“الكاتبات والوحدة”.. الميعاد الذي اختارته الروح

نورا ناجي

سارة مرشوح

لم يكن ذاك الشغف الأولي في سنة 2022 لقراءة “الكاتبات والوحدة” سوى لمسة عابرة لِكتابٍ ينتظر ميعاداً لم تعلنه الأقدار بعد. شيئاً ما منعني وحال دون ذلك، وكم هو قاهر ذاك الحاجز غير المرئي الذي يحول بين الروح ونصها المُقدّر. اليوم، ليس الأمرُ رغبةً، بل هو ضرورةُ بقاءٍ وجودية بعد أن فارقتُ، منذ شهرين فقط، الكيان الذي كان بالنسبة لي: الصديقة، والأم، والملاذ. أدركتُ حينئذٍ أن الكتب حرفياً هي من تختار قراءها، لا رغبتنا المُشتتة. هذا الكتاب لم يخترني وأنا مُحاطة بسلام زائف؛ بل اختارني في ذروة الانكشاف، في نقطة الصفر من الوجع. لم يأتِ على عجل، بل جاء في ميعاده الذي تُريده الروح المنكسرة لتجدَ فيه عزاءها القاسي، مُعلنة أنني أصبحتُ الآن مؤهلةً لحمل رسالته الثقيلة.لقد جاء الكتابُ إليَّ بعد أن أصبحتُ أنا الهيكل الذي يسكنه الغياب. ماتت جدتي على صدري. كان حضني محطتها الأخيرة، والآن هو عتبة فراغ لا يُملأ، تحول إلى برودة أزلية. هذا الحضن، الذي كان قفصها الأخير، أصبح الآن وادي فراغ لا يرتد فيه إلا صوتي المكسور. لم يكن موتها فقداناً؛ بل كان انزياح الأرض من تحت قدميّ. احتضنتُ لحظة صعودها، فأصبحتُ الهيكل الذي يسكنه الغياب. أقف كل يوم على سجادتها، أمسك مسبحةً لا تحمل إلا أثر أصابعها الغائبة، وكأنني أتوسلُ إلى الجماد أن يردَّ شيئاً من جسدها.

وفي هذا العراء، يرتسم دهاء نورا ناجي، ليس في السرد، بل في تكثيف الوحدة الحقيقية التي عانتها الكاتبات. تلك  الوحدة  التي لا تكسرها ثرثرة الأصدقاء، ولا ضجيج العالم الخارجي؛ إنها وحدتنا أمام يقين الفقد، وأمام البحث عن الطيبة في محيط طغت عليه الأنانيةُ المُعلّبة والشرُ المُتدثر، فنتحول إلى أرواح معزولة في أجساد مزدحمة.

تتساءل نورا ناجي: ما الرابط الوثيق بين الكاتبات والوحدة؟ والإجابة ليست في الجغرافيا ولا الزمن، بل في ذلك الشعور الذي يتطابقُ بين الذين يحملونه، كأننا جميعاً كُتبنا بجملة واحدة في حياة سابقة. هذا هو دهاء النص، أن يجعلكِ تماهينَ حدَّ البكاء. في فقرة من الفقرات، وددت لو أترك الكتاب وأحضن الكاتبة وأبكي؛ لم تكن رغبتي هذه لِتُواسيها هي، بل لِتُواسيني بها، مُدركةً أن غربتي ليست فرديّة، وأن هذا الوجع الروحي مشترك وعابر. لقد قدمت لي نورا ناجي دليلاً على أن الروح لا تموتُ وحيدةً تماماً، ما دامت قد وجدت توأماً لها في الكلمات، إنها رسالة مفادها أن الفقد، والوحدة، والبحث عن الملاذ، هي قصص الأديبات والقارئات معاً.

​ها أنا أنهيت الكتاب والدموع في عينيّ. أُغمض الكتاب ببطءٍ مهيب. أُعيد الغلاف إلى مكانه على الطاولة، وأترك السكون يلفّ الغرفة حولي، سكونٌ ثقيل يُشبه ذاك الذي أعقب انزياح الأرض. أحدق في غلافه، ويحدقُ الغلاف بي، وكأننا في حوار صامت لا يفهمه إلا من سكنه الغياب. وفي تلك اللحظة، يتأكدُ لي أن هذا النص، الذي اختارني في ميعادي القاسي، لن يتخلى عني؛ ففي زمنٍ تخون فيه القلوب وتتبدل فيه المواقع، يبقى النصُ الصادق هو الرفيق الوحيد الذي يُعلمني أن الوحدة مصير، لكن الكلمة خلود.

لم يكن ما قرأتُه مجرد فصولٍ في كتاب، بل كان يداً امتدت عبر العتمة لتمسك بيدي في لحظةِ ذهولٍ قصوى. شُكراً نورا ناجي لأنكِ كتبتِ بصدقٍ جارح، شُكراً لأنكِ جعلتِ من “الوحدة” لغةً نفهمها جميعاً حين نكاد نفقد القدرة على الكلام.

​يقولون إن الكلمات لا تُغني عن اللقاء، لكنني اليوم أرسلُ لكِ شكري على هيئة “حضنٍ كتابيّ”؛ حضنٌ يتجاوز المسافات والورق، ليحتضن فيكِ تلك الروح التي أدركت غُربتي قبل أن ألتقيها.

……………

*كاتبة من المغرب

 

مقالات ذات صلة

أقسام الموقع