الرجل الذي أكل الساعة .. عالم غرائبي وسيريالي

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
تنقلك الكاتبة بين عالم العقل الواعي وعالم اللاوعي بسهولة

سارة القصبي 

تعتمد غادة كمال على طريقة سردية في قصصها غير اعتيادية وبناء قصة غير قابل للإمساك به.

تُقرأ هذه المجموعة كقصص منفصلة بفصولها المختلفة، وتُقرأ كنوفيلا قصيرة لكل فصل، أو يمكنك جمع الرموز التي ألقتها الكاتبة ببراعة شديدة.

اعتمدت على تحدي الزمن كما البطل الذي رفض عقله وجسده الوحدة الزمنية وثار ضد الوقت، لا يعلم من الزمن سوى اللحظة. لديه حسابات خاصة مع الوقت يتجاهله تماما. تعويضا عن الزمن أصبح يهتم بالوحدة المكانية والمساحة وتقدير القياس والطول والعرض.

الرموز والخيال:

حرصت أيضا غادة على العلاقة النصية السريالية الساحرة بين القارئ والرمز؛ تترك لك الرمز في كل سطر دون أي شعور منك بأنها تتلاعب.

تعتمد على mind games، وهي طريقة تنم عن خيالها الخصب المفرط شديد التداخل والتفاصيل.

في كل فصل تجد نفسك في عالم سيريالي كبير، وشخصيات تم اختيار أسمائها بعناية ورمزية خاصة.

بين الخيال والواقع:

تنقلك الكاتبة بين عالم العقل الواعي وعالم اللاوعي بسهولة.

تجد أحيانا المتحدث هو البطلة التي تعاني من الفقد وصعوبة النوم والتحاقها بمدينة الميلاتونين بعد غياب حبيبتها وموتها.

لنستيقظ نحن القراء على أن البطلة والمدينة والعالم كله من محض خيال كاتب يسعى لكتابة قصة تساعده على تناول العشاء هو وقطه.

وبينما نتعاطف مع الكاتب الذي استطاع شراء الطعام له هو وقطه.

  يموت القط من تخمة  تناول الطعام المعلب الذي اشتراه له صاحبه.  ثم سرعان ما ننسحب للواقع الصادم: أن الكاتب يتخيل قصة خارج إطار قصته، وأنه طُرد هو وقطه خارج المبنى، وزُجّ بهما مالك السكن، وباتا في الشوارع مقتاتين على طعام المشردين، وقطه تناول وجبة فئران من مستودع قمامة!!.

وتظل غادة هكذا تنقض علينا بالخيال والعالم المكون من عناصر الأحلام، ثم فجأة نعود للواقع بقسوته.

في ذاكرة اليوسفي:

وهو الفصل المفضل لي بالأخص، تقدم مجموعة من الأبطال الحقيقية بتفاصيل شيقة للغاية. لديها قدرة غير عادية على رسم تفاصيل الشخصيات بشكل بهي وشديد الاقتراب من الصور الحقيقية، وأيضا دمجها بعالمها السحري السريالي.

تخلت قليلا في هذا الفصل عن السحرية الخاصة بها، ولكن جعلتها أساطير مخفية ومحكية على لسان الأبطال؛ مثل أسطورة فهيمة التي تأكل قلوب الأشخاص السيئة أصحاب القلوب العطنة.

وتنتهي القصة بتحول مجنون في مصائر الأبطال أو توارث المصير نفسه، مع القليل من تراكب الرموز الخاصة أيضا.

المأساة الأوديبية:

تجتمع كل التفاصيل التي ألقتها الكاتبة: بقعة الدم الحمراء، القطة، فطيرة السكر، طاولة المطبخ، والقدم المفقودة أو الأعرج.

تُحيلنا غادة في أكثر من موضع إلى أثرٍ أودِيبيّ، لا بالمعنى الفرويدي لعقدة الابن تجاه الأم، بل بالمعنى القدري للمأساة الأوديبية، حيث يُحاصر الأبطال بعلاقات ملعونة، وحب يستدعي الدم، ومصائر تتوارث الذنب كأنها لعنة لا خلاص منها.

فتاة ترى العالم بلونين فقط، وكاتب كبير ذو عين واحدة، وفنان بقدم مفقودة… جميعهم محكومون بعقدة الذنب التي تولّد الظلمة والانفصال عن الزمن والغياب عن الذاكرة والعالم.

بطل الذاكرة المتشظية:

في النهاية تجتمع الرموز في بطلنا الوحيد الذي يجاهد في الذاكرة المتشظية، ويحاول عقله أن يجمع كل المشاهد دون فصول الأحلام الهاربة، دون الذهان الحاد والانفصال عن الحقيقة.

يحاول بكل قوة أن يظل على نمط الوقت، ولكن الوقت يجعله في يقظة تحيي بداخله الحقيقة التي طالما جاهد عقله على طرحها جانبا، والغوص في كل شيء بقصة مختلفة لا تمت لحادث حياته بصفة.

حتى أنه قام بتسجيل كل لحظة تخصه بشرائط كاسيت لتظل ذاكرته الحالية مسجلة، حتى لو حاول الهرب من الواقع يرتد بما يدونه ويسجله. ليستيقظ البطل يوما ليبيع ذاكرته المسجلة لبائع خردة!!..

رغبته في قضم الزمن وهروبه الدائم، فيتوجه للحشيش والغياب العقلي.

وبينما هو تحت هذا التأثير الهارب، يدون له عقله رسالة على لسان أحد أبطال عقله السارح في الخيال:

“الحنين إلى شيء فقدته لن يعيده، لكن مجرد الحنين إليه يشعرك بالراحة، فالحنين أرق من الفقد يا لوركا.”

حتى الحنين كان وسيلته النفسية للتغلب على صعوبة الغياب والفقد، فيختار العودة طوال الوقت بالزمن على أمل عودة المفقود. بكثرة الحنين يجد المفقود.

اللوحات والرموز

بالنسبة للوحات المستخدمة في كل فصل، فهي لوحات غاية في التكامل الفني بين العمل وبين المرسوم. يتشابه روح النص مع نوعية اللوح الفنية المقدمة. علمت أن غادة فنانة تشكيلية، بحثت عن الفنان الذي رسم النص بألوان غير مذكور الاسم، فأعتقد أنها صاحبة الألوان والرسم.

اختيارات غادة للأسماء: أنانسي، أراكني، هيميت، كرامبوس، وميميت وغيرها، هي تكملة لسلسلة الرمزية الساحرة التي قررت خوضها ببراعة وذكاء شديد.

داخل كل قصة تجد ألف قصة، وهذا ما لفت نظري للكتابة. إنها متداخلة وغير ثابتة، تستطيع أن تحكي لك ثلاث قصص أسطورية بداخل قصة واحدة، ومنها تخرج لحياة الشارع والعمل، وتعود مرة أخرى في بطن أنانسي الذي يذوب البشر وينتج منهم أجود الروائح والعطور.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية، المجموعة صادرة عن دار صفصافة 2025

مقالات من نفس القسم