ناصر اللقاني
في روايتها “ندَّاهة أصيل” “من لندن إلى جدة”، تقدم لنا الكاتبة “دينا شحاتة” رحلة ساحرة، هي رحلة بحث عن الذات المفقودة، وعن الذاكرة الضائعة، وعن المعنى المتواري، وعن الأمل المتعثر، عن بطلنا “أصيل”.
“نَدَهته الندَّاهة”، فبدأ تلك الرحلة المرهقة إلى داخل ذاته، عاد من لندن إلى مدينة جدة ليستعيد وجه أمه، بعد أن انتبه إلى أنه لا يملك لها صورة، لا بين يديه ولا في ذاكرته، كانت هي الغرفة المظلمة، وكان يريد إزاحة السد المنيع الذي أُقيم في طفولته، قام بتفكيك نفسه لكي يعيد تجميعها بأجزاء كانت ناقصة، وكان خائفًا من الخواء ..
❞ الحقيقة إني أخاف أن تُفتح لي الغرفة المظلمة، فيفتتني خواؤها. فالأسوأ من ذكريات كانت.. ذكريات لم تكن.❝
أدرَك أنه جندي في معركته الخاصة، معركة الحب والمعرفة، معركة بلوغ سمو النفس ونَيْل حكمة العقل، كان يحتاج إلى معرفة ما مرَّ به الجنود السابقون، آباؤه وأجداده، ليكتمل وجوده، بحث عن البوصلة والهدف، ألقى نظرة على البيت الذي يحوي طفولته، استقبله الحجر والروشان والنيم والمصباح والباب، وقصوا عليه أطراف كل الحكايات، حكايات الجدود والآباء خلال أكثر من ثلاثة قرون.
بدأت الحكايات من أصيل الجد الكبير، ثم بدر ومحمد الأكبر وأمجد وخالد ومحمد الأصغر وزياد وعبد الله وعبد السلام، ثم بطلنا أصيل، كان لكل واحد منهم زهرة حياة، وحكاية عشق، ونصيب سعادة، ومقدار لوعة، وقصة رحيل.
عرفنا الجد الكبير ️أصيل، المولود يتيمًا والذي أيضًا لم يعرف ملامح أمه واشتاق لحضنها وعندما لوَّعه حب نورة التي تزوجها ردد شعر الشريف الرضي، وعرفنا بدر، الذي تزوج سليمة وعاش وأنجب بعد سنوات وأقعده المرض، وعرفنا محمد الأكبر، الذي أحب عروس البحر وتزوج وِد زواج الوهم ثم حورية ذات القلب الكبير التي أنجبت له ورحل بعد أن ظلم وِد ولم يُقدِّر حورية قدرها، وعرفنا ️أمجد، الذي أحب المرأة المتزوجة حياة وتزوج آمنة وعاش فتنة مدينة جدة بين العثمانيين والإنجليز ولم ينج من وباء الكوليرا، وعرفنا خالد، الذي تزوج هاجر وربط حلقة الوصل بين أبيه وابنه، وعرفنا ️محمد الأصغر، الذي وُلِد يوم فتنة مدينة جدة وورث قلب جده أمجد وعاش حكيمًا للعائلة ومات فوق سفينته، وعرفنا زياد، الذي كره البحر ونهل من كل العلوم وتزوج ثُريَّا التي تنبأ بزواجه منها في صباه، وعرفنا عبد الله، الذي أوصل أباه لابنه، وعرفنا عبد السلام، شريك بداية رحلة بطلنا، ثم عرفنا أصيل.
أصيل، بطل الرواية، هو نتاج كل ما سبق، بالوشم الذي على ساعده الأيسر، يبحث داخله عن أمه ليلى، لا يتذكرها، لا يتذكر سوى تأخر نطقه في الطفوله، كبر في لندن، تركه أبوه وغادر الحياة، عاد إلى مدينته جدة بعد أن تسلم إيميل عن نزع ملكية البيت القديم، تراوحت نفسه وتبدلت كثيرًا بين الخفة والثقل، تكررت زياراته للبيت القديم، ودارت حواراته مع الموجودات، شاهدة الزمن والتاريخ، عندما شبهته النيم بجده أمجد، أدرك أن ورد ليست الحب الحقيقي، وعندما ذهب إلى المقابر، وجد هناك حمامة، وتعلم منها درسًا..
❞ إن لم نستطع التخلص من القيود فلنُحكِم وثاقها جيدًا حولنا، لنجعلها جزءًا منا ❝
سَرَد “أصيل” الرواية بصوته ومن داخل أعماقه، وكان الرواة الأخرون يشاركونه الحكي، الحجر العاشق وخشب الروشان وشجرة النيم ومصباح الإتريك وباب البيت، يا لهم من رواة، ويا لها من تجربة وجدانية ممتعة.
أصيل الذي كان يبحث عن ذاته كإنسان رأيته وجودًا يبحث عن اكتمال، والموجودات المؤنسنة التي كانت تَروِي رأيتها اكتمال يبحث عن وجود، لم استسلم لفكرة أن تلك الأشياء الناطقة هي شكل للفانتازيا الأدبية، ولكني رأيت في الرواية بعدًا فلسفيًا يعبر عن نفسه، ولمحت ظل باروخ سبينوزا يمرق بين طياتها، يلقي التحية، ثم يمضي في هدوء.
استطاعت دينا شحاتة في السرد والحوار، أن تأتي بلغة عذبة، مفعمة بالدفء والشجون، صاعدة من أعماق الوجدان، تشي بطاقة دافقة لا تفتر، عبارات يشوبها غموض وحنين وحيرة، ويقطر منها إكسير الحكمة، تذكرت لغة وعبارات الشيخ عبد ربه التائه في أصداء السيرة الذاتية للعظيم نجيب محفوظ، واستمتعت بذاك الجمال اللغوي والجلال المعرفي.
في نهاية الرواية، أتم أصيل البوح، فاكتشف باقي الأسرار، بعدما بدأت ذاكرته في اليقظة، توالت كل الصور، صور الأرجل الست على الرصيف، وصور الأيادي والأفواه والوجوه، انفتحت الغرفة المظلمة، ورأى كل الحقيقة، انهار السد المنيع، وانطلق الحنين العاصف ليعيد تشكيل حياته من جديد.
عاد إلى الشهود، الحجر العاشق وشجرة النيم والروشان والباب والمصباح الإتريك، حكوا له الحكاية الأخيرة، عندما وُلِد، كان يمتلك قبسًا من حياة كل جد، ثم امتلك قلب أمه بما فيه من حب وشفافية وكف أبيه بما فيه من معرفة وسحر، وعقله هو بما فيه من أسئلة لا تنتهي، بعدها امتلأ أصيل بالوجود، وتوحد مع كل الموجودات، وتصالح مع الحياة، وحمل نبتته الخضراء في صدره، ومضى في طريقه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب وناقد مصري
كاتب وناقد مصري