حوار مع الشاعر الفرنسي آرثر رامبو

رامبو
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كتابة وحوار: أسعد الجبوري

أنها سَاعَةُ الصِّفْرِ الفيزيائي.

فطائرُ الرَّخ الذي بلغ بنا المكانَ المخصصَّ لما كنا نبحث عنه، من وراء تلك الرحلة الشاقة،انتهى من

خرقِ حاجزِ الصوت في خَليّة الزمن، ولم يبقَ أمامنا بعد لحظات وصولنا إلى الأرض الجديدة،غير أن ندرك حقيقة تلك الأصوات التي كانت تتناهى إلى سمعنا في لحظات هبوطنا من تلك الغيوم،أن كانت قادمة من أرْغُن عظيم،يعزفُ ألحاناً شبيه بموسيقى الكنائس، أم هي إيقاعات لحروب تخوضها كائناتٌ أخرى ليست على صورتنا في التاريخ ولا في الجينات؟!!

ولكننا أولاً وقبل كل شئ،وجدنا أمامنا جداراً شبيهاً بجدار برلين المُنْهَار،وقد أُلصقتْ عليه الكثير من التصاوير الفوتوغرافية والكاريكاتورية للشاعر الفرنسي آرثر رامبو (1854-1891).

بمجرد أن امتلأت أعينُنا بتلك الصور، أحسسنا بأن مِجَسَّات سريّة في دواخلنا،باتت تمنحنا إحداثيَّات جغرافيَّة، لتلمس الطريق الصحيح إلى مكان إقامة الشاعر  في ذلك الكوخ المُشيّد من القرميد الأحمر المُقَام وسط حقول شاسعة من القَات البلدي.

بعد أقل من ساعة،كنا هناك.وجدنا الشاعر الرائي رامبو وهو يرافق البطل الملحمي سبارتاكوس في جولة على نباتاته المختارة.وما أن تم اللقاء بالاثنين، وتبادل التهاني معهما بنجاح الرحلة الاستكشافية،حتى أشار إلينا الشاعر رامبو بإصبعه نحو عيادة خاصة بالأمراض النسائية،كانت تقع في الجهة المقابلة من الشارع الذي كنا نمضي على أعشابه.

لم نعرف المغزى من وراء تلك الإشارة،وعندما استوضحنا عن الأمر، أجابنا الشاعر،بأن ابتعاده عن النساء والنسوة والنساءات،كانت بدافع الخوف من أمراض الإناث!!

حاولنا فتح باب الجدال لمناقشته بالفكرة الخاطئة،إلا إننا خشينا من الوقوع في ردود الفعل العنيفة التي قد تؤدي إلى إفشال الحوار.

لذلك فضلنا التقدم بأسئلة تخصّ الشعر أولاً.فسألنا رامبو بعد أن افترق عنا سبارتاكوس ممتطياً دراجته البخارية،عن أول خرق لطفولته من قبل الفاتح الشعري قائلين:

■ كأن أحداً قام باستبدال رأس الطفل المراهق،برأس الرائي المنفعل بأحداث الكون،وهو في سّن مبكرة من حياته.هل تتذكر من فعل بكَ ذلك،وأنت لم تبلغ من العمر سوى 15 عاماً؟

ـــ يا لها من فكرة في سؤال استكشافي.

لقد استبدَّ بي الطيشُ الشعري مبكراً وأنا في مسقط رأسي (شارلفيل).شعرتُ بأن في جوفي عواصفَ ملتهبة،كانت تجتاح كل منطقة من جسمي الضيق الضئيل.ولا اشك بأن الإبليس الأكبر هو من قام بعملية استبدال الرأس البيولوجي للطفل آرثر،برأس شعري كله نوافذ بلا ستائر.

■ هل كان ذلك رداً على التربية الصارمة لأمك الكاثوليكية المتزمتة القاسية،كأن تقفز من مياه الحوض العائلي المليئة بصابون الإيمان القروي،متسرباً إلى المياه الأكثر هديراً وفيضاً وصخباً وفضائح؟

ـــ لست معنياً بالحديث عن الطقس العائلي بشكل عام،ولكنني أعرف بأن قوةً تفجرتْ آنذاك في داخلي،من أجل أن أكون متمرداً على الأب الجندي فريدريك رامبو المحارب فيما وراء الحدود وعلى حضن الأم (ماي كاثرين فيتالي) لأكون متطوعاً للهجرة،ومنتهجاً التشرد والصعلكة على أرصفة العالم بشكل يُليق بذلك الهدير الأعمى الذي كان يتصاعد من كل خلية من خلايا جسدي.

■ وكنت تكره العائلة والنمو الطبيعي في حضنها؟

ـــ لا.بل كنت قلقاً من الإرث الديني الذي كانت تحملهُ أمي بخصوص ضبط إيقاع حياة أفراد العائلة التي كنت منتسباً إليها.الأمومةُ الصارمة بإرثها اللاهوتي هي التي منحتني المفاتيح لاقتحام العوالم التي كانت مُشيّدة فيما وراء بيتنا الصغير.

■وربما كانت سبباً بتكوينات الشعر بتربتك أيضا ً؟

ـــأنا أدركُ بأن الشعر الذي كتبتهُ،لم يتكوّن برأسي تّكْويناً جينياً،بقدر ما كان ضرباً من الاحتكاك الهائل بين مجموعة جبال كان بعضها ينهار،وبعضها الآخر ينمو ما بين الأنقاض. فالمرء،وما أن يخرج من بئر العائلة الشاقولي العواطف والصور والأفكار،سرعان ما يتمكن من الحصول على البيانات الأولية الواضحة عن تركيب كائناته الداخلية، وتراكيب المخلوقات التي تقودُ عربة الأحداث عبر التاريخ.وذلك ما وجدته فور فتح باب المنزل،والمضي بعيداً في مجرى الريح.

■ يقال أنك كتبت شعراً كلاسيكياً بأوزان وقوافٍ في مطلع شبابك،إلا أنك سرعان ما غادرت تلك المنطقة،أو هجرت تلك المرحلة،لتدخل المجال الحيويّ لشعرٍ من نوع آخر.ما الذي حدث لك آنذاك بالضبط؟

ـــ أنا نزلتُ من الرحم شاعراً للعبث وللسخط على الرتابة.وعندما مارستُ كتابة الشعر التقليدي، وجدتُ طيوري مختنقةً داخل قفص ضخم تملؤه الأدخنةُ.فلم أستطعْ تحمل إيقاع الشعر الكلاسيكي ذاك. شعرتُ معه،وكأنني أنام متنقلاً داخل مجموعة من أجراس الكنائس.فالترددات الرتيبة للأصوات والألحان والأوزان،كادت أن تقضي على حركة أحلامي وهي في المهد.

أجل.فهي لا تمنع النوم من أن يستولي على الجسد فقط،بل تستكمل عمليات وأد الأحلام وهي في بئر اللحم الأول حتى.

■ وإلى ماذا تردّ مديح فيكتور هوجو لك آنذاك،عندما أطلق عليك اسم  “طفل شكسبير”؟!!

ـــ ربما لأن رغبةً كانت تعتملُ بصدرهِ للخروج من تلك الأجراس،ولكن دون أن يجد حافزاً يبررُ له كسرّ الآنية التي تربى بها،وتشبع بحبرها المحافظ.السيد هوجو هو غير رامبو الولد الذي نطّ فوق الحواجز،وألقى بالمشعل في حقل التبن،لينهض الشعرُ بثورته الأولى.

■ هل كنت شاباً رائياً يقود كتيبة جند الحداثة  على سبيل المثال؟

ـــ في ذلك الوقت لم أشغل نفسي بالنظريات.كنت كنزاً وانكسرتْ أقفالهُ على حين غِرَّة.وما تقوله أنت عن الحداثة وكتيبة المحدثين،هو شئ كان غائباً عني تماماً.فأنا كرستُ الشعرَ في نفسي نجمةً ثملة بخمر أحمر،ولم أظن الشعر يوماً بمثابة فانوس،يمكن أن يتعرض لحركة من حركات هبوب الريح،فيموتُ ضوءاً ومعنى.

■ تحولاتك السريعة في الشعر الجديد صوراً واستعارات وبلاغة وفلسفة ورموزاً،فتحت عليك أبواب باريس عبر دعوة الشاعر بول فرلين. كيف وجدَ رامبو عاصمةَ فرنسا آنذاك؟

ـــ كانت في باريس مواد غنية للنفس وللورق وللصوت وللون والتدخين ولمختلف الشهوات التي يحلم بها شاعرٌ هاربٌ من منزل الطقس السلفي بنعال الريح.كانت باريس بالنسبة لي مدينة لا وجود فيها لمادة واقية تصونُ الجسد من الانغماس بالملذات الحارّة شديدة الانفجار.باريس جعلت جسدي صالوناً تجتمع إلى مائدته كل ما يُسمى بالذنوب والخطايا.

■ تعني أن باريس لم تتوان عن خربطة جسد رامبو؟

ـــ لم تأتِ تلك الخربطة من أجواء باريس وطقوسها وحسب،ولكنها كانت منبثقة من داخلي.بمعنى أنني أولُ من تجرأ وفتح أبوابَ جسدهِ لوحوش الجمال،ليكتشف في البيولوجية تلك المائدة الفاخرة للمَلَذّات.

■ وبسبب تلك المَلَذّات المُسْتعِرة،أطلق عليكَ الشاعر بول فرلين النارَ برصاصتين،لتجرحَ أحداهما معصمك في يوليو 1873؟

ـــ كان فرلين مفتوناً بي شِعراً ولحماً.وبمرور الوقت، أصيب ذلك الرجل بالجنون،ليصبح أشبه بصاروخ حراري يتعقبني بباروده نهاراً، وكذلك في المنام.بل والأعظم درجة من كل هذا وذاك،،أنه تخلى عن زوجه (ماتيلد مات) وابنه.كنا نعيش في بئر شبقي من المثلية العنيفة جسداً وشعراً وكحولاً وحشيشاً واضطرابات.

■ هل بعضٌ من تلك الطقوس،ساهمت ببناء قصيدتك  ((المركب السكران))؟

ـــ ليس تماماً. فقد كتبت تلك القصيدة قبل رصاصتي بول فرلين على جسدي في ذلك الوقت المكتنز بالالتهابات. كان الشعر سيرك لفوضى متناهية الخيال.ففرلين لم يحاصرني بإطلاق النار وحسب،بل حاصرني من كلّ جهات الأرض.ولم أسترح منه إلا بعد دخوله السجن لمدة سنتين.

طلقتهُ زوجه كذلك،لينتهي إلى ما يشبه الغراب المسيحي الذي يتساقط منه ريشهُ ندماً على أفعالهِ السوداء.

■ ولكن رموز البرناسيين من الجماعات الانطباعية،صوبوا سهامهم نحوك،معتبرين رامبو كياناً وشعراً ليس سوى تربة فاسدة وسخيفة،ولا تستحق إلا الشتائم.كيف كنتَ تنظر إلى تلك الآراء؟

ـــ أنها صفحةٌ من صفحات الرثاء ليست إلا.فجماعة البرناسيين كانوا مجموعات من الدجاج الأدبي والفني،لم يقو أحدهم على مواجهة سكين الذبّاح الكلاسيكي بحق الجماليات التي كانت تنهض من تربة المجددين نحو آفاق العالم الجديد.

■ نحو (فصل من الجحيم) تقصد؟

ـــ ربما. فبعد أن منحتني المخيلةُ الطاقة العظمى لصياغة الشعر وكتابته بالطريقة التي كانت عابرة للذوق وللمدارس القديمة وللأرواح التي كانت تسكن في مخازن شعراء فرنسا الكلاسيكيين، سرعان وجدت نفسي فارغاً من الشعر والفن والسحر على باب العدم. فصل من الجحيم،هو الفصل الختامي الذي قررتُ من ورائه استدعاء فرق الإطفاء، لينالوا من ذلك الجحيم الذي كان يلتهم حقولي في باطني المعجون باللذة وبالسحر وبالقرف من إدمان الندم بذلك الشكل المرعب أحياناً.

■ ذلك ليس مهماً،أمام قارئ مشغول بالاشراقات التي تحملها لهُ كلماتك.فهل كنت مؤمناً بالتخلي عن الشعر لصالح المتاجرة بالبن وبالأسلحة وبالعبيد؟

ـــ لم يكن الوضع على ذلك الحال. فعندما قررتُ الهرب من الشعر،لم أجد أمامي إلا فكرة التنصل من هوية الثلج الأوروبي.والاستغراق بالسفر والترحال وصولاً إلى الصحارى كبديل للتعويض عن النقيض الجغرافي لمسقط الرأس.

لقد جعلني الشعر فيما بعد،وحيداً في وحدتي، وبلا معين للاستقرار أو للإقامة في نفسي التي وجدتها في أعلى درجات الشيزوفرينيا.فبعد باريس كانت الطرق مفتوحةً إلى انكلترا وبلجيكا وألمانيا وهولندا، ثم جزر الهند الشرقية وجاكرتا والنمسا والسويد وسويسرا وإلى أن ظهرت في الواجهة عدن واريتريا وإثيوبيا.

■ بمعنى أن البرناسيين هزموكَ بحق. دفعوا بك إلى طلاق نفسك من الشعر ومزاولة تجارة البن والعبيد والسلاح؟؟

ـــ ذلك ما حدث بالفعل.فعلى الرغم من القوة الأدبية التي منحني إياه الشاعر والناقد (جرجيس أزمبارد) الذي كوّن شخصيتي الشعرية،إلا أن عصبة البرناسيين القذرة المناوئة للحداثة،سرعان ما حطمت الحلم،ودفعت بي إلى الخروج من جلدي نحو الرمال البعيدة.لم تُبقِ لي فرنسا آنذاك سوى أن أشطب الشعر من قاموس حياتي،ليدوم حِدادُ فرنسا على فقدان رامبو  للأبد.

■ هل لأنكَ فتحتَ للشعر المجرى الحداثوي الأعمق بكسر عمود اللغة الفقري القديم،وبجعله عالماً لا يمكن احتواءه في علبة أوزان أو سلّم موسيقي لإيقاعات لا تثير إلا الضجر؟

ـــ لم أفكر أبداً بأن للشعر هدفاً ما في كل حياتي الشعرية القصيرة.كنت أعتبرهُ جنازةً لكائن ثري، تثيرُ الإعجاب،مما دفعت الناس للمشي خلفها بكل إجلال.

■أهذا كل شيء؟!

ـــوماذا يجب أن يكون أكثر من هذا عند القارئ الحاذق المتمرن على تفجيرات الفكر الحديث،أو بالنسبة للشعراء الذين لا تخدعهم سلطةُ اللغة السلفية،ولا ذلك الجبروت الذي أقامته المؤسسات الواقعية المُضادّة للخيال؟

■هل كان رامبو خدعةً شعرية على سبيل المثال؟

ــ يمكنك قول هذا.لأن الشعراء الضعاف المستهلكين الذين ليس لديهم أسلاك كهربائية،تربطهم بعوالم الثقوب السوداء للشعريات الفوارّة، هم بلا معنى بلا مبنى،مادام الرُهاب يصيبهم مني.هل تدرك ما معنى كلمة رُهاب في المعاجم العربية؟

أنه في (علوم النفس ) خوف عميق مستمرّ على غير أساس من واقع الخطر أو التهديد من موقف ما أو شيء معيّن، ويرى السُّلوكيون أن هذه المخاوف نتيجة لسلسلة من الارتباطات بين كثير من المؤثِّرات السَّلبيَّة

رُهاب الموت : خوف مرضي من الموت

رُهاب الاحتجاز : ( علوم النفس ) خوف مرضيّ نفسيّ من الوجود في الأماكن المغلقة أو الضَّيّقة.وأنا لست الشاعر الأول الذي غادر العُلَب الضيقة،ليتركها مقراً لمئات من الشعراء الذين صعدوا على ظهر ((المركب السكران)) ولم يستطيعوا النزول من هناك بعد مرور كلّ هذا الوقت من زمن الشعر.

■وإذا لم يقدروا على النزول،فماذا الذي يفعلونه على ظهر مركبك السكران؟

ـــ لقد جرتْ أحداث كثيرة مروعة هناك.فمنهم من انغمس بالخمر حتى بات كحولياً.ومنهم من رمى بجسمه إلى البحر منتحراً.فيما انشغل شعراء آخرون بتشكيل لجان متابعة لحركة خط سير ذلك المركب في مياه اللغة.وأيضاً،لتأليف لجان متخصصة بكتابة نصوص لمحاكاة (الاشراقات) و((فصل من الجحيم)) وبقية النصوص المبعثرة الأخرى التي بقيت عند البعض بمثابة أساطير أو قريبة من الكتابات التي لا تدلُ القارئ إلى آبارها السحيقة بسهولة.

■هل لأن شعرك قد نُسج من خيوط حياتك كما يقول (دانيال دوبوا ) في مقالة له؟

ـــ أجل.ولذلك تجد الكثيرين يحاولون تقليدي شاذاً،أو لا مثيل لي إلا في (( مثلية)) جعلتُ منها مادة فيزيائية تتمدد في الجسم الشعري إلى حدّ جعلهِ مُنتَعِشاً بشهوةٍ لغويةٍ، لم تأتِ من وراء الغيوم،ولكنها تصعقُ خصومها الفارغين حتماً.

■ كنت على الأرض ابن التأويلات اللا محدودة قديماً.ولكن من يكون رامبو بين طبقات السماء الآن؟

ـــ وجودي هنا،أشبه ما يكون بماضغٍ للقات،وهو يراقب حركة العمال المشتغلين بتنقية حبوب البن اليمني ليس إلا.مجرد استمرار بالأعمال السفلية التي سبق وأن مارستها على الأرض في مدينة عدن.

■ قات وبن وأسلحة وعبيد.كيف تُلخّصُ هذه الأشياء في جملة واحدة؟

ـــ ليست الحياة ممكنة إلا مع الشقاء.

■هل كان شقاء رامبو في الحياة القصيرة التي عشتها، يعادلُ الشقاء الطويل للقارئ بشعر رامبو؟

ـــ لا أعتقد بأن شقاء الشعر، يأتي من خارج رأس العارف.ولكن سرعان ما تقوم المخيلةُ بتوطين الجماليات في لحم ذلك الشقاء،ليبدو الشاعر كمالك نصّ،وليس كمُستأجرٍ لقطعة أرض من اللغة.

■ثمة من تحدث عن صوفية رامبوية.ما مدى صحة ذلك عندك؟!

ـــ عندما كنت أعمل شاعراً،لم أحس وقتها بأي فراغ يفصلني عن كل ما هو إلهي وغيبي.لذلك أجد نفسي مُطَهَراً من الأدران على الدوام. ثمة تقاطعاتٌ كانت تحدثُ لي في أثناء كتابة الشعر، ويمكن تسميتها لحظات السقوط بالبئر الناري الفَوّارَة.كلما التجأتُ إليها،اشتعلتُ باللغة أكثر.وأحسستُ بتمدد الأحلام في الفراغ الغيبي أكثر.كنت صوفياً مُلحِداً داخل النص،ومؤمناً خارجه.

■ يقال أن القرآن شَغَلَ رامبو بالإلهيات في عدن.ومنهم من رأى بأنك استعنت بسُوَرٍ ذلك الكتاب لتعينك على النجاح التجاري.هل كنت مُسلماً ومعتنقاً للديانة الإسلامية حقاً؟

ـــ لقد حفظتُ القرآن في سجن تابع لمدينة جدة في الحجاز،وما أن خرجت من هناك،حتى مارست التهريب.إلا أنني طالما استخدمت الكثير من الآيات للتخلص من غضب رجال العصابات الذين ما أن يسمعوا  شيئاً من تلك السُوَر القرآنية،حتى يقوموا بإطلاق سراحي، لأعود ثانية إلى جمع الذهب،بعدما سرق مني كل شيء في الإسكندرية.

■يقال إنك جمعتَ ثروة طائلة،بعدما استبدلت الشعر بالتجارة.هكذا كتبتَ في أحدى رسائلك للعائلة: «تصوروا أنني أحمل معي بشكل دائم في زناري ستة عشر ألفاً وبضع مئات من الفرنكات الذهبية تزن ثمانية كيلو، وتسبب لي على الدوام إسهالاً في المعدة».فماذا وجد رامبو بالثراء؟

ـــ ذلك كان صحيحاً. جمعت مالاً وفيراً،لم يستطع استرجاع ساقي التي بُترتْ بسبب والغرغرينا،ولا إعادة الروح التي تشققت كالورقة إلى قصاقيص، وطارت مبتعدةً عن جسدي الذي سرعان ما دفنته مع  المحرك البخاري وبقية الأحلام التي نشأت ذات يوم كفورّة دم في رأسي.

هل من أجل حفنة ذهب وبارود وبن وتوابل وحشيش وعبيد،نسفتَ مِنجمَ الشعر الذي كان يتلألأ بأعماقك؟؟

ـــلم أهجر الشعر أبداً،إنما اجتهدتُ على استكمال تصاويره ومكونات مواده الخام من ذهب وحشيش وتوابل وصمغ وعبيد وأسلحة وأقمشة قطنية.أنه عالم الاشراقات الَبرَّانيّة.الاشراقات الخاصة بالقسوة والحرية والجنون واللذة السوداء. فلا يمكن رؤية الشعر مركباً سكراناً دون أن تتصاعدَ من أعماقهِ مثل تلك الثمالة المريعة للوجود الشرقي ألماً وجمالاً وغرابة واستغراباً.

■ أنت كتبت ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر قصيدة كانت تسمى ( بوغرطة).وكانت إشادة بالمقاومة مثلما كتب أمين الزاوي عن ذلك قائلاً: ((في قصيدة “يوغرطة” أراد الشاعر رامبو – وهو يتحدث مشيدا ًبالمقاومة الشجاعة والفروسية النبيلة  للقائد يوغرطة الذي حارب روما- أن يبرم مقارنة مع المقاومة الشعبية الشجاعة والمستميتة التي قادها الأمير عبد القادر وجنوده وأتباعه  ضد الاستعمار الفرنسي… وبأنك لم تسقط ضحية الفكر الإكزوتيكي الإغرابي الذي كان ضحيته كثير من الكتاب الذين جاءوا إلى الجزائر من أمثال موباسان وأندريه جيد وأوجين فرومينتان وألفونس جوجي وبودلير وشاطوبريون وغيرهم، لقد قاومت الاغتراب بالشعر وتصالحت مع التاريخ ومع صناع التاريخ في البلدان المقهورة والمستعمرة.)) هل جاء ذلك التعبير انعكاساً لرأي والدك الجندي فريدريك رامبو الذي ترقى من رتبة جندي متطوع إلى كابتن، وقضى أكثر فترة خدمته في الجيش في مناطق أجنبية  وحارب في غزو الجزائر وحصل على وسام جوقة الشرف.

ـــ كل ما ذُكر هنا، كان تعبيراً حسيّاً مضاداً للقهر الذي بدأتْ ثورتهُ تظهرُ على وجهي، وأنا في مقتبل العمر.لقد أصابتني الحريةُ بأول ضربة شمس خيالية في فرنسا،ولكن لم يتحقق ذلك الاحتراق واقعياً فيما بعد،إلا على رمال بلدان الشرق.

■هل ندمتَ على شيء هناك؟

ـــ لا أبداً.حتى طلاقي للشعر، لم يجلب لي الندم.أنا عشتُ حياةً من نسيج عجائبي.تصور أن العينين اللتان كانتا على وجهي: واحدة معبأة بالرمل،وأخرى مليئة بالثعابين.فيما كان رأسي مشغولاً بأغاني غجر،ما زلتُ أتعايش معهم في نوم مصحوب بيقظة تلك الحمى التي كانت تلتهم جسدي دون توقف.

■ أنت مررت بمرحلة قريبة من الهَلوَسة. فما المسافة التي كانت بينك وبين الجنون؟

ـــ ليس من مسافة هناك.كنت في مجرى الجنون بشكل مباشر.بل أنني،وكلما وجدت نشاطهُ يخفُ بداخلي،سرعان ما أكافحُ ذلك الانحطاط،لئلا أفقد شهيتي به.

لا يمكن للمرء أن يعتقد بأن الشعر جاذب للجنون وحده،بل هناك مواد أخرى تخلقُ الشعرَ،وتساعده على اكتساب خصائص بيولوجية على الورق وفي الصوت الغنائي الشبيه بالحُداء كذلك.

■وكنت تفيض مختلطاً ومتدفقاً بمواد غير الشعر بعد أن تركتهُ كطفل ((خَدَج)) وحيداً.

ـــ أنا لم أتخلَ عن الشعر،ولكنني لم أستمر برمي نفسي بمياهه.خرجتُ منه لأرتمي مثل سمكة على ترابٍ.لقد ذهبتُ لتجفيف مستنقعات أخرى في حياتي،لعلي أصل إلى مكان آمن،أقل تيهاً وتشتتاً.

■فعلت ذلك دون جدوى،وكأنك كنت تبحثُ عن عشبة الخلود مثلاً؟

ـــلم يكن الخلود عشبة كما كان يعتقد جلجامش أبداً.الخلود هُرمُونٌ داخلي،لا يمكنُ العثورَ عليه إلا في الحالات النادرة جداً جداً.أي أنه بروتين الطفرات الوراثية فقط.أنا كدت في لحظة ما من حياتي، أن أحصل عليه في مدينة (هرر) الواقعة في الشرق الإثيوبي.

فبعد أن أطعمني أولئك الرجالُ الأشداءُ قاتاً وزبيباً وجعةً من الفلفل الأحمر هناك،سرعان ما شعرتُ وكأنني أضع قدمي على طريق الخلود.

■إذا كان الخلود ليس إلا لذةً،فما الذي منع رامبو وهو البروتين المغناطيسي في جسد الشعر،من أن يتمكن من الحصول على ذلك، وكنت شاعراً حاكِماً؟!!

_ بوقُ السفينة النوستالجي.كان يدقُ برأسي بقسوة.فركبتُ البحر راحلاً إلى عدن،ثم لأحمل قدمي العاطلة للموت في مرسيليا.لقد كنت مثل ذئب مستوحد على حد تعبير هنري ميلر.

■تثيرك عبارة ميلر أكثر أم وصف جان كوكتو الذي قال عنك : جعلَ العالمَ يزدهرُ مثل عاصفة في نيسان؟

ـــ لا هذا ولا ذاك.وإنما تعجبني عبارتك أنت يا أسعد الجبوري:

((رامبو البروتين المَغْناطيسي في جسد الشعر)).

■قد لا يُستغنى عن هذا المديح الفاخر،ولكنك لم تخبرنا عن صداقاتكَ في دار الآخرة؟

ـــأنا منغمس بصداقتي مع سبارتاكوس كما رأيتم.ولكن صديقي الأعز هو الشاعر قيس بن الملوح. كلانا يقوم بزراعة ما يخصّه هنا.أنا بزراعة القات.وهو بزراعة الأمل،عسى أن يحظى بليلى العامرية بعد طول غياب. وهذا لا يمنعني بين الفينة والأخرى من أن أحظى بلقاء مع أديث بياف التي تسقي بصوتها نباتات هذه المزارع،لتقوى على تخزين اللذة،فيتَشَبَّعَ منها العابرون بنعال الريح من هذه المنطقة إلى الشمال البنفسجي.

■هل جعلتَ هذا المكان يوائمُ روح رامبو السماوية  الجديدة؟

ـــ لقد فتحتَ في الجدار الكوني نافذةً تطلُ على اليمن.من هنا أستطيع أن أنظرَ وأن أراقبَ وأن أبكي بفيض زائد،علّ دموعي تُطفئ ناراً ولو بحجم عود الثقاب.أنا أفعل ذلك،بعد أن وجدتُ آلهة الرحمة،وقد تخلتْ عن إنقاذ –اليمن- مسقط رأس العرب من التدمير.

■وهل تظننّ بأن معاشرتكَ للخرابِ في اليمن،سيُعيد لهُ سعادته المفقودة،ويخرجهُ من القبر الذي تحفرهُ له طائرات ((وناسه )) التحالف؟!!

ـــ السعادةُ على الأرض،هو أن تمشي حافياً،ولكن دون التنازل عن تعليق الخنجر المعقوف بخصركَ، أو بحزامِ العصر.

مقالات من نفس القسم