حسن عبدالموجود: أرجوكم توقفوا عن سؤالى «متى تكتب رواية؟»

حسن عبد الموجود
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاوره: إيهاب مصطفى

يقف الكاتب والقاص حسن عبدالموجود على مساحة إبداعية واسعة، عنوانها هو الانطلاق والتدفق، لكن ما يثبِّت قدميه أكثر على هذه المساحة، هى قدرته على الاختلاف والتنوع، فلا يوجد عمل لديه يشبه الآخر، بجانب قدرته أيضًا على الابتكار، فلا ينحاز إلا إلى التطور والتجديد والأفكار الخلاقة. وتعد المجموعة القصصية الجديدة «تاجر الحكايات» حبة فى عقد أعمال حسن عبدالموجود، والتى ينحاز فيها إلى فكرة «الأقصوصة» التى لا تتجاوز الواحدة «مساحة كف اليد»، وفق تعبير ياسوناري كاواباتا، لكنها تمتلئ بدفقات إنسانية شاسعة، رغم طرحها فى سياق لا يتجاوز عدة أسطر.

ويعترف «عبدالموجود» اعترافًا خطيرًا، مفاده أنه قضى 40 عامًا من التأمل والتفكير، فى محاولة لإقناع نفسه بأنه قادر على كتابة هذه المجموعة، وطرح تصوراته الإنسانية التى ظلت تراوده كل هذه السنوات، فى هذا الشكل الإبداعى شديد التكثيف.

عن الحالات التى انتابته أثناء الكتابة، والأفكار التى سعى لتلخيصها وطرحها، هذا الحوار مع حسن عبدالموجود.

■ قصص مجموعتك الأخيرة «تاجر الحكايات» إنسانية جدًا، وتدور حول رؤى كبيرة، على الرغم من قصرها.. هل قصدت صناعة هذه الحالة؟

– لم تطمح القصص إلى أكثر من اصطياد فكرة، أو الإمساك بلحظة خاصة فى حياة شخص أو اثنين على الأغلب، لا أعرف ما المقصود بـ«الرؤى الكبيرة» فى سؤالك، هل تقصد بها القضايا الكبرى؟ إن كنت تقصد ذلك فأنا أختلف معك، يمكن أن نسميها «حالات إنسانية عامة».

بمعنى أن هذه القصص ليست قاصرة على مجتمع من المجتمعات، هى لحظات عالمية، أى أنها قد تحدث لشخص هنا أو فى مكان آخر من العالم، وبالتالى، وهذا ما أتمناه، سيفهمها ويتأثر بها القارئ الغريب، إن أتيحت له قراءتها بلغته. 

هى قصص عن العلاقة مع الأم، ليس باعتبارها منبع الحنان التقليدى، ولكن فى صورتها النقيض، فهذه الأم تفضل الدجاجات مثلًا على أبنائها، وتتمنى لو أن الوباء كان قد عصف بأرواحهم بدلًا من طيورها. 

هى أيضًا قصص عن نظرة الأبناء إلى الأم كذلك، حيث إن أحدهم لم يتوانَ عن دفنها فى مقبرة الجيران بسبب بدانتها المفرطة، وابن آخر لم يتردد عن فضح علاقتها بالرجل الذى يأتى إلى شقتهم، متسلقًا شجرة مالت فجأة على عمارتهم. 

كذلك هى قصص عن العلاقة بين الإنسان وإلهه، والخوف من الرقابة فى البيت أو الشارع، قصص عن الخراب الذى تتسبب فيه الأفعال الشريرة الصغيرة، فى كل خطوة يخطوها الإنسان، بمجرد أن يفتح عينيه صباحًا، ويتأكد أنه لا يزال على قيد الحياة. 

■ قسَّمت المجموعة إلى ٥ أقسام، هى: «وشوم خضراء»، و«أشباه»، و«عداوات صغيرة»، و«دوائر معتمة»، و«تحت الجلد».. ما الذى عنيته بهذا التقسيم؟

– القصص كثيرة جدًا، ٧١ قصة، وفكرة تركها بدون تقسيم أو حواجز أو أسوار، سيجعلها تبدو أشبه بحبات مسبحة منفرطة، كما أنها تلتقط كثيرًا من اللحظات، فيها من التشابه، وفيها أيضًا من التنافر والاختلاف.

وهكذا فكرت فى تقسيمها إلى فصول، حتى لا يشعر القارئ بنوع من الارتباك، وهذا التقسيم هدفه أن أضع خيوطًا ذهبية يمسك بها، فتقوده من غرفة إلى غرفة، فى هذا البيت الواسع الكبير المكون من عشرات الحكايات.

■ القصص مكثفة للغاية لدرجة أنك لو أزلت مفردة واحدة لتغيرت الجملة كثيرًا.. كيف كانت رحلتك مع كتابة المجموعة؟

– التكثيف فى القصة العادية متوسطة الطول أو الطويلة شرط مهم من شروط تحققها ونجاحها، فما بالك بـ«الأقصوصة؟» هذا لون كتابىٌ عالمىّ، فيه عدد من الاشتراطات، أولها أنه يقوم على الحذف أكثر من الكتابة، بمعنى أنه لا يصح أبدًا ترك مفردة لا معنى لها، أو لا تؤدى وظيفة فى «الأقصوصة».

الثانى أن جسم القصة القصيرة، وهو فى حجم راحة اليد، بتعبير ياسونارى كاوباتا، يعمل فى اتجاه، ونهايتها تعمل فى اتجاه آخر، أو دعنى أقول تنقل القارئ أو تنحرف به انحرافة مفاجئة قوية وصادمة، إلى لحظة لم تخطر له على بال.

هى أيضًا تحقق مفهوم «قصيدة النثر»، فى بعض حالاتها، حيث تعتمد غالبًا على «كتلة» من الكلام، أو بتعبير عادى «فقرة»، لا تتجاوز كما اتفقنا حجم راحة اليد، إذا وصل القارئ إلى نهايتها المفاجئة، تلمع فى رأسه فجأة صورة كاملة للموقف أو المشهد أو اللحظة الإنسانية، تحت إضاءة شديدة مبهرة، تصيبه بنوع من الدهشة والسرور، وتترك فى نفسه تأثيرًا قويًا مُركَّزًا، لا يقل عن تأثير أى عمل فنى عظيم. 

■ تبدو الحكايات وكأنها صور صغيرة متفرقة بعضها فى الجنوب وبعضها فى القاهرة.. وهى فى النهاية تشكل لوحة كبيرة اسمها «تاجر الحكايات».. علامَ اعتمدت فى كتابتك قصصها؟

– احتاجت هذه القصص إلى أكثر من ٤٠ عامًا من العناية والتأمل، حتى تقنعنى بأن هناك إمكانية لكتابتها، معظمها فى الغالب يُشكِّل مواقفَ حدثت فى الطفولة، لكنها بدت لحظة وقوعها عادية، أو حتى أقل من العادية، مجرد مواقف حزينة أو طريفة، أحكيها مثل غيرى من الصغار فى جلسات السمر.

هذه المواقف تستمر فى الإلحاح عليك على مدار سنوات لتكتبها، لكنك لا تكون مقتنعًا تمامًا بأنها قادرة على أن تهبك حياة كاملة، ففيها شىء ناقص، وفيها معنى مبتور، وفهمك الكتابة يقول إنها لا يمكن أن تكون عملًا ناضجًا بمفرده، ثم تستمر فى مطاردتك، وأنت على مشارف الخمسين من عمرك، وقد زادت خبراتك فى الكتابة، وقدرتك على فهم الحياة، وبالتالى بدأت تراها بعين الرجل الكبير والكاتب الواعى، الذى يدرك أن بإمكان جملة واحدة أن تصير نصًا رائعًا، له قوة تأثير هائلة.

ولدتْ هذه القصص بعضها بعضًا، كأن أول قصة فتحت بابًا فى الذاكرة المعتمة، وأتاحت لبقية القصص الخروج واحدة وراء الأخرى، كل واحدة تمسك بيد أختها.

كان يحدث نوع من الاضطراب والتزاحم على الباب أحيانًا، فقد سقطت إضاءة الشمس على الأرفف الخلفية من الذاكرة، وأضاءتها إضاءة قوية، جعلتنى أشعر بأننى بإزاء كنز أو خبيئة، كان علىَّ فقط أن أنظم أنفاسى وتفكيرى وأقنع نفسى بالهدوء، وإذا تزاحمت علىَّ الأفكار أدونها فى «فايل» على الموبايل، حتى يأتى دورها فى الكتابة. 

كان بعضها مقنعًا لى منذ اللحظة الأولى لكتابتها، لكنى احتجتُ إلى وقتٍ وتفكيرٍ وإعادةِ نظرٍ فى بعضها الآخر، وهناك قسم كامل لم يعجبنى فحذفته. باختصار اخترت «الأقاصيص» التى حققت شروط النوع الأدبى القصير جدًا، وحققت لى المتعة أثناء كتابتها، ثم فى قراءتها. 

■ بعض القصص على قصرها لها أكثر من تأويل.. لكن ألا ترى أن القصة الناجحة هى القادرة على أن تكون متفرِّدة من ناحية الرؤية والتصور؟

– لو قلت لك إننى أخطط أثناء الكتابة لتصبح «الأقصوصة» ذات وجهين أو تأويلين أو أكثر سأكون كاذبًا. لكنى أعلم يقينًا أن الكتابة مزيج من التخطيط والخلق، بمعنى أن «الأقصوصة» الجيدة الممتعة فيها الوصف، وفيها الاستبطان، فيها الحكاية، وفيها التأمل والأفكار، مساحتها محدودة، كلماتها قليلة، لكنها قادرة على أن تجمع بين زمنين أو أكثر، مكانين أو أكثر.

إنها أشبه بمجسَّم صغير حى وحقيقى للحياة، بكل مفرداتها وبشرها وحيواناتها، وبذلك هى فن رفيع ومُركَّز، قوة تأثيره عظيمة. وهى كذلك مزيج من فكرة واضحة كانت فى ذهن المؤلف، وأفكار أخرى جاءت من عقله الباطن البعيد. وبما أننى أقر بأنَّ الكتابة هى مزيج من التأليف والإلهام السماوى، وارد جدًا أن يكون لـ«الأقصوصة» أكثر من تأويل أو معنى. 

■ هناك شىء غريب فى المجموعة.. على صفحتين متقابلتين نجد عنوانين لقصتين يشكلان حالة واحدة، مثل «الكوليرا» و«الكشف»، أو يعكسان تضادًا مثل «الحب» و«الحرب».. هل قصدت فعلًا تشكيل هذه «الثنائيات» بتلك الطريقة؟

– هناك شيء مقصود بكل تأكيد، هو أن تكون القصص التى تتحدث عن فكرة ما، مثل السُّلطة، أو العلاقة مع الأب أو الأخ أو الجيران أو الجوع، متقاربة، لذا بنيتُ الأقسام على تلك الفكرة، أن تكون «الأقاصيص» التى بينها نوع من التشابهات البسيطة، موجودة فى سلة واحدة، لكنى لم أقصد أبدًا وضع كل قصتين متنافرتين فى صفحتين متقابلتين. 

■ حفلت المجموعة بمفردات تعبر عن الحياة المتكاملة، مثل الحب والحرب والفقد والبراءة والجوع والطفولة، وغيرها، كأنك هنا تُشرِّح حياة متكاملة عبر صفحات المجموعة.. هل قصدت ذلك أيضًا؟

– أحببت هذا السؤال، وأظن أنه يُعبِّر عن المجموعة بشكل جيد، الحياة هى أفكار ومشاعر متقاطعة ومتجاورة، وقد حاولت أن تغطى «الأقاصيص» كثيرًا من مفردات العالم حولنا، حتى تصبح المجموعة فى النهاية كتابًا كاملًا، عن الحياة بكل تفرعاتها واختلافاتها وشرورها وجمالها.

■ بعض القصص لم تتجاوز سطرين.. هل ترى أنها نتاج حقيقى لزمن التكنولوجيا والسرعة؟ وهل ترى أنها كتابة المستقبل؟

– لا أظن أنها نتاج للعصر الحديث ومفرداته، فبعض الكُتاب أسهموا بأعمال رائعة، قبل أن يعرف العالم التطور التكنولوجى، هى فى الأساس مرآة للكاتب نفسه، ولرغبته فى تجريب الجرى فى مضمار المسافات القصيرة، بعد تجريب العدو فى ماراثون المسافات الطويلة.

الكاتب يريد أن يختبر نفسه على قول ما كان يقوله فى عشرات الصفحات، من خلال بضع كلمات أو سطور. هو أشبه بلاعب الكرة بعد أن يتقدم فى السن، ويصير غير قادر على الجرى بهذا «الكرش» وهذا الجسد المترهل، فيقرر أن يجرب كل فنون الكرة فى مسافة متر واحد. لكن مواقع «السوشيال ميديا» تسهم فى نجاح «الأقصوصة»، فقصرها وما تحويه من حكمة أو مفارقة، يغرى القراء بمشاركتها.

■ ما المشروع الجديد الذى تفكر فيه حاليًا؟

– ألعب فى الوقت الحالى مع «ألف ليلة وليلة»، أعدت كتابة ٣ قصص منها بطريقة المعارضات الشعرية. لن أقول ما هى القصص الثلاث، لكنى متحمس للإكمال، أظن أنها ستكون مجموعة «مجنونة» جديدة، أجرب فيها نفسى وروحى ولغتى وقدرتى على الخلق، من أى عجينة تقع فى يدى.

■ كيف ترى ردة الفعل على المجموعة؟ وهل يمكن أن نرى واحدة أخرى قريبًا؟

– رد الفعل «ممتاز»، أحببتُ ما كتبه عنها أشخاص أعرفهم، وآخرون لا أعرفهم، على مواقع التواصل الاجتماعى، وعلى موقع «جودريدز»، تعليقات تدل على أنها تركت الأثر المطلوب فى نفوسهم، واستمتعوا بها.

كنت متخوفًا قليلًا أن يصدم هذا الشكل القصير مَن أحبونى فى قالب القصة الطويلة، لكن التعليقات مشجِّعة للغاية، لكنى لا أفكر فى كتابة مجموعة جديدة بهذا الشكل قريبًا. 

لو طالعتَ آخر 4 مجموعات لى، ستعرف أننى لا أكتب عملين متشابهين. فى «السهو والخطأ» جربت كتابة القصة الرمزية. فى «حروب فاتنة»، ذهبت إلى السياسة وخلقت منها فنًا، فى «البشر والسحالى» جعلت الحيوانات أبطالًا، والآن ها نحن أمام «أقاصيص» تشبه حبات الفيشار، وهى تتقافز بسرعة من إناء فوق النار. 

■ فى النهاية هل هناك ما تحب أن تضيفه بعيدًا عن سياق الأسئلة؟

– نعم. أرجو أن تتوقفوا عن سؤالى كلما أصدرت مجموعة قصصية: «متى تكتب الرواية؟».

………………………

*عن المحلق الثقافي “حرف”

مقالات من نفس القسم