“زهر الخريف”  .. رواية عن انعكاس سنوات الحرب على قرية مصرية

زهر الخريف
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 سعيد نصر

اختار عمار على حسن لرواية “زهر الخريف” عنوانا معبرا عن أحداثها ومضمونها والرسالة المبتغاة منها، فالزهر يرمز للشخصيات المسلمة والمسيحية المتسامحة والمتحابة والوطنية حتى النخاح، أمثال على وميخائيل ورفاعى ووفاء وجورجيت وعبد القادر شيخ الخفر، والد على،  وونيس أبو سمعان والد ميخائيل، وغيرهم، فكلهم شخصيات مرتبطة بتراب الوطن كارتباط زهر الخريف بعين أشجاره، وهى شخصيات من معدن الذهب بلون صفار الأزهار التى تبقى بروح الصمود والتحدى متماسكة فى أشجارها، والخريف يرمز إلى شعور المصريين بالكآبة والعار عقب هزيمة 5 يونيو 1967.

كما يرمز الخريف إلى عصابات الليل التى تسرق مواشى الفلاحين، فى قرية الإسماعيلية بالمنيا، ويعبر العنوان على الحالة المستقبلية فى مصر بخصوص الحرب مع الكيان الصهيونى، وذلك من منظور أن الربيع بوصفه فصل الحصاد والأعياد، يولد من رحم الخريف، وهو ما يوحى بأن فرحة الانتصار على إسرائيل باتت وشيكة الحدوث، وستولد من رحم الحالة النفسية التى ولدتها هزيمة يونيو.

واستهل الكاتب روايته بحلم مفزع ومقلق يتماهى مع نبؤة موت البطل فى بعض السير الشعبية،حيث رأت الأم فيه ابنها”على” وسط نار يتمدد بساطها طويلا، حتى يتلاشى فى بحار من الدم والنار، وتوسطها بحلم مفزع للزوجة عن زوجها “على” رأته فيه طائرا عظيما بجناحين يتحولان إلى جمرتين تتحولان إلى كتلة لهب تتحول إلى غبار من رماد ، وفى نهاية الحلمين تصرخ الأم والزوجة بأعى صوت “يا على….” ، وهذه الصور المخيفة ، والتى منها صورة حلم سلوى لابنها ميخائيل، تخلق حالة من التوتر والحزن والتعاطف فى نفسية المتلقى، تجعله مجذوبا للبطلين على وميخائيل حتى النهاية لمعرفة مصيرهما النهائى، خاصة أنها صور مغلفة بطابع الواقعية السحرية،حيث يقول الراوى واصفا حلم أم على:” نار فى نار ، وحمم تمرق فى الفضاء ، وبساط من لهب يمتد حتى نهاية المدى وصراخ آدميين ، يستغيثون ولا مجيب . وفى أعماق الجمرة العملاقة رأته يضحك باطمئنان لم تلمحه في عينيه أبدا ، يلوح لها بيديه ثم غاب فى القيعان البعيدة ، صرخت بكل ما أوتيت من عزم : يا على … ومدت يديها إليه ، لكنه قد تلاشى فى بحار من دم ونار. “

 

وتحكى الرواية عن قرية صغيرة ومنسية بالمنيا اسمها “الإسماعيلية،”يتعرض أهلها للسطو على أيدى عصابات الليل، فى الفترة ما بين 67 و 73 بسبب استسلام أهلها للأمر الواقع، ويقوم بطلا الرواية على “المسلم” وميخائيل “القبطى”،بتوحيد صفوف الأهالى،  عقب نجاحهما فى حكايتى الفتاة و أم حسين ،وحثهم على المقاومة، وخوض معارك شرسة ضد عصابات اللليل جعلت منهما أسطورتين فى عيون الناس، خاصة بعد نجاحهما فى تحقيق الأمن والأمان للقرية وأهلها، وسرعان ما يتحول هدفهما الصغير إلى هدف كبير بسبب فيلم سينمائى، ويصبح همهما الأكبر تحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلى، وغسل عار 5 يونيو 1967، وبالفعل يتم تجنيدهما ، ويتحقق النصر،وتعود جثة الجندى الشهيد ميخائيل إلى القرية،ويدفن فيها، ويبقى أمر الجندى على معلقا بين السماء والأرض، بين الموت واللا موت،و تتلاحق الأحداث بسخونة وشجن لكشف سر غيابه عن طريق العرافين والمشايخ وأولياء الله الصالحين والسجلات العسكرية، دون جدوى، ويظل الأمر كذلك ، بدءا بكل ماسبق،و مرورا بموت الأب والأم ويأس الزوجة، وانتهاءا بكشف سر استشهاده فى طائرة محترقة أثناء تنفيذه لعملية عسكرية، وذلك بفضل تزامن وفاة والدة البطل مع وفاة رجل من قرية الحوارتة المجاورة لقرية الإسماعيلية، ودفنهما فى نفس التوقيت وفى ذات المقابر، حيث  كان ابن عم المتوفى “رجل دين” من بنى سويف زميلا لعلى عبدالقادر فى الحرب حاضرا لجنازة عمه، وأكد لفهمى عبدالقادر أن أخيه على كان بطلا شجاعا ومات شهيدا، وبذلك هدأت النفس الحائرة فى النهاية. 

ورسم الكاتب بالصفات الجميلة ومسارات الأحداث الشجية لوحة أدبية أخلاقية لبطلى الرواية،على وميخائيل، تكشف المعدن الحقيقى للإنسان المصرى الأصيل وتشعرك بأن الهلال والصليب روح واحد فى جسد واحد، وتؤكد لك أن نصر أكتوبر حققه المسلمون والمسحيون معا، بالدم الغالى والروح الوطنية الفياضة وحب الوطن، وتكتنف هذه اللوحة رسالة مهمة، مفادها أن مصر فى سنوات الحرب كانت نموذج للتسامح الدينى، قبل أن يلوثها الاحتقان الطائفى فى النصف الثانى من السبعينيات، بسبب سياسات السادات وممارسات الجماعات الإسلامية وبعض المتشددين من الأقباط ، فالبطلان،على وميخائيل، متشابهان إلى حد التطابق، بمنظور خصائص الطابع القومى المصرى، حتى فى مدلول الأسماء، فاسم على من الرفعة والنبل والشرف ، وهو الشخصية الأشهر، بعد الرسول صلى الله عليه وسلم فى الكرم والشجاعة عند المسلمين، واسم ميخائيل يكفيه شرفا وسموا أنه اسم رئيس الملائكة عند المسيحيين، وعلى وميخائيل، صديقان منذ الطفولة، ومعين ثقافتهما واحد،كتب بسيطة و سير شعبية وقصص أسطورية، مثل الزير سالم، وسيف بن ذى يزن، وحمزة البهلوان،والظاهر بيبرس،وعلى الزيبق، اشتراها على واستعارها ميخائيل، والبطلان جمعهما حلم واحد فى فترة الشباب، وهو حماية القرية الصغيرة المنسية من عصابات الليل التى تسرق البهائم، وفى نفس اللحظة التى كشف فيها ميخائيل لعلى سر عشقه لجورجيت، كشف على له سر عشقه لوفاء،والحبيبتان جميلتان رقيقتان، وفيتان مخلصتان، بمعانى الأسماء ومدلولات المواقف، وعلى تزوج وفاء مدة أقل من أسبوعين، وميخائيل خطب جورجيت ولم يدخل بها، ووفاء ظلت وفية لحبها لعلى ومخلصة له،وأيضا جورجيت لميخائيل،وذلك بعد استشهادهما فى الحرب، والبطلان شعرا، فى نفس اللحظة، وبالتحديد أثناء مشاهدة فيلم “أغنية على الممر” ، بمرارة هزيمة 5 ينيو 1967 ، وبالرغبة الشديدة  فى غسل العار بنصر كبير على إسرائيل، وفى أسرع وقت، وعلى وميخائيل تظاهرا معا بالصدفة للضغط على النظام لاتخاذ قرار الحرب، والاثنان قاوما عصابات الليل بشجاعة وبسالة،وتم تجنيدهما بالجيش فى نفس اليوم وفى ذات الساعة،والاثنان قاتلا ببسالة وشجاعة ونالا الشهادة فى حرب 6 أكتوبر 1973، وقد يكون الاثنان استشهدا فى توقيت واحد، وفى نفس الساعة، وإن كان الكاتب لم يشر إلى ذلك فى روايته،إلا أن هذا الشىء يمكن استنباطه بالإيحاء الوجدانى.

ونجح الكاتب فى إظهار وتأكيد التلازمية بين شقى الأمة المصرية،المسجد والكنيسة،المسلمين والمسيحيين،خاصة فى الأزمات واللحظات الفارقة،وتبيان إلى أى حد هى ضاربة فى تاريخ الدولة المصرية،من خلال إظهار أن الأسرتين متلاحمتين، وأن المسلمين والمسيحيين فى القرية متلاحمين، وليس على وميخائيل فقط، فوفاء وجورجيت صديقتان،وونيس والد ميخائيل صديق لعبدالقادر والد على، وأم على متشابهة مع أم ميخائيل فى الإيمان والرضا والطبع وصديقة مخلصة لها، فأم على كانت أول المعزيات الباكيات المتحسرات فى وفاة ميخائيل، و المسيحيون يحضرون عزاءات المسلمين بصورة تؤكد التلازمية والتلاحمية بين شقى الأمة، وظهر ذلك فى مرثية أم بطرس وأم طه بالعديد معا فى وفاة أم على،وعندما تأخرت أم على فى رحلة عودتها للقرية من عند الشيخ حسن كان فى انتظارها ونيس وعبدالقادر، وعندما تأوهت أم على وقالت لهما”:”يبدو أنه لا سبيل سوى الصبر.”، قال ونيس لها ضاحكا:”حالك لا يختلف عن حال أم ميخائيل.”، وأخبرها أنها ذهبت هى الأخرى للقسيس لمعرفة سر ابنها الغائب، ومثلما قال القسيس لأم ميخائيل:”ها نحن نطوب الصابرين”، قال الشيخ لأم على:”إن الله مع الصابرين.”، وأجمع كلاهما أن الغيب يعلمه الله وحده،ومثلما حلمت أم على بحلم مفزع عن ابنها، حلمت سلوى بحلم مفزع عن ابنها ميخائيل. 

وقد اشتملت الرواية على سرديات وحوارات، بخصوص على وميخائيل، تضيف جمالا لتلك التلازمية التى تربط الأسرتين معا ، وتزيد من رونقها الأخلاقى والقيمى، فى عين المتلقى، وتؤكد أنها تلازمية دائمة بين شقى الأمة المصرية فى الشدائد والأزمات، وهى الصورة التى يطمح الكاتب فى عودتها مرة أخرى، باعتبار أن ذلك أحد أهم رسائل الرواية ، ومن هذه السرديات والحوارات،تلك التى تؤكد أن البطلين كانا متلازمين ومتحدين فى كل شىء،مثل قول الراوى:” قبل أن يشب على وميخائيل عن الطوق ظفر اللصوص بكل سرقاتهم.”، وقوله أيضا:”وجاءت من عمق الظلام صرخات متقطعة، حدد على وميخائيل مكانها، فأطلقوا الرصاص تجاهها فى عزم.”، وقول على لأبيه بعدما أبدى مخاوفه من سهراته خارج البيت:”كلها سهرات بريئة، وسل ميخائيل.”،ورد الأب عليه بقوله:”ميخائيل صاحبك وشريكك فى كل أفعالك.”، ومنها أيضا وصف الكاتب للبطلين بأنهما اسطورتين، وهو نفس وصف أغلبية أهل القرية لهما باستثناء قلة من الحاقدين والجواسيس، حيث يقول الكاتب فى وصفهما :” كان على وميخائيل حقا أسطورتين. شابان وسيمان فى وقار كالورد البلدى. خفيفا الظل كنسمة ربيعية. شامخان معتدان بنفسيهما كنخلتين باسقتين. وفوق كل هذا يتمتعان بإرادتين صلبتين، وجسدين قويين، وعشق متناه للمغامرات.”، وفى اليلة الثانية بعد تجنيدهما ، وعقب معركة إعادة الجمل المسروق من القرية، تذكر أربعة أشخاص البطلين بالخير، وقال رابعهم:”ربنا يرد لنا على وميخائيل… زرعا فينا الشجاعة، وعلمانا كيف نطارد أولاد الليل.”

وجعل الكاتب من القرية فى الرواية صورة رمزية مصغرة للدولة المصرية، فالخفر فيها تشجعوا لأول مرة وشاركوا فى مقاومة عصابات الليل، عندما وجدوا المدنيين بقيادة على و ميخائيل بدأوا المعركة بالفعل ، وكان هذا أحد أسباب النصر، وفى ذلك إسقاطة ذكية على المقاومة الشعبية ضد إسرائيل فى الفترة ما بين 1967 و 1973، ودورها القوى، ولو بالمنظور المعنوى، فى تحقيق نصر أكتوبر، وكأن الكاتب يريد أن يقول أن النصر تحقق بالجيش والشعب، وبالجهد العسكرى والجهد المدنى، حيث قال فى وصف معركة اليوم التاسع بين أهل القرية وعصابات الليل:” وجاءت من عمق الظلام صرخات متقطعة، حدد على وميخائيل مكانها، فأطلقوا الرصاص تجاهها فى عزم. وصنع الخفر خطا هجوميا فى الناحية الأخرى التى يهرب منها اللصوص، وتشجعوا، للمرة الأولى، وأطلقوا كل ما فى جعبتهم من رصاص، فحوصر أولاد الليل.”

واستخدم الكاتب الربابة وسيرة بنى هلال بتقنية أدبية عالية، لتحقيق الهدف منها، وذلك بجعلها وسيلة رمزية لبث إيحاءات بعينها، كالشجاعة والحب وغيرهما، وبشكل يضفى طابع عاطفى متماشى مع بكائيات الأهل والزوجة والقرية على الحبيب الغائب، حيث تم استخدامها، على سبيل المثال لا الحصر، كرمزية للوفاء والإخلاص فى الحب، ورمزية لحتمية الحرب لاسترداد الأرض، ففى الرمزية الأولى ، أنشد أبوسليمان من فوق مصطبة النعمان :”ع اللى راح غاب وما ردش.. آخ لو جانى منه جوابـــا.. غيابــه عليــه ما لدش.. أنا فيه مغـرم صبابــا.”، وفى الرمزية الثانية صدح على ربابته وقال على لسان رسول خليفة الزناتى:”قــدام باب الغرب ودلـوا.. ورفعت الراية كبيرة وعريضة.. خليفـة قال : أهم جوا ودلوا..الحـرب علينــا فريضـة.”

واستخدم الكاتب ببراعة بلاغية صورا تعبيرية وأخرى متحركة،لإظهار الأحاسيس والمشاعر داخل الشخصيات فى رواية أراد لها ، على ما يبدو، أن تكون “إنسانية” فى المقام الأول، فعلى سبيل المثال لا الحصر، أظهر قلق الأم على ابنها بقوله:” كانت أم على تجلس فى الركن البعيد شاردة ، تأكلها الحسرة ، ويهزها خوف انطلق من أعماقها ينهش روحها بضراوة.”، وأظهر حنين وفاء لزوجها الغائب بقوله:”أسندت رأسها على جذعها، وداعبت زهرة منها متساقطة بين فرعين، وكأنها تغرس يدها في شعره الناعم، حين كان ينام بجوارها محتضنا جسدها اللدن.”،وبقوله عنها فى مقام أخر:”أحيانا كانت تتخيله قادما، يهل طوله الفارع وابتسامته المشرقة، فتنير في قلبها مشاعر فياضة. أحيانا كانت تجد نفسها مأخوذة إليه بكل كيانها فتنادى بصوت خفيض:ـ يا على…”، وأظهر الراوى معدن حب على لوفاء، بقول البطل:” لا أخاف الليل ولا اللصوص، ولا يهزنى سلطان ولا جاه، لكنى أرتجف حين أراها.”،وأوضح قلق الأب على ابنه بقوله:”وغاص الأب فى بحار من الصمت والتذكر، وخواطر لا تنتهى عن الغائب الحبيب.”، وأظهر شجاعة على فى القتال بقوله:” كعادته خرج فى قلب الليل، يهش اللصوص الطامعين عن قريته الغافية.”، ووصف حال الجنود فى هزيمة 5 يونية، عقب القرار الخاطىء بالانسحاب، بقوله:” كان الجنود يبكون كأطفال رضع تركتهم أمهاتهم نهبا للعراء والجوع.”، وهى صورة حزينة للغاية تتماهى مع صورة إبراهيم صديق على،والذى أفقدته الهزيمة الإحساس برجولته، ووصف الراوى حال الجنود بعد نصر أكتوبر بقوله:”داسوا عار الهزيمة بأقدامهم التى نهبت الأرض بحثا عن راحة وسكينة بعد عناء القتال المرير.”

وساق الكاتب رمزيات كثيرة عميقة الدلالة والمعنى، أكثرها عمقا، الطفل، والعصابة الفاجرة، والخائن سيد سرحان ، فالطفل يرمز لحاجة مصر لروح جديدة ، عسكرية ومدنية ، لغسل عار هزيمة 67 ، وهو ما تم بالفعل، وهى رمزية تتماهى مع علاقة أطفال القرية برفاعى”يا رفاعى يا بتاع العيش … خدنا معاك ودينا الجيش”. ، والعصابة الفاجرة ترمز لإسرائيل، و سيد سرحان يرمز لفاروق الفقى ضابط الصاعقة المصرى، فالطفل أشعل حماس على وميخائيل وباقى أهل القرية، بقوله:”يا ليت فيكم أحدا مثل “أبو زيد، ولو فى بلدنا شجعان ما ضاعت بهائمنا.”، والعصابة ، ومثلما كان الإعلام الخارجى المضاد والداخلى العميل يبالغ فى قدرات الجيش الإسرائيلى ويجعل منه أسطورة لاتقهر، كان الخائنون والجواسيس فى القرية المنسية يبالغون فى قدرات العصابة الفاجرة للتأثير على معنويات الراغبين فى مقاومتها،حيث قالوا عنها :” عصابة فاجرة ..يقال أنهم أكثر من خمسين رجلا مسلح ببنادق آلية.. بل رشاشات.. وذخيرة كبيرة من مخلفات الحرب.. وقلوب ميتة .. لا أحد بوسعه أن يتصدى لهم..وليس هناك من يضحى بنفسه من أجل بهيمة.”، ومثلما كان سيد أبوسرحان محارب مصرى قديم فى حرب فلسطين 48 ، وخان قريته بنقل معلومات خطيرة للدمشاوى وعصابته سهلت سرقات كثيرة بالقرية، كان فاروق الفقى ضابط صاعقة نافذ فى الجيش المصرى ونقل معلومات سرية وخطيرة لإسرائيل سهلت تدمير حائط الصواريخ أكثر من مرة، ومثلما قادت شهوة المال سيد أبو سرحان للخيانة قادت شهوة العشق والجنس فاروق الفقى للخيانة، ومثلما انكشف أمر سيد أبوسرحان بتسلل على وميخائيل إلى حجرته واكتشافهم لوجود مال كثير بحافظة داخل سحارته،انكشف أمر فاروق الفقى بدخول المخابرات لشقة وفرتها له هبة سليم فى مدينة نصر، واكتشافها خطابات بحبر سرى تؤكد واقعة الخيانة، ومثلما حاول 

 شيخ الخفر عبدالقادر إسماعيل تجنيده للاستفادة منه، انكشف أمر فاروق الفقى واستغلته المخابرات العامة فى اصطياد هبة سليم بليبيا واعتقالها.

ولا تخلو الرواية من مضامين سياسية، على الرغم من أن الطابع الاجتماعى والانسانى يغلب عليها، وجاءت تلك المضامين من خلال سرديات خاطفة للذهن، منها، على سبيل المثال لا الحصر، سردية تقارن بين مصر عبدالناصر ومصر ما بعده، :” سبعة آلاف سنة وهذا البلد يعطى ولا يأخذ شيئا من أحد. وفى عشرين سنة فقط نصبح معتمدين على من كانوا حتى الأمس قريب ينتظرون عطايانا … تغيرت الأحوال، البلد يسرق، والحكم يفسد، والناس يلهثون وراء لقمة العيش.”، وسردية أخرى تقارن  بالإيحاء بين حال مصر الطبى قبل وبعد ثورة 23 يوليو 1952، حيث قال رجل كانت يتنصت على “على وإبراهيم ” خلال حديثهما على المقهى:” كانت لدينا فى الشرق مستشفيات للطب النفسى، حين كان الأوربيون يحرقون مرضى الفصام بدعوى أن روحا شريرة تسكن أجسادهم.”، ويعطى الكاتب لعبدالناصر حقه فى سردية ثالثة، حيث يقول الراوى:” وأجهز ميخائيل على أبى سرحان، حين قال، وهو ينظر إلى وجوه كل الرجال، ليشهدهم على كلامه: جمال عبد الناصر نفسه شارك فى هذه الحرب، وحوصر فى الفلوجة، فلم يجن، ولم يترك الجيش، ولا تحول إلى لص، بل قاد ثورة، أخرجت المستعمر، ووزعت الأرض عليكم، فصرتم ملاكا بعد أن كنتم أجراء.”

ومن خلال شخصية رفاعى وسردية صابر أبوأحمد، يكشف الكاتب خيبة أمل المصريين، فيما يتعلق بطموحات ما بعد نصر أكتوبر، ويؤكد صحة مقولة، “إن الحرب يخطط لها الأذكياء ويخوضها الشجعان ويكسب ثمارها الجبناء”،فبعد النصر، طبق السادات ومن بعده مبارك سياسات اقتصادية صبت فى مصلحة الأغنياء، وابتعدت تماما عن مبادىء ثورة 23 يوليو، فهذا صابر أبو أحمد ، ودلالة الصبر فى اسمه لاتخفى على أحد، ينظر فى وجوه الناس بحسرة ويتحدث عن الحبيب الغائب، فيقول:”على شهيد فى الجنة، ونحن هنا فى النار.”، فتندهش الناس وتسأله:”أى نار؟”، فيقول لهم:”نار الفقر وديون الإصلاح الزراعى الذى نعجز عن تسديدها، ومجموعات التقوية والدروس الخصوصية التى لا فكاك منها.”، وهذا رفاعى ينطبق عليه المثل القائل “عزيز قوم ذل” ، تم تهجيره من بورسعيد وعاش فى القرية المنسية يبيع خبزا على حمار وخرج، بعد أن كان صاحب فرن ولديه شقة قيمة وفسيحة فى عمارة شاهقة هدمها القصف الإسرائيلى فى 67، وبعد نصر أكتوبر فوجى عقب عودته لمدينته الباسلة للبحث عن الحبيب الغائب أن المكان سيطر عليه أخرون وبنوا عليه بناية شاهقة، ولحظتها شعر رفاعى بالحسرة، وسأل فهمى شقيق الحبيب الغائب  نفسه فى أسى:هل يمكن أن تغير الحرب من الملامح إلى هذا الحد؟،وكأن هذا المشهد يرمز لتلازمية أخرى على ورفاعى ، هى تلازمية الموت، خاصة أنه مشهد يتماهى مع موال رفاعى المحبب “وعدك ومكتوبلك يا قلبى كان مخبى فيـن .. ما دام كـده قسمتك بختك أجيبـه منيـن .. سلــم أمـورك يـا قلبي وامتثل للــه.. واللى انكتب على الجبين لازم تشوفه العين”.

وكان لسرديات العرافة الغجرية فوز والشيخ حسن والقسيس والولى الصالح دورا كبيرا فى إثارة فضول القارىء وتشويقه وجذبه لأحداث الرواية حتى نهايتها وأخر كلمة فيها، فهى سرديات حملت فى طياتها نهايات مفتوحة للحبيب الغائب ،سواء كان ميخائيل أو على، حسب درجات الأمل والتشاؤم،وبما يؤكد إيمان الجميع بأن الغيب يعلمه الله وحده، وبما يشى بأن جوهر الأديان واحد، وذلك من خلال كلمات متشابهة قالها أحدهم لأم ميخئيل ، وقالها ثلاثة منهم لأم على، فبعيدا عن العرافة وسجعها، قال القس قال لأم ميخائيل:” لا تستغربوا البلوى المحرقة التى بينكم حادثة، لأجل امتحانكم، كأنه أصابكم أمر غريب، بل كما اشتركتم فى آلام المسيح، افرحوا لكى تفرحوا فى استعلاء مجده أيضا مبتهجين.”، والشيخ حسن قال لأم على:”ـ إن الله مع الصابرين.”، والولى الصالح الشيخ عمران قال لأم على :”هو فى مكان غير مكاننا .. فى دنيا غير دنيانا، طال سفره، وأمامه طريق .. أمامه امتحان كبير، سينعم فيه بالسكينة.”

 

 

مقالات من نفس القسم