طبيب أرياف،بين السلطة والسيرة الشعبية

طبيب أرياف
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
قراءة جديدة لرواية طبيب أرياف يقدمها الروائي العراقي زهير كريم، انطلاقًا من السيرة الشعبية

أفرد محمد المنسي قنديل في هذا النص، فصلاً طويلاً استدعى فيه السيرة الهلالية، على لسان إحدى الشخصيات (الغجربة) فاتحًا للقارئ ممرًا لكي يدخل الى مقاصد نصه الأساسية، عارضًا تصوره بخصوص المدونة التاريخية لمصر، والتي تشتبك في ملحميتها مع السيرة  الشعبية بكل ماتنطوي عليه الأحداث من هزائم وانتصارات، من الحب والكراهية، البطولة والمأساة والدم. ويتضمن هذا الاستلهام أو الاستدعاء النصي تقديم خطاب السلطة، مهيمانتها وتعدد أشكالها، في محاولة لنسج مقاربة بين التاريخ سياسيًا واجتماعيًا، والسيرة الشعبية، بينهما خيط قديم يشكل في مادته شبكة العلاقات الشائكة الذي يتجلى فيها مفهوم السلطة.

يقول (مونتيسكو): إذا لم تسمع في دولة ما صراخًا نتيجة لأي نزاع، فتأكدوا أنه لاتوجد حرية. وتحضر حقيقة هذه المقولة طوال الزمن السردي لرواية (طبيب أرياف) لمحمد منسي قنديل، فالزمن هنا ساكن، والمشاهد تعبر كما لو أنها محبوسة في شريط يعمل بدون توقف دون أمل في حدوث اي تغيير  في أي من لقطاته. إذ تحضر السلطة  في النص خلف المشاهد باعتبارها رقيبا مهيمنا، حارسا لفكرة التكرار والسكون.

ميشيل فوكو في تصوره للسلطة يركز على أنها ليست كتلة واحدة بل هي مبعثرة على شكل اجزاء صغيرة، تظهر في شبكة معقدة من العلاقات بين الأفراد. وفي هذه الرواية تظهر تمثلات السلطة بالفعل متناثرة، فلم يقتصر الأمر في القول على المظهر السياسي المتمثل بالحكومة وصراعها مع معارضيها اليساريين والاسلاميين، بل تمتد الهيمنة في القرية من خلال السلطة الذكورية لمجتمع الأرياف بشكل خاص، مثل حادثة قتل (جليلة) والسلطة الطبقية المتمثلة بمنزل العمدة، وسلطة الجسد التي يركز فيها الراوي على علاقة فرح بالطبيب، سلطة المال والدين متمثلا بانتهاك جسد القبطي العاشق لمسلمة، وتمثلات أخرى بثها النص كإشارات لمفهوم السلطة

وفي حوار بين ضابط الشرطة والطبيب، الشخصية الرئيسة في الرواية  والراوي في معظزم فصولها، يقول الضابط الذي يظهر لنا باعتباره الابن النبيه للواقع، مدركا لطبيعة اللعبة بين  السلطة والجمهور، المطلع على الأسرار، القارئ الجيد للتاريخ والمدرك للنتائج التي ستحصل لكل فعل قبل أن يبدأ حتى، وهو ايضا الموظف الذي يعترف كونه مجرد برغي في الماكينة التي تدور منذ آلاف السنين، والتي لن يستطيع هو أو غيرة فعل شيء لإيقافها أو إحداث تغيير بسيط في اتجاهها: منذ أن خلق الله مصر وهناك ثلاث طبقات: فراعنة وكهنة وفلاحون… هكذا كان الأمر وسيظل دائما. يضيف الطبيب طبقة أخرى بها يكتمل البناء كما يظن: لقد نسيت التجار. لكن الضابط يجيبه بصرامة  العارف الواثقة: إنهم جزء من الكهنة، وهم الذين يقومون بتمويل كل الفراعنة.

وسوف أحاول الوقوف على أربعة قضايا حاول النص تفككيك بنيتها:

 فطبيب أرياف نص_ كما أعتقد_ مبني بروحية  تستلهم السيرة  الشعبية، أو الملحمة القومية، فيُظهر لنا التاريخ متصلاً، بدون تقطيع، الحكاية نفسها هي  كتلة متماسكة بدون تشظية، ربما لأن خيط الزمن في السرد  متوافق مع خيط الزمن في القرية، في البلاد كلها (المدن والأرياف والصحارى)، الزمن الذي أنتج للسلطة، الأمراض، الفقر والتعب،  فهو خيط لا يمكن _حسب االنص_ قطعه، شيء يشبه القدر الوجودي، حيث النهر نفسه، جالب الخير لكنه المنتج للبلهارسيا أيضًا، يواصل دفع الدود، كأن الأخطاء تأصلت، صار لها جذور  يستحيل قلعها عن هذه الارض.

والقضية الاولى التي تواجهنا هنا، هي التحولات السياسية التي اعقبت اغتيال السادات، صعود تيارالاخوان المسلمين كقوة لها حضورها في الشارع، وتراجع تيار اليسار، متمثلا باعتقال الطبيب، اعتزاله السياسة ثم خروجه في عفو مشروط بنقله للعمل في قرية في عمق الصعيد. يحدث كل هذا في إشارات يكون فيها الشخصية الرئيسة باثا بدون تفصيل، كما لو أن  الكاتب كان على عجلة من أمره لدفع الطبيب المهزوم من القاهرة، المدينة المكروهة بالنسية له، مدينة السلطة بأتم عافيتها وعمقها التاريخي، هاربًا إلى الريف لإصلاح انكساره الشخصي، أو انكسار اليسار بشكل عام.

القضية الثانية تتعلق بطبائع الجغرافية:

 إذ يقدم لنا النص البلد بثلاث مظاهر  طوبغرافية، المدينة، الأرياف، والصحراء. المدينة كانت بالنسية للبطل مكانا للخيبة، خيبة الحب، الفقر،  الحلم السياسي، الإعتقال، إنها مكان طارد له، إذ يعود البطل في اول زيارة له للقاهرة قادما من القرية،  يفعل ذلك من أجل تصفية الحساب مع المكان، السجن، سجن القلعة لكي يتخذ قراره النهائي بالانفصال من اجل استعادة ذاته المسلوبة، مدركًا أن وجوده الحقيقي مع الفلاحين، فهو واحد منهم، البشر الذين لم يكن وجوده معهم في البداية سوى عقوبة، تنكيل من السلطة به. كما يقول له  ضابط الأمن، إنهم أخرجوه من السجن، لكن العمل في أرياف الصعيد هو سجن ربما أكثر قسوة من المعتقل، وهذا ماحدث في النهاية، فلم تكن الأرياف تقبل باختراق الغرباء لحياتهم الساكنة منذ آلاف السنين، والتي تحكمها قيم ثابتة لايجب تجاوزها في كل الأحوال.

المظهر الثاني هو الصحراء، السر الذي لايعرف تضاريسه ومتاهاته سوى أهله، الغرباء يتيهون، تأكلهم الضواري، فهي مساحة لاتقبل الدنس، دنس الهيمنة ربما، رمال بيضاء كما تصفها الغجرية، وهو فضاء للحرية، إذ يظهر في حوار الغجرية العارفة  بأسرار الصحراء مع الضابط الذي يبدو _ عندما توغلت بهم في عمق الصحراء_ غريبا، ضعيفا جاهلا، منقادا لمشيئة الغجرية التي كانت تدرك تماما مركز قوتها، المعرفة بالطوبغرافيا.

 المظهر الثالث هو الريف الذي استعاد به البطل ذاته، فالطبيب يكتشف وجوده التاريخي من خلال اكتشاف شعب الفلاحين الذين لم تتغير حياتهم منذ آلاف السنين. لقد أدرك التهميش الذي لحق بهذه البقاع، فهو يتساءل في  البداية عن السخرية المرة التي ترافق  شخصا يكتشف أن لا كهرباء ولا طرقات ولا خدمات في  معظم الأرياف بينما العالم في نهاية السبعينات. لقد اكتشف الطبيب الصورة الدرامية للفقر،  فعلى الرغم من  كونهم  يعملون منذ الفجر حتى الليل، في مشهد يتكرر منذ بدء التاريخ، لا يحصلون على شيء، جوعى تقتلهم الامراض، والجهل.  أذ تظهر الحقيقة المرة على لسان الضابط، البرغي القديم في ماكينة السلطة، الشخص العدمي، الشيطان، او يده، يقول للطبيب إنهم اغبياء، يعملون من الفجر الى الليل، بينما اربعة تجار، اربعة اعرفهم جيدا، يشترون المحصول بما يحددونه من سعر، جنيهات قليلة لا تسد حتى جوع البطون. لكن الطبيب حصل على حياة شعرية في القرية، ففي مشهد يتكرر ثلاث مرات في الرواية، يرسم محمد المنسي قنديل على لسان الراوي، مشهدًا شعريًا مليئا بالشجن والحزن،  فيه استدعاء لظلم التاريخ، إذ يقف الطبيب على الشرفة فجرا، تملأ انفه رائحة الحقول وروث الحيوانات، يراقب الفلاحين، الأشباح في طريقهم الى الحقول، الحيوانات منكسة الرؤوس تمشي ببطء، كما لو أن هذا المشهد يتكرر منذ آلاف السنين، ولم يتغير في أي من لقطاته شيء على الاطلاق.

القضية الأخرى تتعلق  بالسيرة:

 سيرة مصر ونيلها، خيباتها وانتصاراتها، استلهم محمد منسي  قنديل في  تقديمها نصين، نص واقعي استله من المدونة التاريخية، إشارات تتعلق  بالحروب، جمال عبد الناصر، السادات، ومبارك الذي كانت احداث الرواية  تدور في أول سنة من حكمه. النص الثاني هو السيرة الهلالية في فصل كامل تقريبا، موظفا تقنيات الميتا سرد في تناص بين مصر، الملحمة وبين سيرة البطل الشعبي أبو زيد الهلالي في ملحمة الجوع و الحكمة، الحب والحرية والبطولة والدم.

مقالات من نفس القسم