حوار مع الشاعر المكسيكي إلياس ناندينو

تاريخ ومكان الميلاد: 19 أبريل 1900، كوكولا، المكسيك تاريخ ومكان الوفاة: 3 أكتوبر 1993، غوادالاخارا، المكسيك

Elías Nandino

كتابة وحوار: أسعد الجبوري

في اللحظة التي رأيناه جالسًا على صخرةٍ ضخمةٍ كانت تقف على حافة جبل، أخذتنا فكرة أن يكون الشاعر في حالة تأمّل لزمانه القديم وتأويل لوجوده على صخرة، ربما اعتبرها صخرة سيزيف التي عثر عليها بعد الموت.
لكن الشاعر المكسيكي إلياس ناندينو، وبمجرّد أن شعر باقترابنا منه، دحرج الصخرة بنفسها لتسقط في الوادي السحيق، ونهض بصحبة ((التكسوني))، ذلك الحيوان الجميل شبه اللاما الذي كان يرافقه منذ أن خرج من تحت التراب للإقامة في كوكب ((بنات النار)) الجميل.
تصافحنا مع الشاعر وقمنا بجولة على مراعي النساء وهنّ يقمن بقطف الزهور الخاصة بصناعة العطور. كان ناندينو يشمّ عرق العاملات ويثمل من روائحهن. بعبارة أدق، كان يشحن روحه من أجل هذا الحوار.
جلسنا على مصطبة خشبية وفتحنا أبواب هذا الحوار. قلنا له:

س: من أتى بك من تلك الأرض إلى هذا الكوكب يا إلياس ناندينو؟
ج: ليست سوى تلك الريح، يوم اقتلعتني من الرحم لترميني مشتتًا هنا.

س: ألم يكن ذلك الفعل حسنًا من قبل الريح؟
ج: ربما كان ذلك حسنًا لو انتظرت نمو أجنحتي، ولكنها فعلت ذلك بمجرد اكتمال نمو قدميّ.

س: هل وُلدت حالِمًا بالأجنحة؟
ج: ذلك ما كنت أطمح به حقًا، فالطيران ينقذ التراب من التلوث والدوس عليه بالأحذية.

س: هل غزت الفلسفة طفولتك بشكل مبكر؟
ج: أعتقد بأن الفلسفة هي الحوض الابتدائي الذي يعلّم الشعراء السباحة بفتنة الجمال ذات الجذور المشبعة بفيروسات السائل المنوي الذي يسبق الحليب بتغذية الأجساد.

س: وإذا ما حصل العكس في تلك الأحواض وتم غرق السباحين؟
ج: ذلك شيء عظيم، فالشاعر الذي لا يعرف فكفكة شيفرات الماء لا لزوم له.

س: لا لزوم له بكتابة الشعر أم لا لزوم له في السباحة؟
ج: الشاعر الذي يحوّل المياه إلى حبر، ذلك ما تحتاجه القصيدة بالضبط، أما البقية فضفادع يخدعون أنفسهم بتصنيف النقيق غناءً.

س: وأين يجد إلياس جسده: تحت الماء أم فوقه؟
ج: لقد سعيت أن أكون خيط أوكسجين تائهًا في جسد البحر الذي تتألف منه حواسي.

س: كيف تمتلئ الأجساد بالملذّات يا ناندينو؟
ج: يحدث ذلك بمجرّد طرد العاقول عن لحوم الأبدان، فكل جسد شوكي يسمح بسيطرة العذرية على خلايا الحب سرعان ما يفقد متعة الشمس والحرية ورطوبة الأصابع.

س: كأنك مراهق يتحدث عن وقائع جنسية برغبة عارمة؟
ج: وما المانع أن أكون مراهقًا وأنا فوق التسعين من العمر؟

س: ألا يحق للموت أن يقول فيك شيئًا؟
ج: أنا أفشلت كل مناوراته بالسيطرة على نبضي، وربما لذلك تركني جسدًا ليليًا تأوي إليه الطيور المهاجرة.

س: كيف ترى ذاتك يا إلياس ناندينو؟
ج: راديو يعمل بطاقة الأحطاب.

س: ومن أين تنشأ تلك الأحطاب التي تتحدث عنها؟
ج: هي أحطاب الغرام الذي يريد تلمّس النار، وليس رؤيتها فقط. الحب المحترق شبيه بشعلة الأولمب، تبقى أسراره في الرماد إلى الأبد.

س: ألا تعتقد بأن ثمة علاقة وطيدة بين الحب والموت؟
ج: نعم، هما جنديان محترفان، وكلاهما يحاولان الوصول إلى فوهة العدم.

س: وماذا يوجد في تلك الفوهة؟
ج: تلك الفوهة أمّ الشهوات الصعبة التي لا تفقد السيطرة على وجودها كي تستمر بالانبعاث خارج الحياة والموت معًا.

س: هل تتضمن مجموعتك الشعرية «إيروتيكا بيضاء – حامية» تلك النظرة – النظرية؟
ج: الجنس رمال متحركة غريزيًا، يختزلنا لحمًا وترابًا وغيمًا ونصوصًا وأديرة وموسيقى وعيادات سيكولوجية وأسرّة للاندماج والتلاقح.

س: ألا يطهّر الحب شيئًا من آثام الجسد؟
ج: لا أعتقد ذلك، فمثلما الحب بداية كل خطأ في باطن اللحوم، مثلما هو تصحيح لذلك الخطأ ظاهريًا.

س: هل تتبنى أفكارًا كهذه كونك طبيب صحة؟
ج: بالضبط، فأنا أضع القصيدة على المشرحة، وعادة ما أمارس التوغل تحت الجلد بحثًا عن الأحلام التي تفكر فيها مخلوقات القصائد.

س: ألا تعتبر نفسك شاعرًا غرائزيًا؟
ج: أنا أعتبر الشعر مجموعة غرائز، تعلوها الغريزة الجنسية أولًا وأخيرًا.

س: حتى لو كانت غريزة متوحشة؟
ج: من لا يعتبر الجنس ذئبًا صديقًا، لا يدرك من خصائص الشعر وحواسه شيئًا.

س: هل تعتبر بأن غرف الحواس في الجسد ملغومة بالجنس؟
ج: بالضبط، الشهوات من المواد التي لها أثر بكل حاسة من حواس الجسم، إنسانًا كان أم حيوانًا.

س: هل ذلك ما تعلمته من جماعة ((المعاصرون)) الحداثوية التي كنت منضمًا إليها في المكسيك؟
ج: لم تستطع تلك الجماعة غرس شيء برأسي، لكنها استطاعت تغطية بعض الحفر النفسية – اللاهوتية بالطلاء المناسب، مما جعلها أقل سطوعًا وتأثيرًا في تكويني الشعري.

س: هل كنت راضخًا لكاثوليكيتك تحت الضغط الديني؟
ج: كنت أخشى على نفسي من أن أكون راهبًا يقبع في زاوية كنيسة ويبكي الآلهة دون تفريق بين نبي وآخر.

س: وهل كان العجز الذكوري دافعًا للاحتماء بالكنيسة مثلًا؟
ج: نعم، فحينما صارت الريح تصفر بقلبي، تعرضت إلى مخاوف مزعجة من التقصير بفقدان اللذة في حضن المرأة، لذلك وضعت فكرة الابتعاد عن النساء أو الهرب من روائح الإناث بشكل عام.

س: كيف تتسلل الشيخوخة من الجسد إلى الشعر؟
ج: حين يصبح الجسد أرشيفًا للقصائد الميتة فقط.

س: هل تعايشت مع تلك الحالة يا ناندينو؟
ج: كنت أحاول دفع الشعر عن شيخوختي بمساعدة من أعين الكلمات الممتلئة بالدموع، وقد نجحت إلى حد ما بذلك العمل حفاظًا على ما تبقى في روحي من المشاعر الحمراء.

س: أيهما الأهم بنظرك: إبعاد الشيخوخة عن الشعر، أم ربطه بمراتب الانهيار البيولوجي لجسد الشاعر؟
ج: أظن أن للورق بيولوجيا مانعة للشيخوخة، وتدفع عن المطبوعات النادرة فكرة الموت الإكلينيكي.

س: هل دخلت هالة الموت نائمًا أم منتصب العمود الفقري؟
ج: لم أتذكّر غير كلمة واحدة، نمت فيها وكفّنتني اللغة بهدوء، بعد ذلك حدث الطيران إلى مدن الميتافيزيقيا.

س: وماذا رأيت هناك؟
ج: رأيت الكثير من الكراسي منتشرة على تلال من الرمال الذهبية، وآلهة يتبادلون الأنخاب وهم يقضمون النساءات الحور قضم التفاح الأخضر.

س: هل أعاد ذلك المشهد الجنسي المثير الطاقة لك باسترجاع ما كنت فقدته على الأرض مؤخرًا؟
ج: لا أبدًا، ذلك لم يحدث بسبب شيفرتي الوراثية التي قيل لي عنها شيء غامض يتعلّق بإصابتي بفيروسات شعرية من نمط تلك الموجودة في غرف الحواس العميقة.

س: كيف للموتى أن يستعيدوا الكتابة برأيك يا ناندينو؟
ج: الكتابة بعد الموت أسهل من قبله، وذلك لأن العدم يجعل الشاعر أكثر قدرة على نسيان أنظمة الكتابة القديمة بتجاوز كافة أنماطها المعروفة على الأرض.

س: ماذا عن أحلامك في الآخرة الآن؟
ج: عن أية آخرة تتحدث أنت؟ أنا في بداية الموت، وسيكلّفني الوصول إلى العدم ملايين من السنوات الضوئية التي سأقضيها متشردًا تحت التراب ومتزلجًا فوق سقوف السماوات الجليدية.

شاعر وكاتب عراقي

مقالات ذات صلة

أقسام الموقع