طريق العقاد وطه حسين بحاجة إلى الجدية والصرامة وزرقة السماء تحتاج إلى المازني!
حوار د.محمود القيعي*
اعتبره أدونيس ثالث ثلاثة “عباس بيضون وقاسم حداد ” من المؤثرين في الشعر العربي الحديث، والمؤسسين لأفق كتابي شعري مختلف، مؤكدا أنه نجح في الإفلات من الأطر المستقرة في الشعرية التي أرساها شعراء مصر بدءًا من شوقي .
من يقرأ شعر عبد المنعم رمضان – بإخلاص- يدرك أن حداثته كامنة في مقاربته للأشياء ، وفي طريقة تعبيره عنها، وفي لغته الشعرية، ومن يستمع إلى حديثه بالعربية الفصحى يدرك كم يحبها ويتيه بها ، ويركن إليها ، وهو لا يتكلمها بقدر ما يغنيها .
يحب أبا الطيب وأبا نواس حبه لأدونيس وحجازي وعبد الصبور ومحمد عبد الحليم عبد الله والمازني ، فهم عنده سواء !
يصف نفسه بأنه مريض بالشعر، ويرى أن الشباب والشيخوخة لا علاقة لهما بالعمر ، موقنا أن الشباب هو التمرد ، والشيخوخة هي الخضوع .
*أنت أحد شعراء السبعينيات الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس، وكانوا هدفا لسهام كثيرة نالتهم، برأيك ما أسباب الهجوم عليهم والنيل منهم؟
في العام السابع والستين من القرن الماضي ، كنا ، أعني شعراء السبعينيات ، طلابا في المدارس الثانوية ، حيث طوابيرنا مصفوفة كل يوم ماعدا الجمعة ، تحت ظل الزعيم الذي زعموا أننا أبناؤه ، لكن الهزيمة الكبرى التي خفّفوها بتسمية النكسة ، كانت قد أحنت رؤوسنا ، فرأينا الأرض التي بدت وكأننا نراها لأول مرة ، رأيناها بعيوننا الصغيرة كمراهقين ، فتضخمت ، وفتشنا عن الطريق التي يجب أن نقطعها ، فوجدنا حراسها هم هم الأنبياء الكذبة ، فبدأنا خصوماتنا التي اتسعت وشملت الماضي والتقاليد والعادات وقادة الفكر والشكل العمودي وأيها المواطنون وبصراحة وأم كلثوم و٢٣ يوليو ، كأننا خرجنا فجأة من البيضة ، وفوجئنا بعالم لا نريد أن نكرره ، آنذاك لم نكن نملك وعي التمرد ، كنا نملك غريزة التمرد وحواسها ، تمردنا كما لو كانت الغريزة الجديدة التي تقودنا ، كشفها لنا فساد بشر المقدمة ، وقلة حيلة بشر الأقفاص ، فكفرنا بالجميع ، وكرهناهم ، وكرهنا معهم عمود الشعر ، وفكرنا أن نحطمه .
*فكرة تقسيم الشعراء زمنيًا كيف تراها وعلى أي أساس يمكن تقسيم الحركة الشعرية ؟
– كانت جماعة أبوللو هي المشهد الأخير لقصيدة العمود ، فالأربعة: على طه وابراهيم ناجي ومحمود حسن اسماعيل والهمشري جاءوا بحساسية جديدة لا بموضوعات جديدة ، ولأنهم فطنوا إلى ضرورة إسدال الستار على عمود شعري مرهق ، تجاسروا بالتخفف من تلك القافية التي أصبحت مثل عورة ، واعتمدوا تعدد القوافي ، وتجاسروا على الأنا العامة وأزاحوها لحساب الأنا الخاصة ، ففتحوا بابا ولجه من جاءوا بعدهم ليقيموا سرادقهم الجديد ، بعد أن كسر صلاح عبد الصبور وأحمد حجازي صفاء ذلك العمود الكلاسيكي والرومانسي أيضا ، وكتبا قصائدهما دون لهاث كأنهما ذاهبان إلى الحفل ، لولا أن الجيل التالي عليهما كان فاترا باستثناء بعض قصائد ، وباستثناء شعر العامية ، أعني الأبنودي وسيد حجاب ، مما جعل البعض يعتقد أن الزمن يعمل بنشاط وجد واضحين خلال عقد زمني ، ثم يرتاح عقدا ، وهكذا ، عموما كانت ستينيات الفصحى الشعرية زمن استراحة ،تلتها بوضوح ضجة أصوات وإضاءة التى ستعقبها راحة الثمانينيات ، وبعدها ، في التسعينيات ، تنفجر قصيدة النثر المصرية .
* هل ثمة ارتباط بين نضج الشاعر وطبيعة الموضوعات التي يتعامل معها شعريًا وأي فرق بين رمضان الثلاثيني والسبعيني ؟
رمضان الثلاثيني
إن لم أجدك سأبحث عن سواك
رمضان السبعيني
إن لم أجدك سأنتظرك.
*تحدثت كثيرا عن تأثير أدونيس عليك ولكنك – فيما أعلم – لم تمسسه بنقد .. ما السبب ؟ أليس كل يؤخذ منه ويرد؟
– من يعنيني هو أدونيس الشاعر ، وما يعنيني هو معرفة شعره الذي أحببته منذ وقت مبكر ، ومعرفة روافد هذا الشعر لا لأقيسها بروافدي ، بل لأتشبث أكثر بعلامات مكاني ، أما أدونيس العلوي والصفوي والشيعي والمسيحي واليهودي إلى آخر قائمة الترهات التي لا تجبرني و لاتجبر أحدا من أصدقائي على تصديقها ، او مجرد الإنصات إليها ، عموما أدونيس هذا الذي أعرفه واحد من شعراء أحببتهم وعرفت أغلبهم ، أنسي الحاج وفؤاد رفقه وشوقي أبو شقرا ويوسف الخال وسعيد عقل ووديع سعادة وعباس بيضون وقاسم حداد ومحمد بنيس وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر وصلاح عبدالصبور وأحمد حجازي والمتنبي وأبو نواس ، هؤلاء جميعا وغيرهم أحسب أنني أراهم الآن إلى جواري ، وأنهم ، أعني الأحياء منهم ، يرونني الآن إلى جوارهم ، في عالم واسع شديد الاختلاف اسمه عالم الشعر ، ولأنني مازلت أصغرهم سنا ، رغم السبعين ومابعدها بخطوتين ، أحسب نفسي الأكثر محبةً ، رغم أنني كنت دائما الأكثر نزقا ، بل آمل أن أكون ببن الخارجين عليهم والخارجين معهم الأكثر قربا وبعدا ، وإذا لم تصدقوني ، هاتوا كتاب الشعر وافتحوه واقرأوا كيف قديمه الحق كان دائما يبارك جديده ، وكيف جديده الحق كان دائما يزهو بقديمه ، واسألوا حجازي .
*أي الحداثتين أثمرت عربيا برأيك الحداثة الشعرية أم النقدية ؟ وكيف ترى وصف غالي شكري الحداثة العربية بـ ” الشريدة ” ؟
– تتلمذ غالي شكري منذ بداياته على أبويه: سلامة موسى ولويس عوض ، ورافق ثورة الشعر الحديث في القاهرة حيث كان خصومها فوق الأغلبية ، ورافقها في بيروت حيث كانت أكثر عددا وأعز نفرا ، وحيث كانت (الشرارة) مجلته ، ورافق جيلي منذ بدايته ، ولما رأس تحرير مجلة القاهرة ، رأيته في شارع طلعت حرب يسرع الخطى ويلاحقه ابراهيم فتحي ، أحد أعلام اليسار آنذاك ،، يلاحقه منشدا ” طاهروك ياغالي ، طاهروك ياغالي “، كان لسان غالي العربي أقل فصاحة مما هو مطلوب لناقد شعر ، ولم يكن لسانه الأجنبي في مهارة ألسنة المثقفين اللبنانيين ، لساناه غير الفصيحين تماما فرضا عليه أولا شعور المثقف الشريد ، زرتُه أيام مرضه الأخير كانت أسرته تحاكمه كمثقف شريد ،و مثلما كتب عن نجيب محفوظ ، كتب عن إحسان عبد القدوس كما لو كان بشير حداثة أو بشير تقدم ، الحداثة في زمنه يشهد كثيرون أنها كانت محاصرة برفض الأغلبية المحبوسة إما داخل قوميتها ، وإما داخل ديانتها ، وإما داخل أميتها ، وإما داخل معرفة ناقصة قد تكون الأخطر ، والأهم أن السلطات العربية التي لم تغفلها عيون غالي ، السلطات المزعوم أنها ثورية ، لم تكن قادرة على قبول هذه الحداثات ، لأنها ظلت مستريبة طول الوقت ، ظلت فقط بمسوح ثورية ، وظل غالي نفسه طوال الوقت حداثة شريدة ، حداثة تقف دائما على الناصية وتصطاد من يمثلونها ، للأسف مات غالي شريدا مثل حداتثه الشريدة .
*استشهد الشاعر الراحل حلمي سالم بقصائدك ” الحاكم بأمر الله” و”الإسكندرية” و “الخراب الجميل ” على علاقة الشعر بالواقع والحياة والثورة، برأيك ماذا بين تلك القصائد وبين الحياة ؟
بسبب الشاعر حلمي سالم وأماليه وأمانيه ، استدعيت بعض ذكرياتي مع صديقنا المشترك إدوار الخراط ، الذي ظهر للحظة ظننت فيها أنه سيسهر معنا ويسامرنا ، لكنه فجأة رمقني بحدة غير معهودة عنه ، ثم أخذ يجمع ملابسه ، وهرب ، سمعته يقول مرتين : سأعود إلى القبر ، سأعود إلى القبر ، حتى الرجل الطيب نجيب محفوظ ،والذي وافق على أن أصاحبه إلى بنسيون ميرامار ، عندما وصلنا ، دخل وأغلق باب البنسيون في وجهي ، كنت أحمل تحت إبطي كتاب كفافيس ، إسكندرية التي فقدتها ، وهو كتاب مخدتي ، فتحته فوجدت صفحاته قد أصبحت بيضاء من غير سوء ، بعدها تخيلت أن الفنانين التشكيليين ألطف من الأدباء وأرق ، لم أجد محمود سعيد في مظانه ، وجدته ترك خبرا نصه “غادرت ولن أعود” ، لم أجد الأخوين وانلي ، سيف وأدهم ، عرفت أنهما قاما من موتهما وقررا الانتحار ، قلت الحل إذن أن أطارد الإسكندر الأكبر ، لأنه امبراطور ، ولن يهرب مني ،بحثت عنه في ثلاثية كتبها فاليريو ماسيمو مانفريدي ، فتى الحلم ، رمال آمون ، أقاصي الأرض ، لكنني وجدت الثلاثية قد خلت من البشر ، قيل لي : لقد هربوا جميعا ، سألت : هربوا خوفا من الإسكندر ، قالوا : لا ، خوفا من الإسكندرية ، إذن سأتصل بلورانس داريل ، لكنني تراجعت ، فكرت في الجلوس على الشط ، وإجراء حوار مع البحر ، لكنني فور رؤيتي للبحر تراجعت ، كان ينحسر كممسوس ، ويبكي بدموع محبوسة خشية أن يعاقبه أحد ، بعد رؤيتي للبحر ، صدقت أن الجميع لن يعودوا ، قررت العودة إلى القاهرة ، في الطريق إلى صديقي القديم ، الحاكم بأمر الله ، سأزور قبره لكنني فجأة خشيت أن يكون المارة أمام القبر قد سئموا من موته وقتلوه ، عند ذاك تذكرت قصيدتي “الخراب الجميل” ، فاتجهت إلى بيتي ، وقررت أن أفعل مثل أحدهم ، وحتى الآن لم أستقر ، مثل من بالضبط .
*هل من فرق بين تلقي القاهرة الحداثة وتلقي بيروت ؟
بيروت عاصمة على البحر ، يحفها الماء من جهة واحدة ، ويحفها قلبي من الجهات الثلاث ، والقاهرة مدينة في الظاهر تقيم على الأرض ، تحفها اليابسة والصحراء ، وفي الباطن تقيم في قلبي يحفها دمي ، ذلك على الرغم من توحشها وقذارتها أحيانا ، في بيروت أحسب أن العابرين يبقون بعض الوقت ، ويتركون بصماتهم وروائحهم ويذهبون ، في القاهرة يتلكأ العابرون إلى حين ، ثم إلى أحيان ، ثم يبقون طول الوقت إلى أن يحولهم المكان والزمان إلى قاهريين أقحاح ، بيروت يابسة الاختلاف ، والقاهرة صحراء الثبات والديمومة ، هكذا تصبح بيروت حلما نعبره ونعود إليه لنعبره ثانية ، وهكذا تصبح القاهرة مكان الإقامة حتى الموت ، أو مكانا تعود إليه لتموت فيه ، ظهيرا القاهرة ريف وصحراء بطول النهر ، ريف يزرع فقراؤه مايجعل جذور سكانه وأهله مغروسة إلى أعماق بعيدة ، هل أصاب هذا الملمح بعض خلل ، ربما ، وظهير بيروت خلاء يجبر على الرحيل ، إما إلى أفريقيا ، إما إلى الغربين الأوروبي والأميركي ، بيروت مكان رحب للصيرورة والتحول ، والقاهرة مكان رحب للكينونة والثبات ، أظنني غير قادر على الحياة في غير القاهرة ، وغير قادر على عدم الحلم ببيروت ، الحلم فقط ، كنت أظن أنني إذا ذهبت إلى بيروت سأطير ، الغريب أنني ذهبت ، وفي اليوم الثاني تسممت ، وعندها اكتشفت أنني لا أطير إلا في القاهرة ، القاهرة العجوز ، متشققة الروح ، الفظة أحيانا ، الجائعة ،حافية القدمين ، الحولاء والعمياء والمبصرة ، الواسعة والضيقة ، ومع ذلك لا أطير إلا فيها ،
أطير عموديا لأهبط ثانية في مكاني ، هاأنذا أهبط الآن في مكاني .
أهبط وانا أكاد أظن أن بيروت يصوغها دائما ومن جديد أهلها والقادمون إليها ، وأن القاهرة تصوغ دائما وعلى شاكلتها كل القادمين إليها .
*لإبراهيم عبد القادر المازني حضور لافت في كتاباتك .. ترى ما السبب ؟
أعرف أهمية أن تكون طه حسين ، أهمية أن تكون العقاد ، وأعرف أهمية ألا تكون المازني ، مر طه حسين والعقاد علينا ، أنا وأبناء جيلي ، أيام أجبرونا في مدارسنا على دراسة بعض عبقريات الأول ، وبعض إسلاميات الثاني ، الاثنان كانا مثل أعمدة نور الحكومة ، لا تستطيع أن تجلس تحتها وقتا طويلا ، فيما ظلت كتب المازني أشبه بشجرة توت على حافة ترعة الأميرية ، ترميها بصخر فتعطيك أطيب الثمر ، لذا لم أكف عن السعي إليها ، مات المازني قبل أن أعرفه ، ومات طه حسين والعقاد بعد أن شرعت في الابتعاد ، كان الاثنان مشغولين بدورهما العام وقضاياهما الكبرى ، ويصنعان كتبهما على هيئة زمنهما ، فيما ظل المازني يمشي إما وراء ظله ، وإما أمامه ، ويتحرر من الهداية والإرشاد ، يكتب عن نفسه ، فيعلمنا جميعا هاجس أن نكتب عن أنفسنا ، يكتب ولايعرق ، فنعرف أن الكتابة لعب حر ، فيما هي مشفوعة بالعرق الغزير عند الآخرين ، عرق الواجب ، مما يؤهلها للقيادة والرئاسة ، أحدهما ، طه أو عباس ، سيسأل كل يوم نفسه عما يجب أن يكتب ، كأنهما كاتبان عموميان ،بمسميات الكاتب الجبار والكاتب العميد ، طريق طه أفضى إلى الوزارة ، وطريق العقاد إلى الرئاسة ، وطريق المازني كان لابد أن يفضي إلى حرية الكتابة ، النظم في حاجة دائمة إلى طه حسين والعقاد ، في حاجة إلى الجدية والصرامة ، وزرقة السماء في حاجة إلى هذا الأعرج!
*متى يكون الشاعر مقاوما؟
الشاعر لايملك سوى الكلمة، وإذا احترم كلمته واخلص لها وأخلص لوطنه سيكون إلى جوار النضال الفلسطيني، مقاتلا معه، وظهيرا له.
* ومتى تكون القصيدة سلاحا موجعا؟
إذا لم تتخل عن الحقيقة.
*كيف تتخيل محمود درويش الآن فى تلك الأجواء الساخنة؟
أتخيله الآن وهو يكتب قصيدة لن تعفيه من الشعور بضعف قوته وقلة حيلته، وهوانه على نفسه، وهذا ما أحسه الآن ليتنى لم أكن هنا والآن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في الأهرام