لا يصلح مع مدينة صعيدية كتلك، القول بأنّي ضاربة ودع أو قارئة فنجان. يصلح للتسلية لا المال. سأقرأ اللمحات، وأضرب بالكلمات. أنا الدرويشة التي أتاها الوليّ في المنام، يشير لموضع ضريحه ليقام هاهنا. من يملك القبض على حلم؟
ضالتي الشيخ نعمان رجل الكرامات، غريب المدينة، المتوفى بلا جذر ولا ثمر. ما عليَّ سوى سرد الحلم بسلاسة، قاذفةً به دون مبالاة. ثم التنحي جانبًا، أدع الأهالي يلقفنه. لا بأس من ثرثراتهم المتطايرة، تُزيد من التفاصيل، وتغزلها بثنايا الحلم، تضع رتوشًا تضفي مزيدًا من الجلال والدهشة له. هكذا يصير حلمنا وكذبتنا معًا. يسعى الأهالي بتضرع لتجسيده دون دعوة مني.
**********
هاهي على بعد خطوات من باب الضريح، أعدّت لها متكئا، تستند بظهرها للحائط، وتحفَّها النساء على جانبيها، بينما ترقب الوافدين الجدد. تستمتع على مهل بتيه أعينهم المتجولة في الأرجاء بلا هدف، بخطواتهم المتلعثمة خجلا. تتحضر لتصير عكازهم، ومصباحهم.
تتواصل بخفة مع شعور الغرق الغامر لأرواحهم، المتلهف للنور، بتربص مع حواسهم المستنفرة لاستقبال كل لافت من صوت وحركة كإشارة من المولى تبعث رسائله. تتسلل بمهارة هنا، لتكن صوت الله. تتلقى فيض أشواقهم للبوح والخلاص من أعباء الأمنيات، الأوجاع، والأسرار، مقابل قطرات نقود.
**********
الحاجة تملأ البشر دوما بشهوة للعطاء. ليقين حيِّ بأعماقهم أن يوما قادم سيجزون فيه بالمقابل. ثقل الرغبات يتخففون منه بالمنح، لا يبالون لأي وجهة تذهب عطاياهم أو لمن! يهبون وفقط. أنا لا أخدع أحدًا بتلقي بعض عطاياهم المتناثرة، أنا أحررهم من العبء بمقابل زهيد.
أمدّ لهم يدي، أتحسّ الوجع، أُبصر حقيقته، أنصت للأنين بلا ألم مُعزي ولا لذة متوحشة فقط بوعي شافي. ما أن ألمح طيف نور، حتى أقطف من خزائن معرفتي، تلك التي جمعتها بطول تِّرحالي، سر ما يداويهم. لا أهب ثمرًا، أنثر بذورًا. فأن أجادوا الغرس طرحت. وحين تواجهني العتمة، أكتفي بدعاء الرحمة.
**********
بلطف مزاحها تجذبك للحديث. بينما تظل عيناها صامتتان تخترقك. تخلع عنك الحجب شيئا فشيئا، تقف مرتبكا أمامها. يتسرب البرد إلى أوصالك، بينما تتعرى روحك. ينغزك خوف الرؤية بسكاكين ثلجية، وتلفح رياح خجل ساخنة روحك العارية.
زجاجية كمرآة جماد عيناها، لا تعكس بسمة حديثها ولا جرأة اقتحامها. تعكس ما تلقى، روحك. ولا روح داخلها تتشكل بها الرؤى. تأتيك أحاديثها من وراء حجاب موحية، تُغلفها بالظلال. لا تدع فرصة للقبض على ثغرات. مشوش الذهن تظلّ تتساءل هل تعريت وحيدًا، أم لها؟
**********
روحي للريح، ترتحل أينما ولى، لا قبضة لي عليها. وجسدي للأرض، مال لأصله. منذ اخترت تلك المدينة النائية سكنًا، فارقتني الروح للغربة خفيفةً حرةً. وارتخى الجسد لمنبته، حين أنهكه التجوال.
ولازلت الغجرية، بثياب الدرويش أتنقل داخل البشر لا للأمكنة. أقتحم حيواتهم غصبا وطواعية، تنكشف ليّا الأسرار، دون أن أمدد لستارها يدي. أتمتع معهم بأكثر من حياة. أهرب فيها من الموت مرارا. وأحيّا قصص العشق مرارا. بأرواح الموجوعين بادلت روحي الهاربة، أحيي أرواحا، أو أقرأ سلاما أخيرا عليها.