بريد الحيوات الأخرى ..

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رسالة وصلت كندا بالبريد الحمد لله ..

.

مساء الخير يا ميوية ..

أعاود الكتابة لك من نفس المكان، بنفس الشمس الغائمة رغم أنها ظهيرة جمعة كان صباحها مشمسًا، خرجت من البيت قرابة الثامنة والنصف، بعدما وضعت طعاما لكانيلا (قطة باولا) لأن باو لم تكن قد استيقظت بعد، فطرت قرب المكتبة العامة في مكان مفتوح يطل على حديقة حي “لافلوريستا”، أطعمت الحمامات من فطوري، ثم جئت إلى المركز التجاري لأرسل هذا الخطاب بالبريد السريع. كنت أقرأ في السيارة التي أقلتني مجموعة آية الجديدة “احتمالات لا نهائية للغياب”، وأفكر في ما يحدث في فلسطين، حتى أستوقفني السائق سائلا عن اللغة التي أقرأها. قلت له: العربية، وبالطبع حاد الكلام إلى ما يحدث في غزة، وأين هي مني، وشجون تعرفينها.

.

قبل أيام كان في نيتي أن أكتب لك عن مشاعري منذ يوليو .. منذ موت جدي لأمي، وكيف أن الموت خيط لا يزال يحاوطني وقعه من وقتها إلى الآن. “التايم لاين” من وقتها لم يتوقف عن ذكر موتى جدد، أفكر في الموت كثيرا، وفيم أود تركه في هذه الدنيا قبل أن أذهب معه، حتى حينما ذهبت يوما للمسجد وجدت الإمام الكولومبي يتحدث عن آداب الغُسل، فأخذت أفكر إن مت ها هنا هل أحب أن أُغَسّل وأُدفن على الشريعة الإسلامية أم كما فعلت باولا مع قطها “بوجو” السنة الماضية حيث استحال رمادا لا يزال في المنزل في صندوق صغير يحمل صورته. كنت أفكر أن ربما إن صرت رمادا منثورا على شجر لكان أطيب للأرض. حكيت لصديقتي الصدوقة هناء (المصرية الألمانية التي هاجرت لألمانيا وتعمل ثيرابيست في برلين)، فقالت لي: إحنا مسلمين، وكأنها قطعت حبل أسئلتي عن الهوية.

بعدها مات صديق كولومبي تعرفت عليه في أحد أنشطة التطوع والاستشفاء التي قمت بها، كنت قد زرته قبل موته بعدة أيام في العناية المركزة، ذكرتني زيارته بأيام مقبضة مع أمي وأخي الأصغر وأقدار غرف شبيهة في مصر (في المبنى القديم لقصر العيني). بعدها بأيام كتبت لي شريكته على واتساب أنه “صعد”، فتذكرت قصيدة دنقل “ليت أسماء تعرف”. بعدها بأيام ذهبت لتوديع جثمانه في مراسمه الرسمية، كانت أول مرة في حياتي أزور مدافن هنا، اسمها Campos de Paz .. لا أعرف أيمكن ترجمتها “حقول السلام” أم هناك ترجمة أفضل. كانت أول مرة أرى جسد/وجه ميت في حياتي، سألني ابنه (كولومبي الأب إسباني الأم) فور دخولي القاعة إن كنت أود رؤيته فقلت نعم دون تفكير، أشاح الصندوق عن وجهه فرأيت وجها آخر، لم أتعرف عليه بالمكياج، ولكني قرأت له الفاتحة وجلست قليلا ثم غادرت بعد أن دعيت مع الحضور وأنا أترجم في رأسي دعاء أعرفه ويرتلونه أمامي في حلقة ذكر :

أبانا الّذي في السّماوات ليتقدّس إسمكَ؛ ليأتِ ملكوتُكَ؛ لتكنْ مشيئتُكَ كما في السّماءِ كذلكَ على الأرض. أعطِنا خبزَنا كفافَ يومِنا. واغفرْ لنا ذنوبَنا وخطايانا، كما نحنُ نغفرُ لمن خطئَ إلينا. ولا تُدخِلنا في التّجارب، لكن نجّنا منَ الشرّير.

.

لن أطيل الرسالة كثيرا، فقد حكيت لك عن الحادث الذي تعرضت له مؤخرا ولازلت في مرحلة ما بعد التروما، أرفقت لك كارت لفتاتين بجانب دراجة بخارية لأن فور رؤيته جا على بالي أبعته لك. صاحبة الصورة التقطتها في إسطنبول (ضمن مشروع صور لسيدات في أماكن يحبونها ويرتاحون فيها)، أفكر الآن في الأفلام التي تتحدث عن الموت، وفي الفيلم الذي ذكرتيه في رسالتك الأخيرة، والأفلام التي أشاهدها مؤخرا، وفي الواقع. أفكر في الألم الذي أشعر به الآن تجاه شعب مُحاصر، وميل وميلودراما الوطن .. في الخوف .. في أجساد تغيب .. وفي عدالة إنسانية تائهة، وأعجز عن المواصلة في الكتابة، لكن للحديث بقية ما دام في العمر بقية …

أسماء

قبل صلاة الجمعة 13/10/2023

28 ربيع الأول 1445 هـ

بعد فاصل خزان الأحزان

..

ذهبت للصلاة في جامع أحبه قبل أن أرسل هذا الخطاب الحزين، ذهبت فوجدتهم قد انتهوا من الصلاة، أغرورقت عيناي وأنا أسألهم إن دعوا لفلسطين؟، احتضنتني سيدتان جميلتان كولومبيتان، أحضان دافئة مطمئنة، فصرت أهدأ، صليت بمفردي وغادرت، أمطرت السماء أيضا فذهبت إلى أقرب مكتبة، وهناك حضرت سيشن دعم نفسي على زووم لطبيب مصري حبيب اسمه أحمد ضبيع، كانت عن “معايشة الألم”، سؤال الألم الذي ذكرتيه في رسالتك، يتأمله وفقا لمنهج التواصل الرحيم (الNVC أو (Non Violent Communication)

وربطه بما يدور في غزة، استمرت الجلسة الجماعية لأكثر من ثلاث ساعات، خرجت بعدها لبراح الجنينة أمام المكتبة لأكمل الرسالة بذكر ما أشعر به هنا والآن:

* أمتن للصداقات والمساحات الآمنة التي نعبر فيها عن غضبنا وعجزنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس.

* أمتن للكتابة والتدوين والرسائل مع من يمكنه سماعنا دون أحكام.

* أمتن لطلب المساعدة مع الانفتاح على رفض/عجز الآخر عن تقديمها.

* أمتن للألم الذي يعلمنا أننا لسنا بخير، أن العالم ليس بخير، وأن ما يحدث بوجوده هو دافعنا للتغيير.

* أمتن لكل الجمال في مقاومة القبح والظلم والحزن.

* أمتن أن لنا بيوت مادية ومعنوية نشعر فيها بالأمان، لبيوت في قلوب الأحبة، تسعنا، ونريد للعالم بيوت مثلها.

* أمتن لتجاربنا معا، ولتقاطع طرقنا في الحياة يا ميوية، وأسفة لأن يمكن الرسالة متلخبطة لأن مشاعري متلخبطة لكن شكرا لأنك قابلاني زي ما واضح لك.

حضن تاني

 

مقالات من نفس القسم