عبد النبي عبّادي
في ذكرى رحيل الكاتب الكبير السيناريست أسامة أنور عكاشة، وأثناء استمتاعي باستعادة إحدى حلقات رائعته “زيزينيا” ومشهد ” عايدة ” مع ” الشيخ عبدالفتاح الضرغامي” مشتاقا لجزءٍ ثالثٍ، تمتدُّ فيه خيوط الزمان والمكان والشخصيّات إلى السّنوات الأقرب والفِتَن الأشرس والحُبّ النادر، أثناء كلّ ذلك، ثارت في ذهني قضيّة مهمّة تتعلّق بجوهر إبداع الراحل الكبير أسامة أنور بشكل عام، في كل ما كتب للدراما والسينما والرواية والقصّة القصيرة، بل حتّى في نقاشاته المُتلفزة وكأنّها شفرة الشخصية الإبداعية لدى أسامة أنور عكاشة؛ لقد بدا لي ملمح الالتحام بالوجدان الوطني والثقافة الأمّ، بكلّ طبقاتها، ملمحا عاما مُشتركا بين أعمال أسامة أنور عُكاشة وروايات وإبداع الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي.
في روسيا لم تؤدّ محاولات الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في القرن التاسع عشر إلى نجاح ملموس، وخشي دوستويفسكي، بل وكان حانقا على محاولات استيراد أفكار من الغرب لها علاقة بالتقدّم والمدنية والشكل العام للعلاقات بين النّاس، كان دوستويفسكي مُتديّنًا على نحو ما، مخلصا للمسيحية للأرثوذوكسيّة، وكان يعلم أن الحُكم المُطلق باسم الدّين أو باسم الرأسمالية أو باسم الاشتراكية الراديكالية سوف يدهس كثيرا من أبناء روسيا في طريقه ممنيا إياهم بالخلاص من الظلم القيصري واللا مساواة. كان تركيز دوستويفسكي على الأفكار السياسية والاجتماعية في مجتمعه لأنه أتى من قلب الطبقة الوسطى (مع لمحة أرستقراطية في والده بالنسب)، فقد كانت تجربة دوسوتويفسكي نابعة من قلب المجتمع الروسي، كما كانت الكتابة لدي دوستويفسكي حرفة يعتاش منها، لذلك كان وصول رسالته أمر حياة أو موت بالنسبة له، كان مريضا بمرض يؤثر على أعصابه، عاش حياة فيها بعض البوهيمية بسبب الفقر وقلة المال، وكان ناشطا سياسيا أحيانا، في منتصف القرن التاسع عشر حُكم عليه بالإعدام، لكن قيصر روسيا وقتها عفا عن تلك المجموعة بعد سجنه في سيبيريا، ثم مرّ بتجارب دينية يكتشف فيها نفسه من جديد.
يمكن مقارنة أسامة أنور عُكاشة بدوستويفسكي الروسي وأيضا ديكنز الإنجليزي من حيث تمثّلهم التام لتجارب مُجتمعاتهم، لقد اشتغل عُكاشة على ناظمٍ أساسي في مُجمل أعماله، وهو طبيعة الوجدان الوطني المصري القويم، الذي باكتشافه حق الاكتشاف وبالإخلاص له حق الإخلاص، لن نحتاج إلى استيراد حداثة مُعلّبة أو ثقافات مقولبة، هي على مقاس أصحابها، لكنّها أوسع منّا أو أضيق، وبالتالي لا تُناسبنا، نحتاج أن نقيّفها ونكيّفها وفق طبيعتنا وتاريخنا وثقافتنا.
كالحداثة وغيرها سببت لدى دوستويفسكي حساسية (لكن الروس تفرنجوا من بدايات القرن الثامن عشر تقريبا، فقد سبقونا إلى ذلك)، وكذلك كان أسامة أنور عكاشة.
من الصعوبة أن تُقارن دوستويفسكي بشخص ما لأن تركيزه على التشخيص، أكثر من الحبكة هو الأساس في أعماله، لكنّ أسامة أنور عُكاشة جديرٌ بهذه المُقارنة، دوستويفسكي يُبحر مع شخصيات في روايات بمئات الصفحات من خلال حبكات درامية بسيطة وغير مُعقّدة، لكن مقدرته على استبطان الشخصية هي النموذج الذي يلفت النظر.. وكذلك فعل أسامة أنور عُكاشة مع أبي العلا البشري “مجدي البشري” وأبي العلا 90 وبشر عامر عبد الظّاهر وحسن أرابيسك “حسن النعماني” وزهرة غانم، كلّ هذه شخصيّات مركبة من أعماله الدرامية، كشفت هذه الشخصيّات بحثا لا يهدأ في الهويّة الثقافية المصريّة ومأزقها أمام هويّات تمتلك القوة والسطوة، في زمن كبّل فيه مصر الاستعمار مرّة، والفقر مرّات، وسوء الإدارة مرّات.
كان دوستويفسكي يرى أن هناك لا مساواة خلقها النظام القيصري الروسي ولم يستطع أن يحسن الفروقات الاجتماعية والاقتصادية الرهيبة، ورأى أن الارتهان للثقافة الأوروبية لن يحل المُشكلة، فبدأ بـ “الخوف” مما يحدث في أوروبا، خشية أن ينتقل لروسيا، في منتصف القرن التاسع عشر وقعت ثورات 1848، ولم لم تكن ثورات سياسية بحتة، ولكنها كانت ثورات ربّما فكرية لمحاربة اللا مساواة المستمرّة من العصور الوسطى، فظهرت أفكار عن العدالة الاجتماعية، قادها مجموعات من الطبقة الوسطى كطلاب الجامعات أو من طبقات ثريّة. كان يرى دوستويفسكي أن المجتمعات الأوروبية تركت الدين واتجهت نحو إما (راديكالية اشتراكية) أو (رسأيمالية) كما قُلنا وكلاهما سيؤدّي إلى عنف لأنّها ستبحث عن سلطة مُطلقة لا سيما إذا دخلت إلى مجتمع يبدو فيه الدين مهما جدا كما في روسيا.
لقد خشي “دوستويفسكي” كما خشي “عكاشة” في “الراية البيضاء” من سيادة فكرة المنفعة، أو اليوتيليتاريانيزم، وبالتالي كان عليهما أن يعودا لوجدان الوطن الأم، وخلق وجدان جمعي لا ينفصم عن عروة الثقافة المركزيّة، فجاءت أبطال أعمالهما متمثلة في “الباحث عن الطمأنينة” أو “الباحث عن المعرفة” كما في التصوّف مثلا، حيثُ لا يهدأ المريد لأنّه في حالٍ تحول بين السؤال والجواب، والجواب الذي يُشكّل سؤالا لجواب آخر.. إلى ما لا نهاية!
لقد عُرف كليهما بالتركيز على المسائل الإنسانية الأخلاقية ومحاولة معرفة موقع الإنسان من هويّته وتاريخه وثقافته من ناحية، وموقعه من الكون من ناحية أُخرى، عكاشة دوستويفسكي مُغرمان ومُجيدان لكشف وتصوير الصراع الداخلي للإنسان، وكيف يؤثر على تصرفاته و قراراته وعلاقاته بالذات وبالآخر.
في روايات مثل “الجريمة والعقاب” و”الإخوة كارمازوف” يركز دوستويفسكي على الصراع الداخلي بين الخير والشر، والمسؤولية الأخلاقية، وكيف تؤثر هذه الصراعات على حياة الإنسان، أما عُكاشة في “أنا وأنت وبابا في المشمش” و”الراية البيضا” و “ليالي الحلمية” و “المصراوية” يركز على الخير والشر في العلاقات الإنسانية، والصراع بين الأفراد، والإخفاقات الإنسانية، وكيف تؤثر هذه الصراعات على حياة الأفراد.
في تصوّري، أخلص دوستويفسكي وأخلص عُكاشة لفكرة أن الفن والجمال والخير يُمكن أن يهزموا القُبح والفوضى والشرّ شريطة فهمهم والإخلاص لهم، يقول الشيخ عبدالفتاح “أحمد بدير” لبشر عامر “يحيى الفخراني” في حوار بديع من مسلسل زيزينيا عن “الحقيقة” و “الخديعة”، وهو ما يذكّرنا بحوارات دوستويفسكي، يقول عُكاشة على لسان الشيخ عبدالفتاح:
الناس بيشوفوا اللي بيتخيلوه، ألحّيت على الحاوي يفتشلي سره، الحاوي ضحك وقالي: مفيش أسرار، الحكاية كلّها خفّة يد وغش نظر، وأكتر حاجة تساعد الحاوي وتخلي لعبته تخيل، إن الناس تبقى بايعاله عقولها مقدّما ومصدقينه، مش عايزينه يفشل ولا يخيب، علشان ميبقوش هما اللي فاشلين!”
أما دوستويفسكي، فيكفي أن تقرأ المحاورة المطوّلة من الإخوة كارمازوف والممسماه The legend of the grand inquisitor والتي هي قصّة داخل الرواية تكشف التديّن الزائف من الحقيقي وتُجلّي مفاهيم مختلفة عن الذنب وعن التوبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر وناقد مصري