صغارًا كنا وكبرنا ونحن نسمع صوتها في الشوارع والمقاهي في أماسي سهرات الأهل عشقنا لأنها عاشت معنا ببيوتنا وبأرواحنا. أم كلثوم ليست مجرد صوت يرن في أذننا، بل قلب ينبض في وجدنا. كل أغنية لها مرآة لكل حب فقدناه، لكل فرح عشناه، ولكل وجع دفين نخبئه في أعماقنا. في حضورها، يصبح الحب أعمق، يصبح أوسع، وكأن كل نبضة قلب تعزف على وتر من نغماتها. هي ليست مجرد مطربة، هي تجربة وجدانية، حضور لا يغادر الروح، حتى حين يغلق الصوت أبوابه.
“كنت أسمعها وأشعر أن كل وجعي القديم يتنفس معي، وأن كل حب لم يُعطَ يجد في صمتها ملجأ.“
في رواية مجانين أم كلثوم للروائي شريف صالح نتأرجح بين ثلاث مستويات: حبنا لأم كلثوم وصوتها، حياة وقصص الجمعية التي تجمع محبيها، وتجربة جلال الشخصية مع الحب الأول وسام /سلمى كيف أحبها على طريقة اغاني ام كلثوم وكيف عاش وعانى الفقد بأغانيها.
في المستوى الأول، نغوص في تفاصيل صناعة هذا الصوت الأسطوري، في علاقة الحب بين الست والملحنين: السنباطي الذي عزف لها الحنين، الموجي الذي أراد أن يمس الروح، الشيخ زكريا أحمد الذي وضع قلبه في كل نغمة، وأحمد شوقي الذي كتب الكلمات كما لو كانت تتنفس معها. الحب هنا ليس بين رجل وامرأة، بل بين قلب موسيقي وروح تغنيها:
“لم يكن السنباطي يلحن لأم كلثوم فحسب، بل لكل نفس محبّة تبحث عن صوتها في العالم.“
يتجلى جانب فريد من علاقتها بالشعراء الكبار، كما في قصيدة أحمد شوقي “سلوا كؤوس الطلا”، حيث تغنت وهي تعلم أنها ملهمة الشاعر نفسه، كأنها العاشقة والمعشوقة في آن واحد. لم يكن اختيارها لشعراء من مصر وسوريا ولبنان والسودان وباكستان والسعودية مجرد تنوع فني، بل رسالة دفينة تقول إنها ملكة العرب والمسلمين، وصوتها مرآة للفخر بالثقافة والهوية. كما قالت في حوار إذاعي عن الأغنية:
“سلوا كؤوس الطلا” لأنه ناولها كأسا فلمسته بشفتيها ثم ألقته خلسة في المزهرية. كان يحلم بخلود شعره إذا غناه أجمل صوتين في مصر.”
أما جمعية محبي الست ، ذلك المكان الصغير المليء بالوجوه المشتاقة، تعلمنا كيف يمكن للحب الجماعي أن يكون صادقًا، وكيف يمكن لشغف متبادل أن يشعل الأرواح، وكيف يمكن للصوت أن يجمع بين الغرباء في هالة واحدة من العاطفة. بين الأحاديث والضحكات والغيرة، هناك حب صامت، حب كالموسيقى، يملأ الفضاء دون أن نراه:
“في الجمعية كنت أرى العيون تلمع عند كل نغمة، وكأن كل قلب هناك يراقص الست مع كل كلمة.”
أما على المستوى الشخصي، جلال وتجربته مع وسام/سلمى فتقدم لنا الحب في أعمق حالاته الإنسانية: العطاء الكامل، التعلق المطلق، والفقد الذي يترك أثرًا لا يمحى. الرواية تقدم مشاهد حية لعاطفته اليومية، بدءًا من صوت أم كلثوم اثناء حبهم ومرورا في السيارة، وحتى ذكرياته مع بناته، وزياراته للمقابر، وتجواله بين صور الماضي، وتجربة الظلم الشخصي:
“ظلموني الناس.. حاربوني الكل وغلبوني.. أخوتها صدقوا أكاذيبها، لم أشعر بتعاطف بناتي معي إلا نغم، الوحيدة التي بكفت وأنا أحمل حقيبتي وأغادر. تعلقت بساقي وحضنتني.”
الأغاني نفسها تصبح تجارب وجودية، كما في “ليلة حب” و”وضاع الحب”:
“واحدة من أعظم اللقطات حين يتقارب طرفا الستارة، ثم تفتح قليلاً، فتطل الست مجددًا على جمهورها وسط التصفيق والهتاف وتدندن: ‘أنا وأنت ظلمنا الحب بإيدينا وضاع الحب ضاع ما بين قلب وقلب ‘.”
هنا يتحول صوت أم كلثوم إلى ملاذ وجداني، وسيلة لفهم الحزن والخذلان، ومواساة لروح الجريح. الحب هنا ممتد من النغمة إلى الذاكرة، من الصوت إلى الجسد، من الصمت إلى الانفجار العاطفي، فالحنين يختلط بالواقع، ويظهر كيف أن الحب والفن قادران على مواساة النفس حتى في أقسى لحظات الظلم والخسارة:
“عشرون عامًا، كانت مدة كافية كي ألف كل شيء: طريقة نومها، كوابيسها، انتظامها في غسل أسنانها، وطريقة ارتعاشها في الفراش نجرب قبلة فاترة لتوقظ أي شعور فينا.”
اللغة في الرواية موسيقية مثل أغانيها، قاسية أحيانًا مثل الحقيقة، هادئة أحيانًا مثل الانتظار. كل سطر يحمل إحساسًا صافيًا، كل فقرة تترك أثرًا في القلب، تمامًا كما تفعل أم كلثوم. يقول جلال في لحظة فهم وادراك :
“كنت أصمت بين الأغاني، أستمع للفراغ بين النغمات، وأدرك أن الحب الحقيقي يبدأ هناك، في الصمت الذي يملأ القلب.”
“مجانين أم كلثوم” ليست مجرد قصة عن الموسيقى أو جمعية، وليست مجرد تجربة عاطفية شخصية. إنها رحلة في قلب الحب بكل ألوانه الحب لصوت، الحب للروح، الحب للبشر، والحب للذات. أم كلثوم هنا أكثر من مطربة، هي حضور حي، صوت يعيدنا إلى أنفسنا، مرآة لكل ما نحب ونفقد، وكل ما نحلم به في صمتنا الداخلي.
“غنينا معًا: ‘يا حبيبي كل شيء بقضاء، ما بأيدينا خلقنا تعساء وفي صمتها كنت أسمع صدى قلبي المكسور، وكل أغنية لها تعيد لي شيئًا من روحي التي فقدت.”
أم كلثوم لا تغني فقط، بل تحيي الذاكرة، وتذكرنا بأن الحب والفن والروح الإنسانية متشابكة بشكل لا يمكن فصله. كل أغنية هي درس في الصبر، في الشغف، وفي القدرة على تحويل الألم إلى جمال يسمو فوق كل ظلم وفقد. “مجانين أم كلثوم” ليست مجرد رواية عن رحلة موسيقية، بل دعوة لنستمع إلى قلوبنا، لنجد أنفسنا، ولنعيد اكتشاف الحب في أعمق أشكاله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدرت الرواية عن الدار المصرية اللبنانية 2025 وهي الرواية الثالثة لشريف صالح.