وعلى الرغم من أنها قد نشرت من قبل على موقع الفيسبوك كيوميات مسلسلة ذات طابع خاص, فان النصوص التى يتألف منها “على أطراف الأصابع” تبدو أقل قربا إلى شكل اليوميات منه إلى العمود الثقافى . الطموح المعلن لذكرى على مستوى الشكل هو تجنب , ان لم يكن مهاجمة و بضراوة , الأنواع الأدبية السائدة و المكرسة و خصوصا الرواية-الرواية القصيرة و التى كانت الوسيط المفضل لديه حتى الآن (و كما أشار هو , فى الأعوام الأخيرة أصبح للرواية حضورا طاغيا , على نحو متزايد , فى الأدب العربى) . أراد ذكرى أيضا أن يرخى القبضة الحديدية التى يحافظ بها على “النقاء الأدبى” لمنجزه, حاميا ذهب الفن الحقيقى من المداهمات المحتملة لرصاص السياسى و الاجتماعى ( كل من الصورة المجازية و الاقتباسات التالية , ما لم نشر إلى غير ذلك , مأخوذة من مقابلة أجراها معه مؤخرا محمد شعير .) . و مع ذلك , كلما أمعنت التفكير فى يوميات ذكرى ,أثناء القراءة , تكشفت لك فحوى العنوان الجانبى للكتاب “اليوميات” و غدا مفمهوما على نحو أفضل . و ما ان تقلب الصفحة الأخيرة حتى تصبح مقتنعا تماما . يحتوى الكتاب على تلك المادة التى يتوقع المرء , على وجه الدقة , أن يجدها فى يوميات كاتب من طراز ذكرى : شظايا تأملية حول السينما و الأدب , لقاءات مبهمة ترتبط على نحو هامشى فقط بالتجارب الحياتية , أيا كانت , التى تتحدث عنها , صياغات فلسفية بلا فحوى واضحة. للتدوينات تلك السمات المميزة للقصائد الشعرية من بناء محكم و انفتاح ,فى معظم الحالات , على التأويل. أما أهم سمة على الاطلاق و هى فى الواقع ما يميز ذكرى عن أى كاتب عربى آخر تقريبا : تتميز النصوص ,على نحو أصيل , بالاحالة الذاتية, حيث تقتفى حركة المقطع أثر كلمة ما أو تعبير ما , لا ما تشير إليه الكلمة أو التعبير . يتم اختزال السرد إلى نوع من الجماليات الدلالية , و تختزل الشخصية الرئيسة إلى فكرة يتم الايحاء بها عبر انعطافة معينة فى العبارة .
تكمن المفارقة فى أن هذا الميل يبدو أكثر وضوحا عن ذى قبل , الآن حيث لم يعد ذكرى يسيطر على نصه بشكل واع . هل يستطيع أحد أن يتوقع من يوميات مصطفى ذكرى شيئا أكثر حميمية و عينية مما
هو متحقق فى هذه النصوص؟
********************************
أعتقدت اننى من هذا الطراز من الكتاب الذين , قياسا بكتاباتهم , يحيون حياة فقيرة على صعيدى الجسد و الروح . أفكر ببورخيس و دويستوفسكى و بيسوا
(1).
فى حين يرى ذكرى فى كل محاولة للربط بين الأدب و الواقع تهديدا لنقاء فنه , فإن احالات كتلك – مع مايصاحبها عادة من تصريحات كاسحة – هى مايخصم من مصداقيته . من المؤكد أن الكتابة العربية تفسح مجالا لتنظير شبه مابعد حداثى مهما يكن ما يتصف به من تمركز على الذات أو نزق تأملى . الا أنه فى سياق رواية قصيرة ك “هراء متاهة قوطية” تنجز الكتابة العربية تقويضا حقيقيا لفكرة “النقاء” أكثر بكثير من أية تضمينات مفترضة لتعليقات سوسيو-سياسية موضوعة بشكل ملائم فى سياق الرواية , و ذلك عندما يقوم السارد بعقد مقارنه بينه و بين بورخيس :
عبقرى ذائع الصيت ينتمى لثقافة , بدون شك , مغايرة تماما , و الذى , يتعين على أن أضيف , تربطه بما يفعله السارد علاقة هى فى أحسن الأحوال مبهمة. لا تكمن المعضلة فى كون ذكرى, ككاتب, قد يكون أقل شأنا من دويستوفسكى . تكمن المعضلة بالأحرى فى التوجه , فيما يتسم به هذا الضرب من النخبوية المنحازة للغرب الذى يسعى لتبنيها من تكلف واضح – ثمة تناقض ثابت بين كلاسيكاوية تطلعاته من جهة و منهجه, التفكيكى حتى النخاع , من جهة أخرى . كتبه ضئيلة الحجم , متشظية على الدوام , يعاد كتابتها و صقلها على نحو ملتاث و مع ذلك تظل غير ناجزة . تتصف هذه الكتب أيضا , عمليا , بالانكفاء الشديد على الذات فى اخفاقها فى الاشتباك مع العالم (اخفاق تفشل فى اصلاحه محاولة احلال الأدب العظيم – أى الحداثة و السينما الفنية- محل العالم ) . فقط عندما نشرع فى قراءة يوميات ذكرى حيث يتنازل و يناقش الأشياء التى يحبها و تلك التى يكرهها , أو يشتبك مع علاقات القوى السائدة فى المشهد الثقافى أو يذكر واحدا من زملاء المهنة مثل طبيب الأسنان و الكاتب الأكثر مبيعا علاء الأسوانى أو أستاذه السابق ادوارد الخراط , عندئذ نبدأ فى التعرف على القيمة الحقيقية لذكرى ككاتب .يسعى الآخرون – يمكننى أن أقول الغالبية العظمى – بلا مواربة وراء السياق , و العلاقات و التواصل . أما هو فيزعم أنه يبحث عن الحد الأدنى من الانتشار , أقل عدد من القراء , صحبة الآلهة – مثل كافكا و كاواباتا – الذين , حسبما يرى , لم يختلطوا بالعامة قط . تكمن المفارقة فى أن ما يشكل جوهر أعماله هو بالتحديد ما تتسم به وجهة نظره , ككاتب من العالم الثالث, من سمات تنتمى لطبقة العامة و الغوغاء و التى تؤثر حتى على طريقته فى تأويل الأدب العظيم و تمنحها خصوصيتها . و من هنا المنحى التفكيكى , من هنا النفور من السياسى
( و هى السمة التى يشترك فيها ذكرى مع مجايليه من الأدباء و الذين مازالوا يمارسون حتى الآن نوعا من رد الفعل على التسييس المفرط للأدب فى عقدى الستينيات و السبعينيات) , من هنا أيضا اليأس الاحترازى من امكانية امتلاك جمهور قراء خاص به خارج دائرة ” القارىء المحترف و الكاتب و نصف الكاتب” (لقد خطر لى الآن أن ذكرى , بتوكيده المنهجى للذات , يستدعى إلى الذهن شخصية المتنبى , و الذى يعد , على نحو لا يخلو من الجدل ,ليس أعظم شعراء العربية على مر العصور فحسب بل أيضا , صدقا أو كذبا , أكثرهم غرورا على الاطلاق.).
لقد كنت دوما تحت رحمة اشارة الشروع فى العمل , مما يتطلب أن أكون مكرسا كليا و مستعدا لاستقبالها حينما تأتى فى أى وقت(17.)
قليل هم الكتاب الذين أولوا اهتماما و كرسوا طاقاتهم لتحليل منغصات و هموم سيرورتهم الابداعية مثلما فعل ذكرى – طبيعة و حجم الخواء الثاوى تحت سطح نصوصهم . هنا , كما فى مواضع أخرى – خصوصا فى آخر أعماله التخيلية (الرسائل—2006) – يخصص ذكرى بعض الوقت لما يمكن أن يسمى الانتاجية السلبية : الكتابة التى لم تتحقق بعد أو التى فى انتظار أن تتحقق لكن ربما لن تتحقق أبدا . فهو يحدثنا عن و يصف لنا حالة العطالة و البقاء رهين المنزل انتظارا (و دفاعا عن) للأدب . يكشف النص الذى يحمل رقم 34 من “على أطراف الأصابع” بجلاء عن حقيقة مؤداها أن حالة الانتاجية السلبية الخاصة بذكرى قد تكون هى المثال الأكثر اقناعا لمقاربة الشرط الانسانى فى الأدب العربى المعاصر من منظور وجودى . خلافا لمزاعمه المبهمة , تمتد أصداء هذه الحالة بعيدا إلى ما وراء ما وصفه مؤخرا للصحفية علا الساكت ب ” تلك الأشياء الصغيرة و التى تعتبرها الكتابات الأخرى ” , الكتابات الملتزمة , الديناميكية و التى تهدف إلى تغيير العالم ” غير ذات أهمية , الأشياء الصغيرة التى تتكرر يوميا و الذى يأخذها البعض كأشياء مسلم بها ” 34 . تمتلك تلك المعضلة الخاصة بذكرى أهمية شاملة : ” كان الاعداد و و الترتيب و تهيئة الأجواء , تأخذ منى وقتا طويلا و على الرغم من أننى كنت عاطلا عن العمل بحجة انتظار اللحظة الملائمة , كان هذا الانتظار ذاته يتغذى على وقت طويل مهدر , و الذى كنت أصفه , بكثير من المشقة و الجهد , باللحظة غير الملائمة أو على الأقل بلحظة غير ملائمة فى طريقها لأن تصبح ملائمة . “. يضفى مثل هذا الضرب من التفكير شيئا من الدعابة على كتاب هو ,نظرا لما يتسم به من ذهنية و جفاف , فى أمس الحاجة اليها . يتضح مما سبق أيضا أن ذكرى ليس على هذا القدر من الانكفاء على الذات كما قد يبدو . هو واع على الأقل بالمفارقة الساخرة الكامنة فى نرجسيته و لا يشعر بالهلع الى حد العزوف عن تبنيها . نحن نكتب عن أكثر الأشياء التى نعرفها, و كل ما يعرفه ذكرى هو البقاء فى المنزل و التفكير بشأن الكتابة . هذا , بالاضافة إلى أى شيء آخر يتفق لقلقه الأدبى أن يتعلق به , هو ما سيكتب عنه ذكرى .
***************************************************************************
فى بداية فيلم القربان للمخرج أندريه تاركوفسكى , يطلب الكسندر , بطل الفيلم , من ابنه أن يساعده فى غرس شجرة ميتة على شاطىء بحيرة (27.)
فى النص الذى يحمل رقم 27 , كما فى العديد من النصوص الأخرى يسعى ذكرى – و الذى ,أثناء تعاونه مع المخرج أسامة فوزى, قام بكتابة السيناريو لاثنين من أفضل الأفلام المصرية فى فترة التسعينيات – لاعادة كتابة السينما العالمية . لا يعنى هذا أن قالب الرواية /الرواية القصيرة قد حال بينه و بين ممارسة عشقه للسينما بحرية كبيرة فى الماضى – فروايته الصادرة عام 1998 تحمل عنوان فيلم فاسبيندر الشهير , الخوف يأكل الروح – لكن الفرص الأعظم التى وفرها له وسيط على “درجة فائقة من المرونة” مثل اليوميات , أتاحت له مجالا أرحب للتركيز على مشاهد و تقنيات محددة – فى أعمال هيتشكوك , و أعمال مخرجى الموجة الجديدة الفرنسية و تارانتينو و برجمان – لا يتعلق الأمر بمناقشة هذه السمة أو تلك لفيلم ما أو مخرج ما بقدر ماهو, ببساطة, تسليط الضوء على لحظة سينمائية معينة من زاوية جديدة , ويمكن القول , زاوية أدبية أيضا . ان موضوع التأثير الذى يمارسه فن السينما على الأدب هو من الضخامة بمكان بحيث تقع مناقشته خارج نطاق هذا “الشرح” , و مع ذلك فان ما يمتلكه ذكرى السيناريست من استبصارات نافذة و ذائقة شديدة الفردانية يتضافران معا لابراز كيف يمكن للكلمات المنتشرة على سطح الصفحة أن تعيد خلق مشهد ما مستقر فى ذاكرة القارىء و تغيره على نحو شامل . تبدو هذه النصوص كما لو كانت تعمل على قلب هذا الاتجاه و تقترح نوع جديد من الكتابة قادر على تغيير طرائقنا فى مشاهدة الأفلام . يبدو الأمر كما لو أن ذكرى ,عبر وسيط مغاير , يبين بطريقة فعالة لقارئه أن قوة الأدب لم تعد مرهونة بقدرته على سرد حكايات بل تتعلق بالأحرى بطريقة معينة فى الرؤية أو الاشتباك مع الحواس , طريقة مغايرة و ان كانت لا تقل فى فاعليتها عن الوسائط البصرية و السمعية الأوسع انتشارا .
لاحقا ,فى سياق نقده لاذع السخرية لرواية الأسوانى “عمارة يعقوبيان” (2002) فى النص الذى يحمل رقم 45 , يقول ذكرى شيئا شبيها بهذا
” يكفى الطبيب علاء الأسوانى أن قارئا لا علاقة له بجنس الرواية يستطيع و بيسر أن يقرأ “عمارة يعقوبيان” معتمدا على خبرته فى قراءة الصحف و الحكى الشفاهى و التى يمتلكها كل فرد بحكم الميلاد و الجماعة و الوطن . قد يبدو للقاريء أن مشاهدة الرواية من خلال وسيط السينما لن تحول بينه و بين سبر يعقوبيان حتى اعمق أعماقها . و حيث أن الرواية قد طلقت تقاليد الأسلوب بلا رجعة , لم يعد هناك حاجة للقراءة .”
فى حين أن التسلية كانت تبدو كشىء متعلق بأوقات الفراغ , الا انها فى حقيقة الأمر , متعلقة بمعنى الحياة .(39.)
يتحدث ذكرى ,فى الظاهر, عن ” الساتالايت و الكومبيوتر و التليفون ” و هى مبدئيا “وعود بأشياء أخرى , أكثر جدية” و يتعامل معها كوسائل للتسلية ” داخل حدود المنزل” . لكن هنا , كما فى مواضع أخرى من هذا الكتاب المتنوع على نحو مبهر , يطرح ذكرى أيضا ,على نحو غير مباشر, رؤية كلية للعالم , تصورا للوجود الانسانى كمجموع خبرات و الذى قلما نجده فى غير الفلسفة أو الشعر . ربما بهذا المعنى فقط يمكننا أن نقارن ذكرى ببورخيس على الرغم ما يميز الأخير من سلوك أكثر تبلورا و خلفية معرفية أوسع بما لا يقاس. و رغم أن بورخيس , خلافا لذكرى , يمتلك وعيا صحيا بالسياق , إلا انه يبقى واحدا من الكتاب القلائل فى العالم الذى يملك القدرة على ايصال هذا الشعور بكلية الوجود بأقل عدد من الوسائل . فى العديد من النصوص التى يضمها هذا الكتاب , تستدعى تركيبات ذكرى المحكمة و المفكر فيها بعمق, الصلة بين النص القصير شبه السردى و قصيدة النثر – تلك هى أحد الأشياء التى تمكن بورخيس من تحقيقها , على الرغم من أن الأرجنتينى العظيم , مرة أخرى خلافا لذكرى , قام بكتابة قصائد و قدمها على هذا النحو . الفرق الأساسى بين ذكرى و بورخيس – بين ذكرى و معظم كتاب بورخيس- هو قدرة الأخير على استعداء قراءه غالبا عن طريق ارباكهم باحالات غير ضرورية . بورخيس تحديدا اشتهر بقوله أنه ما لم يكن ما يكتبه المرء هو عمل بحثى أو كتاب علمى , فانه يتعين على النص أن يتمتع بقدر من الجاذبية كاف لجعل القارىء لا يحتاج إلى بذل أى جهد فى قراءته . من هذه الناحية يعد ذكرى جويسيا أكثر منه بورخيسيا , فمتعة القاريء لا تعنيه إلا قليلا . و فى الواقع هو يتعمد استعداء “القارىء الذى لا تربطنى به أية صلة , ممثل العامة الذى لا مكان له بين الآلهة , على حد قوله . و مع ذلك , فى معظم الحالات – رغما عنه؟- ينتج ذكرى نصوصا ممتعة للغاية . هل تعد هذه واحدة من تلك التناقضات التى لا
سبيل إلى حلها التى تطرحها أعماله؟
***************************************************
فى هذا العالم الذى تقف فيه جميع الحقائق على قدم المساواة فى مواجهة بعضها البعض , يصبح المعنى مغامرة , لعبة تباديل و توافيق لا نهاية لها.
(49.)
لم يحظ مفهوم ذكرى للأدب ,فى أى مكان آخر , بتعبير على هذه الدرجة من القوة و الوضوح (الأدب كمفهوم جامع يشمل أيضا الفلسفة و السينما , المجالان اللذان حصل فيهما ذكرى على درجات علمية , بالاضافة إلى حياة المبدع , و أسلوب المبدع أو طريقته فى استخدام الكلمات و ربما أيضا الشرط الانسانى) . و الفكرة ليست على هذا القدر من الغرابة الذى أراده لها. رومانتيكية و مابعد حداثية على قدم المساواة , فكرة الكتابة كلعبة سامية لكن أيضا الخالية تماما من المعنى , هى فكرة يتردد صداها فى العديد من السياقات المتباينة من فتجنشتين حتى الاستشراق . حقيقة أن ذكرى قد تجنب صياغة هذه الفكرة , و لم يقل قط , فى سياق تبرير اختياره لهذه المهنة , أكثر من أنها “متعة خاصة” , بالكاد تفجئنا . يعكس هذا التركيب المربك الذى يجمع بين مابعد حداثة تنتمى للعالم الثالث , و طهرانية الأدب العظيم , التناقض القائم بين منهج ذكرى التفكيكى و المتشظى بكل ما تحمله الكلمة من معنى , من جهة , و منظوره شديد الكلاسيكية من جهة أخرى .
بعيدا عن أن يقوض مصداقيته , ربما يكون هذا التناقض تحديدا , الانتاجية السلبية – و الالتزام برفض أية امكانية للاعتراف الجماهيرى و “النجاح” – هو ما يجعل ذكرى , مع أخذ جميع الأشياء الأخرى فى الاعتبار , واحدا من أهم كتاب العربية فى الوقت الحالى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
عنوان النص الأصلى هو Sharh Diwan Zikri
ونشر بجريدة الأهرام ويكلى فى العدد الصادر بتاريخ 10-16 سبتمبر 2009