خزانة المائة نفس

أحمد القرملاوي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 أحمد القرملاوي

مكث يبحث ليومين كاملين، في الأدراج، في الجيوب، قلَبَ جميع البناطيل وأخرج أحشاء السُّترات، كسَّر عدة بلاطات في أرضية الحمام، بدَت له في غمرة اليأس مُتقلقِلة، حتى خارت قواه وارتمى فوقها.. خلع ملابسه وأخذ يُجفِّف عرقه، فيتفصَّد المزيد.

"أين المفتاح؟!"

كلما استجمع تركيزه أذابه العرق المملح، منذ يومين يُفتِّش عن المفتاح، والباب الـمُصفَّح لا يقبل التفاوض. منذ يومين لم يعبر لداخل الخزانة، لم يُطعِم الـمُعلَّقين بالداخل وجبةً جافَّة يدسُّها في أفواههم. تخيَّل منظرهم وهم يتدلّون من شماعات الدواليب، وشعر بالأسى، ليس لتعاطفه معهم، بل لشعوره بالمسؤولية تجاه إطعامهم وتبديلهم كما يفعل كل يوم؛ يُنزِل الـمُعلَّقين فوق الشماعات، يطويهم فوق الأرفف، ويُعلِّق مكانهم الباقين الذين أمضوا يومًا مطويّين أسفل الخزانات.

نام مُكدَّرًا أول أمس، لرغبته في قضاء الليلة بصحبة سلمى. كان قد توقف أمام الباب الـمُصفَّح، حائرًا، لا يذكر أين وضع المفتاح، وحين غلبه النعاس أقعى على الأرض، ونام مُسنِدًا ظهره لصفحة الباب الباردة. حين أفاق كان الألم يرتع في ظهره، تحمَّم بعُجالة وشرع يبحث طوال اليوم، في كل موضع خطر لذهنه، حتى انهار من فرط التعب. أعاد الكرَّة في اليوم التالي، بيأس أكبر وعصبية أشد، سيموتون بالداخل لو تأخر أكثر، سيموت عليوة إخصائي المساج، ستموت رشيدة المستشارة المالية، ألفت مُقلِّمة الأظافر، سيد خبير المزاج، ومروة، صاحبة الرقم القياسي في تحمُّل لطماته وعصبيته، وسلمى، وسادته الملساء وأحبهم إلى قلبه. تسع وتسعون نفسًا مُعلَّقة ومطوية في خزاناته الكبيرة، كان يُخطِّط لإتمامهم مائة نفس، ولم يجد بعد من يستحق الانضمام لِباقته المنتقاة.

انهار مجدَّدًا وأمضى ليلة أخرى مقعيًا أمام الباب، في برزخ غائم بين النوم واليقظة، وعلى دقات بائع الأنابيب أفاق، مُستعيدًا حقيقته، مُدرِكًا مدى يأسه ودُكنَة نفسه، قام لكي يتحمَّم، بتثاقل وبطء هذه المرة، ترك الماء الساخن ينساب فوق رأسه، ثم سكب الشامبو ذا النكهة الاستوائية وتركه ينداح فوق جسمه، أعاد قارورة الشامبو لموضعها فوق الرف، فتقلقلت وسقطت على جانبها، تحسس السطح المعدني فأمسك بشيء يابس ومُراوِغ، إنه المفتاح..

خرج يتخبَّط في ارتباكه وعُريه، راسمًا برشاش الماء طريق الخزانة، أولج المفتاح بأصابع مرتعشة، اخترقت أنفَه رائحةُ العطن، أغلق الباب من خلفه مُختليًا بمصيبته، مضى يفتح الدواليب تباعًا فتتكاثف الرائحة، ويجثم التوتر، حرَّك الأبدان الـمُعلَّقة، وتلك المطوية، تبدّى خواءُ الموت تحت كل جثة، لا نبض، لا حياة، أعضاء متهدِّلة تفوح بالعدم، ثمة درفة وحيدة هناك، تفتح من تلقاء نفسها، تقدَّم فوق ساقين مُرتعِدتين، جذب الدرفة عن آخرها، فانطرح الشيخ بجذعه خارج الخزانة.

مضى الشيخ بيومي يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويرمق بنظرة مُعاتِبة ذاك الماثل مُبتلًّا ومخذولًا أمامه.. لا حاجة لنُصحك فضيلة الشيخ، ما نفعني أبدًا من قبل، ولن ينفعني اليوم. ضم بإصبعيه مفتاح الخزانة، وجثم فوق جثة الشيخ، جذب لحيته فاتحًا فاه، وألقمه المفتاح.. دسَّه في حلْقِه لأبعد ما استطاع، وحشى فمه بلحيته الشعثاء، وحين تأكَّد من اختناقه أقعى مكانه بداخل الخزانة، وأسبل جفنيه.

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون