سما زيادة
قد يتعجب البعض في البدء، ومنذ أول علاقة مباشرة مع الرواية من اختيار الأسم لكتاب علمي وفلسفي شهير وهو كتاب “أصل الأنواع” لداروين، ولكن المتابع لأعمال الروائي والمترجم أحمد عبد اللطيف جيداً، سيعرف أن العنوان عنده شئ أصيل من الرواية، وأنه صاحب العناوين ذات الأبعاد الآخرى.
تطور أنساني معكوس
الرواية في إطارها العام تصور لنا تطورًا معكوسًا سواء للإنسان أو المدينة، وكأن عوامل وعناصر التطور ترتبط ببعضها البعض، فانهيار المدينة وملامحها يؤثر على تطور الإنسان، فكما تفقد المدينة ملامحها الأصيلة التي تُعرف بها، يفقد الأنسان بداخلها أيضاً ملامحه وأطرافه التي تساعده على التكيف داخلها، ويحدث ذلك عبر فقد جسدي رمزي يصيب شخصيات متعددة بدءاً بثلاث شخصيات هم رام ويحيى وبتشان، ويطيح بمعالم المدينة نفسها. مما يجعل الحدود بين الحياة والموت وأدمية المدينة تتقاطع .
تعيد الرواية تشكيل العلاقة بين الجسد والمكان ؛ فالفقد الجسدي يتحوّل إلى رمزاً لتحول المدينة.
لعلنا نتسائل لماذا هذا التطور المعكوس قد أصاب العامة ولم يصب ذوي القوة؟ وهنا نرجع من جديد لكتاب أصل الأنواع لداروين، لنجد أن انقراض النوع، يكون للكائنات التي لم تستطع التكيف، ولم يكن عندها من القدرات ما يجعلها قادرة على الصمود للعوامل المتغيرة وللظاهر التي تواجهها، ومن يصمد هو من يستمر في العهد الجديد.
ولذلك كان تطور ذوي النفوذ تطوراً للأقوى، وأصاب الفقد والاضمحلال الأطراف والشعر لقاطني المدينة ممن لن يستطيع التكيف سواء مع هدم المقابر كرام أو عبوديته للسيد كبتشان أو تحقيق حلم الأم كيحيى
الجسد والمدينة
أصَّل الكاتب لعلاقة ترابطية بين جسد الإنسان والمدينة، ففقد الشخصيات لأطرافهم، هو تجسيد حي لتشوهات المدينة من هدم المقابر كرمز للتاريخ، والتحولات الأخلاقية. لتجسيد معنى كبير، وهو أن غياب الهوية والأخلاق والتاريخ لا يقل فظاعة عن اختفاء الأطراف والاعضاء التناسلية للإنسان، وكانه يفقد ليس ماضيه وحاضره فقط بل ومستقبله أيضاً.
الشخصيات كمجتمع متكامل
قدمت لنا الرواية نماذج لشخصيات تعتبر كلاً منها رمزاً لتحولات او تشوهات مجتمعية :
*فرام المعماري وفقدانه للشعر والأطراف، كان رمزاً للتشوه الحضاري والمعماري، من الهدم والتدمير ، وتزامن استسلامه للهدم مع سقوط شعره، وكأن الإذعان للتشويه هنا هو تشويه للإنسان ذاته.
*بتشان هو رمزاً لتشويه مجتمعي آخر، هو استعارة لاستغلال الطبقات الدنيا من قبل السلطة، وتدهور العمل اليدوي وتهميش وجودهم بالمجتمع.
*يحيى الحافي، وهو رمز للهويات المشوهة والتريندات والسعي للنجومية والشهرة في المجتمع على حساب الانتاج.
أسبوع الآلام في حياة المدينة
لعل أجمل ما يميز النص، هو افتتاحيات الفصول وترقيمها الخارج عن المألوف، من التقسيم العام ” بأسبوع الآلام” لترقيم الفصول بالأبجدية، فكأن المدينة هنا وشخصياتها ” وخاصة رام” قد اختبرا من جديد اسبوع الآلام السيد المسيح، وكأن لكل عصر مسيحه ومريمه، من يفدي نفسه لقيامة المدينة. هذا التصور كان من أجمل مشاهد الرواية.
كما انه ربط الزمن باللغة، وكأن هذا الأسبوع هو صرخة او استغاثة لإعادة اكتشاف الهوية والزمن، أو محاولة أخيرة للانتباه قبل أن نفقد حتى هويتنا ” الممثلة باللغة”، وليس أدل على هذا، من ان المرحلة الأخيرة في هذا التطور المعكوس، هو فقدان القدرة على إيجاد الكلمات.
السرد كأداة استغاثة
تمكن الكاتب من أن يجعل السرد نفسه أداة استغاثة واستنفار عام، من اختياره لتيار الوعي داخل شخصيات الرواية كسيل أفكار لا ينتهي، ولكن براوٍ عليم في دقة متناهية وتمكن مبهر، وكأنه جعل المدينة نفسها هي المطلعة على وعي الشخصيات، وتسمح لها بهذا السيل الفكري.
وبجانب أيضاً غياب علامات الترقيم، أو أي فواصل- فتدفق الوعي لا يحتاج أي فواصل- استطاع الكاتب أن يستفزتا وكأنه أراد أن نشارك شخصياته في الارتباك والتشتت، بل ويجعلنا أيضاً في أقصى درجات التركيز.
وهكذا قدّم أحمد عبد اللطيف نصًا جريئًا وصادمًا، عمله في أصل الأنواع، تجربة سردية قوية تحفر في صلب العلاقة بين الجسد والمدينة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية، الرواية صادرة عن منشورات حياة 2025