بالمنطق الإبداعيّ، لا حدود للخيال، وعلى الرغم من ذلك يندُر أن تجد في الأدب العربيّ رواية بطلها جماد! لكن هذا ما حققته رواية “معبد أنامل الحرير” لإبراهيم فرغلي، الصادرة عن داريّ منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف عام 2015، والحائزة على جائزة ساويرس للرواية فرع كبار الأدباء عام 2016.
بطل الرواية مخطوطة لرواية غير مكتملة. هنا المخطوطة ليست فقط البطل، لكنها الراوي أيضًا. ولا يقف طموح الروائي عند هذا فقط، بل يتعداه لتصبح المخطوطة فاعلًا بعد أن كانت مفعولًا بها، كاتبة بعد أن كانت مكتوبة، حرة بعد أن ظلت حبيسة، إما في درج من الأدراج، أو قارب، أو قمرة في سفينة في عرض البحر. فهي تؤمن بنفسها عميقًا، على الرغم من أنها ظلت تعاني شعورًا غامرًا بالنقص بسبب عدم إكتمال أحداثها بفعل الإختفاء المُلغَّز لكاتبها: “كان المفترض أن أكون اليوم كتابًا منسوخًا في آلاف النسخ، يتكاثر قرائي، يعرفوني، وأعرفهم، ومن خلالي تصل أفكار مختلقي، “رشيد الجوهري”، الذي أصبح إختفاؤه لغزًا لا يبدو لي أنني سأتمكن من حل غموضه لو استمر سير الأمور على النحو الذي تسير عليه”. لكن هذه الثقة في قوة ما يحمله متنها، هو ما سيجعلها في النهاية تظهر على السطح، لتصبح رواية مكتملة ومنشورة بالفعل.
إذًا المخطوطة هنا كائن حي، يشعر، ويحكي، ويقلق، ويتوجس، يشعر بالضياع، وبالإثارة أحيانًا، بل ويعلو بسقف حلمه كأي إنسان – طبقًا للتدرج الهرمي للإحتياجات لـ”ماسلو” – أشبع كل غرائزه من مأكل ومشرب وجنس وأمان .. الخ، حتى انتهى به الأمر لإحتياجه لتحقيق الذات. هذا بُعد. لكن البُعد الآخر، إذا نحينا الجانب التخييلي، هو أن “رشيد الجوهري” قد أكمل كتابتها بالفعل، وأظهرها للنور، أي أن حضور الكاتب الفعلي للمخطوطة كان مستمرًا منذ البداية وحتى النهاية.
تحكي لنا المخطوطة (ككائن أنثويّ طبقًا لاسمها) عن مشاهد وأحداث عدة من الحياة الشخصية لمُبدِعها “رشيد الجوهري”، ثم في لحظات الخوف أو الإرتياب، تنتقل بنا هاربة إلى داخلها، فنقرأ معها ما كتبه في متنها، ثم نعيش معها مغامراتها الشخصية وهي تنتقل من حوزة رشيد الجوهري، لصديقة قاسم، وأخيرًا لشخص لا نعرف اسمه يجدها في مغامرة أقرب للخيال، وهو الذي سعى لنشرها خوفًا من لعنة قد تصيبه إن لم يفعل.
إذًا نحن نتعرض أثناء القراءة لثلاث روايات متداخلين، بحيث تصبح محاولة الفصل بين الخيال والواقع مهمة صعبة في ظل هذا التشابك.
الرواية تدور في إطار بوليسي، وإن كنا ننأى بها عن هذا التصنيف نظرًا لأن أحداثها سواء المخطوطة في حد ذاتها، والتي تدور وقائعها في مكان تاريخي تحت الأرض، أو سواء فيما يحدث من أحداث تتعرض لها المخطوطة في الحكاية الأصلية لا يندرج بشكل كامل تحت هذا الإطار.
من فكرة وأحداث المخطوطة، ومن سرد المخطوطة ذاتها لحياة كاتبها، نكتشف أن البطل “كيان” ما هو سوى “رشيد الجوهري”؛ فالمتاهة التي مر بها في بيت الفنون في المانيا يستعيدها الكاتب مع بطله في المخطوطة بأشكال عدة: في مدينة الأنفاق ومدينة المخطوطات والمعبد (فكرة المتاهة تكررت في رواية سابقة للروائى بعنوان “كهف الفراشات”). العلاقة العاطفية التي توترت فجأة في مرحلتها المتأخرة وبعد علاقة حب متميزة بين رشيد الجوهري وفتاته الألمانية يوديت هي نفسها العلاقة بين كيان وسديم.
هناك ملامح عدة شكَّلت وعي الروائي وأثَّرت فيه بشكل كبير، تظهر في دوائر تكرارية بطول الرواية:
1- رحلته إلى المانيا، فنجد تواجد ألمانيا القوى داخل الرواية، بمدنها وشعبها وطبيعتهم وما عانوه من ويلات الحرب العالمية الثانية.
2- رواية دون كيشوت لـ ثيربانتس، بإثارتها على لسان كيان بطل المخطوطة في أكثر من موضع، مثيرًا ومُكَرِرًا لوجهة نظر محددة في بطلها.
3- الحضارة المصرية القديمة، نرى ذلك في إختياره للمعبد كمكان يحوى النساخين وإعتبار عملية النسخ عملية مقدسة، وإختياره أيضًا كعنوان أساسي للرواية، كما أن المنطقة التحتية بأكملها ما هي سوى مدينة أثرية مطموسة لم يتم إكتشافها.
إختيار الاسماء له دلالاته الواضحة، فـ “كيان” سمي كذلك لأنه شخص ظل يبحث عن كيانه في محاولة للتعرف عليه، أي على نفسه، فهو أولًا متكتم في فرقة المتكتمين يصادر الكتب ويمنعها، وفجأة يكتشف حقارة ما يقوم به، متسائلًا عن هوية من وَكَّله بذلك، ومن يكون هو في نهاية الأمر حتى يعطي لنفسه تلك السلطة؟! فيرتد عكسيًّا حتى يصبح ضمن النخبة التي تحاول الثورة على المتكتم، و”سديم” هي الفتاة التي أحبها في تلك المدينة التحتية، ومعنى الاسم بقعة ضوء ناتجة عن تجمُع لنجوم بعيدة، أو غازات مضيئة شديدة الحرارة، وبالفعل كانت سديم هي النور، الشعلة الحرارية التي أيقظت روحه وجسده وجعلته يتعرف في النهاية على نفسه.
الأسماء في المخطوطة كلها مجازية، فبالإضافة لـ “سديم” و”كيان”، هناك “نيرد”، “إيد الحرير”، “نقار الزجاج”، “الكاتب الشبح”، وربما لا يشذ عن هذه القاعدة سوى “ناصر” و”منتصر”، ولا يخفى على أحد إختيار الروائي لهذين الاسمين، وهما فعل و صفة الإنتصار وكأنها بشرى بالنصر المحتَّم لنور المعرفة على قوى الظلام.
بما أن المخطوطة تدور كلها في أجواء المثقفين وحضرة الكتب، نجد ذكر لكثير من الأعمال الأدبية مثل: الأشجار وإغتيال مرزوق لعبد الرحمن منيف، الخبز الحافي لمحمد شكري، عاشق الليدي تشاترلي لدى إتش لورانس، الإنسان والمقدس لروجيه كايوا.
هناك قواسم مشتركة بين هذه الرواية وسابقتها التي حملت عنوان “أبناء الجبلاوي”: ماهية الكاتب – بنية الرواية المركبة – الحدوتة الأصلية هي سيرة رواية – الاسماء المجازية – القالب الفانتازي الذي يلامس الواقعية السحرية – البحث الشائك في العلاقة بين الرجل والمرأة – النقد الصارخ للمجتمعات المتخلفة والتي شارفت على الإنهيار.
نحن أمام رواية تحريضية، تدعو للثورة على السلطة الرجعية الحاكمة. لكنها وقعت في فخ الإسهاب والتكرارية.
أحداث المخطوطة التي تسرد وقائع نخبة مثقفة قررت أن تقف في وجه كبير الظلاميين (المتكتم) الذي يحكم مدينتهم، يحرق الكتب ويسجن الكُتَّاب، فأقاموا مدينة موازية تحت الأرض ينسخون فيها الكتب الممنوعة، وأخيرًا يقررون الصعود للمدينة المحكومة بالخوف ليثوروا بطريقة صادمة للوعي، تجعلنا نخلُصُ إلى أن الأحداث المرتبطة بأولئك الناس الذين يحسبون أنفسهم قيِّمون على الأخلاق والثوابت، فيمنحون لأنفسهم حق التفتيش في العقول والضمائر ليس ببعيد أبدًا عما نعيشه اليوم من نفس الوقائع التي تحكم على صاحب الرأي بالسجن، وتغض الطرف عن المجرم الحقيقي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدرت الرواية عن منشورات ضفاف عام 2015، ووصلت للقائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية 2016





