل معك؟ تماسَك وابدأ، مهما يكن لن يختلف كتابهم عن كُتب أفنيتَ عُمركَ في صحبتها فاحصا ومتأملا، وأحيانا حاقدا على مؤلفيها العباقرة الذين يفوقونك فكرا وقُدرة. أول صفحة عن النمل، طباعُه وأسلوب عمله ودأبه و.. بعد ثلاث صفحات هناك سطور عن الموت كفكرة حتمية لا تحتاج إلى الإيمان، ببساطة لأن الكل سيمرّون بها. رأيتُ الكلام مقنعا، لا يهم أن تؤمن بالموت، لأنك ستموت في النهاية، إنه ينتظرك لتُصدّق رغما عنك. فتحتُ الكتاب من منتصفه، قرأتُ عن نوع من الكلاب قادر على لَعق أماكن أنثوية أفضل كثيرا من الرجل. قبل النهاية بقليل وجدتُ كلمات بعض الأغاني الجميلة، استرجعتُ نشوتي معها في مراحل عمري، رأيتُ كلمات “أي دمعة حزن لا” لعبدالحليم فبدأت شفتاي في تصفير نغمات مُقدمتها الموسيقية الفريدة. فرح شعبي يتألق فيه الساكسفون، ثم يدخل المزمار والزغاريد، إلى أن يأتي شجن الناي والجيتار وبقية الآلات. دائما كنت أعتقد أن هذه الموسيقى تشبه مزاجي المتقلب. أغلقتُ المُجلّد الفخم. احترتُ في تصنيفه: هل هو عن كل شيء؟ هل مكتوب تبعا لنظام وتبويب معين، أم يسير بلا منطق؟ أعياني التّفكُّر، في النهاية احتضنتُه على صدري، ثم وضعتُه بتقدير وإجلال على غصن عريض، وواصلتُ التّسلُّق..

  رأسي يُوسوس لي بالنظر إلى أسفل، أريد أن أرى وجوههم المطمئنة، وأعرف رأيهم في سلوكي. الأهَم أريد كلاما حازما عما جئت من أجله، ما فهمته من إشارتهم أنني بعد وصولي إلى قمّة الشجرة سأرى الله في السماء، لكنّ السماء فوق رأسي وأمامي وليست مقصورة على أعالي الأشجار. من المُحتمل أنهم يستخفّون بي، ما أُحسه يتعارض مع الخِفّة التي أنتظرها، أصبحتُ ثقيلا مُجهدا. خِفّتي ترواغني، طول عُمري بي رغبة عظيمة في الطيران، أحببتُ الملائكة وأجنحتها مخترقة الحواجز. لم يمنعني ذلك من تغذية النّفَس الشيطاني بداخلي، عبر تمردات صغيرة وكبيرة، وأحلام تصاحبني، أحلام حرام كما وصفها صديق حين حكيتُ له واحدا منها. رغم تعبي واصلتُ الصعود، استجمعتُ قوتي، أمسكت بغصن جامد، هززتُه كما كنت أفعل مع فرع توتة يانع، سمعتُ تساقط الثمار وارتطامها بالأرض. قبضتُ على غصن ثان وثالث، في مرة طاشت يدي، تخلخلَ جسدي، في انهياري احتكَت بجلدي أوراق وفروع ولحاء خشن. بالبطيء أهوي، أنتظر أرضا ولا أرض، تبتلعني نوافذ مربعة تتداخل بشكل حلزوني، أنزلقُ من واحدة لأخرى في تعاقب مُدوّخ. أخيرا هبطتُ فوق شيء إسفنجي، ردَّني لأعلى وأنزلَني، عدة مرات حتى سكنتُ. لا أحد حولي، ربما تسرعتُ حين أدخلتُ نفسي في التجربة، مَن يُؤكد لي تحقيق رؤية جليلة مثل التي أبغيها؟ أين الوجوه المنوّرة؟ غادروا وتركوني في مكان لا أعرفه. أرض خلاء، ترابها أصفر به رطوبة تشي بسقوط مطر خفيف منذ قليل. من الواضح أنه اختبار جديد، ما المطلوب مني؟ قمتُ فاردا طولي، شعرتُ بنَفَس حار يتسرب إلى قلبي، سخونة تتوقّد في ضلوعي. بدأتُ أجري، أتعثّر فأقوم في لمحة وأُعاود، أفتحُ رِجليّ بآخِر جهدي. ما من أحد يطاردني، فلماذا أفرّ؟ في حياتي لازمني إحساس الفرار الذي ليس بعده راحة، إنما تَعب يليه فرار في متتالية ملعونة. جريتُ كثيرا، عبرتُ الرمل والصخر، نادَتني أرض فوقفتُ لاهثا. نزلتُ على ركبتيّ، أكملتُ تمدُّدي على بطني باسطا ذراعيّ، استلقيتُ مصلوبا على تراب تفوح من مسامّه خصوبة دَسمة مألوفة لأنفي. 

  غفوتُ.   

  لمّا أفقتُ كان ذهني ثابتا، وقادرا على استرجاع الشريط من أوّله: الشجرة والمرأة والكتاب الكبير، ثم السقوط واللجوء إلى هنا. لو ظهَر لي رجال الوجوه الطيبة سأقول لهم: “أُصارحكم أنني في صعودي وهبوطي وجدتُ شِبه استنساخ لتجاربي في حياتي، قابلتُ نشوتي وابتهالاتي ودموعي”. سأُحدثهم عن كَوْني ومعرفتي، عن هذه الأرض الممتدة تحت جسدي إلى مدى بصري.

                                         ***   

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال