فصلٌ من رواية “الرحيل إلى الجنّة”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد النعّاس

يقول سيدي الفقي إنّ الناس يدخلون الجنّة في أجمل حُلّةٍ لهم. لا أطفال ولا عجزة في الجنّة، بل رجال ونساء في أحسن تقويم. أذكره يخبر عبدالنبّي أنّه عندما يدخل الجنّة سيعيد الله له أقدامه، وعندما سأله فَرج عن مصيره هو، بشّره أنّ والده ستعود له صحّته ويتركه لشأنه بينما يعتني هو بإبله، أمّا أنا فقال إنني الوحيد الذي سيدخل إليها طفلاً، لأنني سأبقى كذلك حتى عندما أشيخ. لم أستوعب قهقهته بعدها، لكن أعجبني قوله. كان ذلك في شهر الربيع الذي سبقَ خروجنا من وطَن القبيلة.

في السَّحَر أيقظني. كنت أظنّه هديّة يبحث عن الحليب في جيبي. دفعته بيدي وقلتُ له: “لا حليب لديَّ”، لا حليب إلا في أضرعِ النوق والنعاج والماعز، لكنه ظلّ يدفع جسدي بأنفه. استيقظت غَضِباً، إذ أردتُ أن أنال حصّتي من النوم كاملة حتى أسبق القافلة في الغد لأكون أوّل الواصلين إلى الجنّة. لا أريد أن يسبقني إليها حتى الكولونيلّو. عندما فتحتُ عيني، رأيته: كان حصاناً ضخماً يفوق في حجمه حصان سيدي اعْمَر، أزرقٌ كلون الحليب[*]، بل أكثر من ذلك. عيناه الزرقاوان كأنّهما لم تريا بشرا قبل ذلك. النُور الذي يلّفه كاد يعميني. قفزتُ هارباً منه إذ كاد حسنه أن يفطِر قلبي حُزناً. هربتُ بين أكداس الأجساد الملقاة أمامي. كان الجميع نائمين، ولم يكن هناك في القافلة إلا نيرانٌ حولها للحَرَس. جاءني عندها صوتٌ من قبيل تلك الأصوات التي تترك في روحك أثراً يجعلك ترى كامل حياتك أمامك. أنا لم أر شيئاً، وجدتُ حياتي أمامي فارغة، لا شيء إلا الصحراء. “جاب الله، جئتُك لآخذك إليها” قال لي صاحب الصوت. “هيّا اصعد ولا يفزع قلبك، جاء زمانك”، كان الصوت يجيء من الحصان، بل لأكون دقيقاً، يجيءُ من النور حوله. بحثتُ في القبيلة عن أي نفسٍ حيّة معي لكن لم أجد، كنتُ النّفَس الوحيدة التي تشهدُ كل هذا. أخذني النُور ووضعني فوق الحصان، خفّ شعاعه فأمكنني مشاهدة الأجنحة على ظهرهِ. “إنّه هُو”، قُلت لنفسي، لا شكّ أنّه هُو. “بسم من تعظّم اسمه في السماوات والأرض”، جاءت الكلمات من صاحبِ النُور تأمرُ الحصان فارتفع بجناحيه كأنّه ريشة واحدة لا يدفع ريحاً بعده ولا صوتاً ولا يرجّ الأرض. وطرنا.

ربما تبوّلتُ في ملابسي، لا أذكر. لكن لا تزال تلك اللحظات تمرّ بذاكرتي كأنّها تمرّ أوّل مرة، صورةُ يديّ وهما تهتزّان وتصدران طنيناً أريدُ أن أوقفهما فلا أستطيع. عيناي مفتوحتان إلى حدّهما مشدوهتيْن من منظرِ الحصانِ المُجنّح. وعقلي لا يفكّر في أي شيء، بل يفتحُ فمي باحثاً عن أي شعورٍ يمكنه أن يحسّه في مواجهةِ هذا الحدث، فلا يجد. كنتُ في حالةٍ تشبهُ المجاذيب وهم قد وصلوا أخيراً إلى حالةٍ من النشوةِ الصوفيّةِ والروحيّة لم يصلوها من قبل. إن كان ما حدث في تلك اللحظات حلماً فقد تحقق، وإن كان حقيقةً فلا أعرف كيف أصفها.

طار بنا الحصان إلى أعلى. بدت القافلة أصغر وأصغر مع ارتفاعنا. حلّق الحيوان حولها على ارتفاع النخيل الذي كان بُرعماً أيام تَجْريدَةِ حَبيب وصار الآن جدّات نخيل الوَطَن. اتجهنا بداية إلى مؤخرة القافلة، هناك شاهدتُ الإبل تستيقظ من نومها وترفع أعنّتها إلى السماء تتابعنا، كانت تهدرُ فينا تناجينا أن نأخذها معنا إلى السماء بعيداً عن الصحراء، خفتُ أن توقظَ رجال المؤخرة والرعاة ليشهدوا ارتقائي إلى السماء. كنتُ أريد أن يكون ذلك سرّي الصغير؛ أو هكذا ظننتُ في تلك اللحظة. نزل بنا الحصان حتى وصل إلى أعناقها فتناثر النور عليها، ورأيتُ فيها بسمةً لا يراها فيها إلا من وُلِد وترعرع معها وعاش فوق أسنمتها ورعاها ورعته. ثم، وبحركة تشبه السِّحر، عادت لتنيخ رقابها وتغلق أعينها. حلّقنا على مسافة قريبة من القافلة، رأيتُ هديّة يرتجف من برد ليل الصحراء وهو يحاول دسّ أنفِه في جسدِ أمّه، النعجة التي عرفتُ عنها نكرانها أطفالها. مررنا بعدها بين الجنود النائمين يتكئون على أسلحتهم، كان الحصان يتحرّك بينهم كأنّه أفعى تتحرك بين أشواك، بسلاسة وخفّة، عزفت فرقة من الطبّالين داخل قلبي واحتشدَ فيه الخوف حتى كادت توقظ الجنودَ دقّاته. بعدها دخلنا وسط القافلة. رأيتُ أماً تحاول إرضاعَ ابنها، كان الطفل يبكي يفتش في ضرع أمّه عن الحليب فلا يجده، الأم تبكي بينما تحاول امرأتان إخفاءها عن أعين المتلصصين في القافلة. رأيتُ أهلي وهم يغطّون في النوم، أمي تحتضنها أختي الكُبرى عيشة. بحثت عن زازية، لكن لم أجدها. ارتفعَ الحصان لأعلى مرة أخرى. مررنا على أهل فَرج، بحثتُ عن فرج أيضا، لكنني لم أجده هو الآخر. ارتفع الحصان حتى أمكنني لمسُ جريد النخيل. هناك وجدت جسد فرج يتسلل إلى مستقرِّ الجنود الذين يحرسون القافلة من المهاجمين ويمنعون الهاربين. وجدتُه خلف إحدى الأحجار وهو يراقب الجند المتحلقين حول النار، أردت أن أناديه إلا أنّ النور سطع حتى عمَت رؤيتي وبُحّ صوتي. اقتربنا منهم، دفع الحصان أجنحته فاندفعت ريحٌ أطفأت نارهم، وقبل أن نؤوب إلى القافلة رأيتُ فرجاً يتسلل أكثر إلى مكانهم، رأيتُ بين الجنود ذلك الحبشي الذي أطلق رصاصه في صدر أخي عَلِيٍّ، ورأيتُ فرج يتفحّصه ممسكاً بمديةٍ لا أعرف من أين أخذها. تقدّم الحصان أخيراً إلى مقدمة القافلة حيثُ عربَات الروم، وحيث خيمة الكولينلّو المضاءة. هناك سمعتُ صوتها، كانت تناجي من يسمعها لإنقاذها، بينما ينشج رجل في الداخل والجنود حول الخيمة فرحين يضحكون. أردت أن أقفز من الحصان لأنقذها، لكن فعل النور فعلته وأمر الحيوان بالارتفاع عاليا، أعلى من النخيل، أعلى فأعلى حتى بَانت القافلة كأمة النَّمل. كنتُ أصيح في النّور، أصيح في القافلة، أصيح في سِيدي اعمَر، أصيح فيمن يملك القوة لإنقاذها.

أحرقَنِي ما سمعت، أحرق أحشائي، فظللتُ أبكي ونحن نرتفع داخلين وسط السحاب. لكن النُور أنزل دمعي مطراً على القافلة. أخبَرني ألّا أحزَن، فإنّ القافلة ومن فيها في عينِ الله. “هل تريدُ أن تراه؟”. جاءني صوته نشيداً لم ولن يسمعه بشريٌ من قبل. كان يعرف خبايا نفسي وأمنيّتي، حككتُ عيني أمسحُ دمعي إلا أنّه أمرَني ألّا أوقفه، لتروي المطر الناس في الأسفل.

طرنا بين السحاب، تحرّكت أجنحة الحصان تدفع السحاب لتصطدم بينها فتبرق وترعد وينزل المطر منها يسقي الأرض العطشى للفرح. دفعنا السحاب خلفنا حتى خرجنا منه، هناك رأيتُه، كما حلمتُ به، كما تخيّلته تماماً، كان تشكله والصحراء تحاصره كإبرة نقشت على ذقنِ فتاةٍ قَمْحِيَّةٍ وشماً أخضرَ جميلاً يزيد من فتنتها لدى أقرانها من الشباب.

وصلنا الجبل، اخترقنا أشجاراً لم أرَ لها في وادينا في وطننا مثيلاً. أشجار عالية خضراء تقف درعا أمام القِبلي يصدّه عن المضي قدما إلى الأرياف والمدن، أشجار لا أعرف أسماءها ولم أسمع من عَليٍّ (الذي كان حريصا على وصف كل شيء لي) يوما وصفا لها. رأيتُ فيما رأيت طيور البوم تحلّق صحبتنا، ورأيت أفاعيَ تراوغ الحشائش التي تغطّي التُراب الأحمَر الخصب. تراب برقة الحمراء، كُل ما تفتخر به وما تعتز به قبائلها. أسرع الحصان يطير بين الأشجار حتى خرجنا إلى حقول عنبٍ معلّقةٍ في السماء. جاءني صوتُ النور الملائكي: “هذه المرج” قال لي. المروج لا نهاية لها في المرج، تتوزع بين كل حقلٍ وحقل بيوتٌ بيضاءٌ جديدةٌ رُفِعتْ عليها أعلام الروم، واصلنا طيراننا ووصلنا إلى الوادي، وادي الكوف، تخللنا الوادي وحلّقنا بالقرب من أفواه الجبل. هنالك وجدتهم، أقسم أنني رأيتُ سيدي اعْمَر يقيم الليل واضعا بِندِقتَه على يمينه ويصلّي لله، رأيت رجال القبيلة وأمكنني تبيّن سيدي الزُّبير أخ زعيم قبيلتنا يراقب سيدي اعْمَر يحميه من رصاص الغدر. فرحت، بحثتُ عن وجه أبي، سيدي، بين الوجوه، لكن لم ألقاه. لم نبقَ كثيراً، طرنا إلى أعلى وقفلنا غرباً حتى خرجنا من الجبل. أمكنني رؤية بنغازي، هادئة إلا من موسيقى حانات الروم واليهود. كان الحصان يزداد سرعة حتى إننا مررنا بكل القرى والمدن في برقة وطرابلس وفزّان في أقل من دقيقة. رأيتُ كل بيتٍ، كل حجر، كل دابة، كل إنسي، وكل جني، وحفظتُ أرواحهم وعذاباتهم وطموحاتهم في لمحِ البصر. رأيتُ في بنغازي سيدي اخريبيش يتكئُ على ضريحِه ويوقظ الموتى يستحثّهم على الجهادِ ضدّ الأعداء، لكن لا حياة لمن ينادي. رأيتُ سيدي قحفة سيدي المهدي في البيضاء خاليةً على عروشِها لا أطفال يلعبونَ في روضتِها ولا شيبان يدعونه أن يرفق بهم. ورأيتُ في الجغبوب الواحةَ قد انتفضَ النّاس من حولها وهاجروا إلى المدن الكبيرة. أما فزّان فشهدتُها صحراءَ التهمتْ كلّ الألوانِ والنخيل، فلا شيء سوى الضباع تعثو فيها. ومما رأيتُ طرابلس يحوم حولها الدّم كأنّه ينصب فيها شلالاً يملؤها، رأيتها لا وجود لعربي فيها، لا يتوقف الروم عن البناء فيها لا ليلا ولا نهارا، ولكنني رأيتُ سيدي عبدالسلام وسيدي الصيد وسيدي درغوث وسيدي الشعّاب وبقية مرابطيها وأسيادها يتجمعون في هضبة الهاني يحملون راياتٍ خضراً يقودون جيشا من الملائكة لتحريرها من الروم. لكنني رأيت مرة أخرى في زليطن سيدي عبدالسلام يبكي في ضريحه بعد أن انفضّ الجمع حوله. كان ما أراه في كل قرية، في كل مدينة، الأمر ونقيضه، رأيتُ درنة، أرض الزهر والكروم، رأيتها جنّة رمان وتوت وعنب وبرتقال ورأيتها ناراً تأكل حتى الحجَر ورأيتها خاويةً على عروشها بيوتها تغرق في الماء ويختنق شجرها فتجتثه مياه الوادي وتلقي به إلى البحر. ورأيتني أبكي فرحاً وحزناً في الآن ذاته حين رؤيتها، أتذكر حكايات عليٍّ عنها، وكيف كان يرسمها أمامي، وأقول لنفسي إنّ عليّاً لم يعطِ لدرنة حقها. يقول سيدي الفقي إنّ في الجنّة ما لا عين رأت ولا أذنٌ سمعت، ولم يخطر ببال بشر، وكان بدرنة كل ذلك.

انطلقنا بعدها إلى أقصى بلادِ الأرض، ومنها ارتفعنا عاليا حتى خرجنا من الجدار الذي يفصل بين الأرض والسماء الدنيا.

………………………..

*روائي ليبي ..حائز على الجائزة العالمية في الرواية العربية (البوكر) 2022.

* الرواية تصدر عن دار الفرجاني
[*] يسمى الحصانُ أبيضُ اللون بالأزرق

مقالات من نفس القسم

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

الحرمان

تراب الحكايات
موقع الكتابة

الجازية