شيماء بدير
كانت جدتي تقول في حكاياتها القديمة: “النفس للنفس تُباركها، النفس للنفس تَسيئها”، وكانت تسترسل بعد ذلك في الحكي، مرة عن جدتها، وتتنهد في حسرة وأنين، ومرة تحكي عن القناة بجوار الحقل، فقد كانت مهووسة بالريف والحقل رغم أنها لم تعش هناك أبداً.
لكنها أحبت ذات يوم رجلا وتركها ليعود إلى أرض أبيه، فالمدينة ليست حياته. وفي مرة تحكي لي عن أمي منذ أن عرفت أنها حبلى بي، وهي تراها بهيئتها التي عليها هذه.
جدتي حكاءة ماهرة تخدعك ببراعة دون أن تشعر بأنها تحكي أو تستشعر كذبة ما تشوب حكيها!
سافرتُ بعيداً منذ فترة طويلة، وذات ليلة حيث مكان إقامتي في دولة أوروبية، سمعت صوتاً يقول “النفس للنفس تباركها، النفس للنفس تسيئها”.
فزعتُ لأن الصوت ظل يكرر هذه الكلمات -حتى استيقظت- بصوت عالٍ تارة، وتارة أخرى بصوت أكثر جهرًا يخرج كأنه من أعماق بئر سحيقة. اسيتقظت من نومي، ولم أسمع أو أرَ شيئا وظننت أنه كابوس مزعج، أو أنني مشتاق لجدتي!
كنت أعلم أن الوقت متأخر، ولكن لابد أن أتصل بهم لأطمئن عليها، سحبت الهاتف وسجلت أرقام البيت واحد تلو الآخر، ولكن أثناء ما كنت أفعل ذلك، عاد الصوت هامساً لي في أذني مكررا نفس الكلمات، فحتى لا أهلع أو أسقط خائفاً، تحدثت بصوت مرتفع كأنهم أجابوا الهاتف اللعين.
نعم أمي.
كيف حالك؟
أنا بخير، آسف لأني أيقظتك ولكن أين جدتي؟
نائمة، حسناً. حين تستيقظ أخبريها بأني اتصلت لأطمئن عليها وأني اشتقت إلى حكاياتها.
ووضعت سماعة الهاتف، متظاهراً بأن المكالمة قد تمت!
أضأت المصباح جوار سريري، ووقفت لأذهب إلى دورة المياه، وتناولت كوباً من الماء. أعرف أنه كابوس مزعج سخيف يفتعله عقلي!
تجرعت الماء دفعة واحدة، وعدتُ إلى نومي مرة أخرى.
في الصباح التالي، استيقظت على صوت الهاتف مرتفع للغاية، أجبت، كانت أمي!
نعم، يا أمي، ماذا اتصلت بك ليلاً!
هل أجبتِ على الهاتف؟
ماذا؟ نعم أجبتِ.
لم أكن أهذي لا.
فقط كنت اطمئن عليكم وعلى جدتي. كيف حالها؟
بخير ولكن ماذا؟! أي مشفى لعين؟!
منذ مدة ولماذا لم تخبريني؟
حسناً سأعود في أقرب وقت!
جلستُ على حافة سريري، ورأيت على الأرض طيفا، فزعتُ قليلاً ولم أفهم ما كل هذا الذي أراه منذ أمس.
في منتصف النهار، تحدثت إليّ أمي وأخبرتني بأن جدتي قد توفيت!
سقطت باكياً لأنها ماتت وأنا لم أرها وشعرتُ بأن كل ما يحدث منذ ليلة أمس كان بسبب أنها تريد أن تراني. حاولتُ جاهداً أن أعود ولكن العمل والحياة هنا كانت ثقيلة وشديدة البرودة، ولم أستطع العودة بسرعة كما كنتُ أريد.
عدت إلى البيت بعد وفاتها بشهرين، كانت كل الأمور هادئة، دخلتُ حجرة جدتي لأول مرة ولم تكن موجودة فيها، لكن رائحتها، ملابسها كل شيء لازال يُشعرني بالحنين إليها!
قضيتُ مع عائلتي أسبوعًا وعدت مجددًا إلى عملي.
مر شهر بشكل عادي، حتى استيقظت ذات ليلة، على صوت يكرر “النفس للنفس تباركها، النفس للنفس تسيئها”، بصوت هامس ثم علا، ثم صوت يشبه الهدهدة، ثم يرتفع بشكل جهوري وله صدى. الأمر بات يؤرقني. تكراره يؤلمني. المرة الأولى قد ماتت جدتي من سيموت الآن؟!
سمعت صوتاً يرد لا أحد.
فزعتُ. هلعتُ. صرختُ. وهرولت إلى الخارج.
كانت لي جارة تعيش مع ابنها، أم وحيدة تعمل في متجر بجوار البيت. كانت عائدة من عملها أثناء هرولتي إلى الخارج، ارتطمت بها، وأخبرتها بإنجليزية ضائعة في أعماق اللهاث، بأنني بخير.
عرضت عليّ أن أدخل إلى شقتها لأشرب بعض الماء، وقالت يبدو أنك عانيت من كابوس مزعج.
دخلتُ إلى شقتها، كانت مؤثثة بشكل هاديء وبسيط. لمحت ركناً للصلاة، صورة أيقونية كبرى للمسيح، وبعض الشموع متراصة فوق خوان بني اللون، وصور كثيرة لرجل، أظنه زوجها.
عادت إلى حجرة الاستقبال ومعها كوب من الماء، وبعض الأطعمة. قالت أنها لم تأكل منذ أن أكلت مع ابنها في الصباح الباكر والآن هو نائم وقد تناول الطعام وحده. وعرضت عليّ أن أشاركها الطعام.
تناولنا الطعام سوياً و مر بيننا حديث طويل عن زوجها وعن ما عانته حتى تعود إلى حياتها بعد وفاته، أخبرتها بأني أيضاً تعرضت لفقدان شخص عزيز منذ مدة قريبة!
كان يبدو على ملامحها التوتر والضيق، فاستئذنت أن أعود إلى شقتي. أجهشت بالبكاء بشكل غريب، حتى أخبرتني أنها تسمع أصواتاً تصدر من شقتي وأنها بعد موت زوجها كانت تعاني أيضاً من أصوات مماثلة وأن تلك الأصوات ذكرتها بكل ما عانته مجدداً.
اندهشتُ كثيراً لذلك وشعرتُ بأن الأمر بات مربكاً ولابد أن أفهم!
عدتُ إلى شقتي، كررت الجمل مجدداً أنا بصوت عالٍ
“النفس للنفس تباركها، النفس للنفس تسيئها”
“النفس للنفس تباركها، النفس للنفس تسيئها”
“النفس للنفس تباركها، النفس للنفس تسيئها”
شعرتُ بأني مختل أو كاد عقلي يصل إلى الجنون.
هدأت فجأة تماماً وأعتقد أني غفوت أو فقدت الوعي!
في صباح اليوم التالي، ذهبتُ إلى عملي. مر اليوم عادياً، حتى سمعت إحدى زميلاتي تقول أن لها جدة تقوم بتحضير الأرواح و يمكنها سماع الموتى!
اقتربتُ منها وطلبتُ أن أتعرف إلى جدتها. لم تعِرني أي انتباه وشعرتُ بأني مغفل لأني بدوت كمن يتجسس عليها!
عدتُ إلى شقتي، لمحتُ طيفاً يمر أمامي. الأمر كان مختلفاً تلك المرة!.
كررتُ الكلمات “النفس للنفس تباركها، النفس للنفس تسيئها”، فرد صوت “فلتباركها” وبعدها همهم بكلمات غير مفهومة. جلستُ على حافة السرير في غرفة النوم، شعرتُ بأن جدتي جواري. همست في أذني بأنها هنا، لا تعرف كيف أتت ولكن يبدو أني أحضرتها!
كان الأمر غريباً ومثيراً للجنون. شعرتُ بها تأخذني لتسندَ رأسي فوق صدرها كما كانت تفعل حين كنتُ صغيراً. هدهدتني حتى غفوت!
استيقظتُ في اليوم التالي شبه مجنون، صرخت عالياً “جدتي” ولكنني لم أرَ شيئا
كررتُ الكلمات بصوت مرتفع “النفس للنفس تباركها، النفس للنفس تسيئها”، ولكن لا شيء.
هل حضّرتُ روحها دون أن أشعر. دون أن أعلم. هل تنبّهت صدفة إلى قوة خارقة داخل صدري، لا أعرف.
ومرت أيام كثيرة. وقصيت ودنوت من حياتي وجدتي والذكريات. ونسيتُ تماماً تلك الأيام.
ولكن فجأة سمعت ابنتي تقول “النفس للنفس تباركها، النفس للنفس تسيئها”. ناديتُ عليها وسألتها من قال لكِ هذه الجملة
فردت: ” جدتي”
قلتُ: من ؟!
أشارت إلى الحائط وقالت : هذه التي في الصورة.
ولم تكن هناك أي صورة!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصة ومترجمة مصرية