اللعب مستمر

محمد الفخراني

محمد الفخراني

في أحد مقالب الرعب بين زوجَين حديِثَي الزواج، خرجَت الزوجة العشرينيّة من الحمّام وهي تلفّ جسمها بمنشفة، واتجهت إلى غرفة النوم، دخلَت خطوة واحدة، فخرج لها زوجها من وراء الباب مرتديًا قناعًا على شكل مسْخ وحشيّ، شخرَت الزوجة أو شهقَت لا أحد يعرف، وتحوَّلَت إلى امرأة في التسعين، وسقطَت المنشفة عن جسمها الذي نقص إلى النصف وتكَرْمَش، الإنس يحبون الرعب، هم أفضل مَن يصنع مقالب مرعبة، نحن الشياطين تعلّمناها منهم، لكن مقالب الإنس هي الأكثر رعبًا، وتجمّد الزوج الشاب بمكانه وهو ينظر إلى العجوز التسعينيّة العارية، ارتعَب لكنه لم يتحوّل، ضحكَت التسعينيّة من المَسْخ الوحشي أمامها، هي نفسها التي شخَرَت أو شهقَت قبل ثوانٍ وقتما كانت في العشرين، انتبَه الزوج ونَزَع القناع ورماه، بَحْلَقَ في زوجته، عَصَرَ عينيه مرّات وهو يُمرّرهما على جسمها، وتلفَّتَ حوله يبحث عمّا يمكن أن يفعله أو يقتل نفسه به، رأى في مرآة التسريحة شابًا في العشرين يلبس تي شيرت أخضر داكن وشورت نبيتي، وعجوزًا تسعينيّة عارية، التقت أعينهما هناك، ضمّت العجوز فخذيها وغطَّت صدرها بيديها، وصرخَت فيه: “مَن أنت؟”، التفَتَ إليها وفتح فمه ويديه، وقعَت عيناه على صدرها، فانحنى والتقط المنشفة، يلفّها حول جسمها ويقول: “أنا آسف، أنا آسف”، وهي تقول: “مَن أنا؟”، والرعب به شيء من اللعب، واللعب به مَسٌّ من الرعب، يتقابلان في هامش مشترك مرعب لعوب، وارتعش جسم التسعينية المسكينة، لم يَعُد بإمكانها الوقوف، حاول أن يضمّها إليه: “أنا آسف، أنا آسف”، ابتعدت عنه خطوة، “مَن أنت؟ أين أنا”، وتلفَّتَت حولها، مشت إلى كرسي قريب، كادت تسقط بعد خطوة، لحقَ بها وسنَدَها تحت ذراعها، “آسف، أنا آسف فعلًا”، جلست في الكرسي، وجلس على طرف السرير بمواجهتها، بينهما سنتيمترات، تنظر إلى الأرض، وجهها متغضّن، شعرها أبيض هَشّ، شفتاها ناشفتان، ساقاها رفيعتان، ظهرها مُقَوّس، ويداها مضمومتان بين ركبتيها، ارتعش نِنّ عينه لمّا رأى فيها لمحة من جمال قديم، وهمس: “أنا آسف”، اللعب والرعب من أقدم رغبات الإنس ومشاعرهم، لا يتوقفون عنهما أبدًا، وماهرون في المزج بينهما، الإنس ملؤوا العالم لعبًا، وملؤوه رعبًا، نظرَت التسعينيّة إلى الشاب العشريني، زوجها، وقالت: “أنا لا أذكر أيّ شيء، مَن أنا؟ مَن أنت؟”، ظَلّ ينظر في عينيها ثوان، وقال: “أنا.. أنا زوجك”، “زوجي؟”، “نعم، زوجك”، ونَطقَ اسمه لها بتمَهُّل، رددَّتْه وهزَّت رأسها ببطء يمينًا ويسارًا، نظر في الأرض لحظة، وسألها: “لا تذكرين مَن أنت؟ ولا اسمك؟”، رأى في عينيها لا شيء، نَطَقَ اسمها بحروف متقَطِّعة، هزَّت رأسها بنفس الطريقة التي فَعَلَتْها مع اسمه، تأمَّلها ثوان، وقال: “أنا آسف”، نظر إليهما في مرآة التسريحة، ثم عاد إليها، وقال: “أنا وأنت في شهر العسل”، ولم يستطع مَنْع ابتسامة خفيفة: “هذه ليلتنا الثالثة بعد الزفاف، هل تعرفين معنى أني وأنت متزوّجان، وما هو شهر العسل؟”، رفعَت كتفها الأيسر حتى لامَسَ جانب رقبتها وأبقَته لثانيتين ثم أنْزَلَته، ابتسم وقال: “هذه حركتك لمّا تقولين نعم ولا في نفس الوقت”، مرَّرَ عينيه على جسمها: “أنتِ لستِ أنتِ، حقيقتك أنك شابة في الثالثة والعشرين، صنعْت فيكِ مَقلب رعب فحَصل.. أنت في الثمانين أو التسعين؟ لا أعرف، أنا مَن فعلْت هذا بكِ”، نظرت إلى جسمها، والتفَتَت إلى مرآة التسريحة، تأمَّلَت وجهها، لمست ملامحها بيديها، وهى تتساءل: “في العشرين؟ في التسعين؟”، نظرت إليه: “ما هذا..؟”، قال: “جنون، لكنه حدث”، وأعرف إنسًا يعشقون المشي في الأماكن المرعبة، والتعرُّض لحكايات ومواقف مرعبة، الإنس يمكنهم تحويل أيّ مكان إلى رعب، أو لعب، وأحيانًا يُسَمّون القتل لعبًا، بعض ألعابهم هي بالأساس للقتل، أو تؤدي إليه، وضمَّت التسعينيّة ذراعيها حول جسمها، وقالت: “أنا بردانة”، نهض زوجها العشريني وضمَّها إليه: “أُدفئكِ حالًا”، فتح الجزء الخاص بملابسها في الدولاب، شَمَّ عطرًا خفيفًا ممزوجًا برائحتها الشخصيّة، نقَلَ عينيه بين ملابسها، نظر إليها خلفه، وكانت تنظر بعيدًا في لا شيء وتضمّ ذراعيها إلى صدرها، انتبَه إلى حجمها الذي نقص وفكَّرَ أنّ الملابس لم تَعُد تناسبها، حتى القِطَع الداخلية، سَحَب من الدولاب فستانًا قطنيًّا قصيرًا لونه برتقالي، ومعطف خفيف قرمزي فاتح، وعاد إلى مكانه بمواجهتها، وضع الفستان والمعطف على ركبته، وقال لها: “الملابس ستدفئك”، ضمَّت ذراعيها أكثر إلى جسمها، تأمَّلها لحظة، وقال: “أساعدك”، وضَع الملابس بجواره: “سآخذ المنشفة”، مَدّ يديه ناحيتها، تراجَعَت سنتيمتر، “لا تخافي، أفكّ المنشفة، وبعدها ألبسك فستانك”، انتظر ردّها، أومأ لها مرّتين ليشجّعها، لم تردّ، نهض وبدأ يفكُّ يديها عن جسمها، أغلقَت قبضتَيها، نظر في عينيها، وقال: “أنا.. أنت”، رأت صورتها في نِنّ عينه، استرخَت يداها، فَكَّهما، ومدَّدَ ذراعيها إلى جنبيها، وفَكّ عُقدة المنشفة، انتفض جسمها، همس قُرب أذنها: “لا تخافي، حبيبتي”، سحب المنشفة عن جسمها، وضعها على السرير، دفَسَت يديها بين ركبتيها المضمومتين، وقالت: “بردانة”، “حالًا حالًا”، وأَمسكَ الفستان البرتقالي، فَرَدَه أمامها، وتأمَّله ثوان، سحب إحدى يديها من بين ركبتيها، وأدخلَها في كُمّ الفستان، تجاوبَت معه، أو تركَت نفسها له حتى ألْبَسها الفستان والمعطف، جلس أمامها، أمسك إحدي يديها وقبَّلها: “أنا آسف، سأُصلح هذا.. تشعرين بالجوع؟ أُجهّز لك سندويتش حالًا”، وأجمل أماكن العالم تحمل رعبًا ما بداخلها، البحر، الغابة، الصحراء، الجبال، ربما أحد أسباب حبّنا لها وجمالها أنها تحمل بداخلها هذا النوع الخفي من الرعب، حتى لو أننا لم نَرَه بأعيننا، لكنه موجود ويلمسنا بطريقة ما، عاد الزوج بعد ثلاث دقائق ومعه سندويتش بيض مقلي مع رشَّة كمّون، قدَّمه لزوجته التسعينيّة وجلس أمامها على طرف السرير، أكلَت قضمة ونظرَت إلى السندويتش، قال لها: “حضّرْته بالطريقة التي تحبّينها”، مدَّت يدها بالسندويتش عند فمه، وقالت: “خُذ لك.. قضمة”، يبتسم ويتأمّل عينيها لحظة، ويقول: “هذا ما كنت تفعلينه دومًا”، “ماذا..؟”، “تَمُدّين لي يدك بالسندويتش وتقولين خُذ لك قضمة”، “وماذا؟”، “طبعًا كنت آخُذ قضمة بعدك، لم أُضيِّع الفرصة أبدًا”، ولا شيء يمنع الإنس عن اللعب، ولا حتى احتماليّة الموت، يبدو أحيانًا وكأنهم يبحثون عن الموت في اللعب، أو أنهم يلعبون بكل ما فيهم حتى لو أدَّى لموتهم، بعدما انتهت الزوجة التسعينيّة من السندويتش، قال لها زوجها العشريني: “الآن عليّ أن أستعيدك في أسرع وقت، أقصد أُعيدكِ إلى عمرك الحقيقي، ما رأيك؟”، أومأت مرّتين، كان قد عَرَض عليها أثناء تناولها السندويتش مجموعة من صور وﭭيديو لهما معًا، بينها حفل زفافهما، ورأت نفسها شابة، قال: “يُفترض أن أُرْعِبك من جديد كي تعودي إلى العشرين”، هزّت رأسها، كانت ما تزال على كُرسيّها وهو بمواجهتها على طرف السرير، وبجواره صورهما، نهضت وهي تقول: “تعبانة، أنام”، لَمَلَمَ الصور في جانب السرير، وساعدها لتستلقي على جنبها، وجلس بجوارها، يمسح على رأسها، مرَّت ثوان، رأى عينيها تلمعان وسمعها تنطق اسمه، توقفَت يده على شعرها، وقال: “أنا…”، اختفت لمعة عينيها ورأى فيهما لا شيء، أغلقتهما لتنام، فقال: “أنا.. أحبك”، هل صحيح أنّ اللعب قريب جدًّا من الموت؟ كأنما يحمل بداخله بذرةً ما، مجرَّد خطأ بسيط، التفاتة، حركة صغيرة، حتى الألعاب الذهنيّة، أو التي لا تتطلّب حركة، يمكنها أن تُفاجئنا، ولماذا الموت أثناء اللعب مرعب لهذه الدرجة؟ فكَّر الزوج الشاب أنّ عليه تجهيز مَقْلَب بأسرع وقت لزوجته التسعينيّة قبلما تموت، ولا بد أن يكون مَقلبًا خفيفًا حتى لا يتسبّب في موتها بدلًا من إعادتها إلى الثالثة والعشرين، تركها تنام ثلاث ساعات، ما تزال على جنبها نفسه، جاء من ظهرها وبدأ يوقظها، هَزّ كتفها ونطق اسمها، هزّها مرّة أخرى، فتَحَت عينيها على جمجمة بمواجهتها فوق الوسادة، شهقَت التسعينيّة وتحوَّلَت إلى فتاة في الثامنة عشر من عمرها، رفَسَت الهيكل العظمي المُمدَّد بجوارها وقفزَت خارج السرير، ووقفت تبَحْلق، سمعَت صوتًا يقول لها: “لا تخافي، هيكل بلاستيك”، نظرَت لصاحب الصوت، الزوج العشريني، يقف قريبًا من باب الغرفة، تأمَّلَته لحظة كأنما تتذكّره، وقالت: “ماذا حدث؟”، قال: “يبدو أنك صغرْتِ في السنّ”، ولاحَظَ جسمها الذي ملأ ملابسها بشكل لطيف ومُغْوٍ، لمسَت وجهها بيديها: “ماذا تقصد؟”، “انظري في المرآة”، وقفت أمام مرآة التسريحة، تأمَّلَت وجهها، ومرَّر هو عينيه على مؤخرتها الشابة، اقتربَت خطوتين من المرآة، دارت حول نفسها لتتفرّج على جسمها: “كأني في الثامنة عشرة، أنا في الثامنة عشرة فعلًا”، قال: “قبلما نتقابل بسنتين”، نظرت إلى الهيكل العظمي: “مَقلب؟ هو السبب؟”، “أنا السبب”، نظرت إلى نفسها في المرآة، قال لها: “ما إحساسك بعدما صغرْت سنتين؟”، “لا أعرف..”، قالت والتفتت إليه: “أحاول أن أعرف، كان يُفترَض أن يكون ردّ فِعلي مختلفًا، صحيح؟”، اقترب منها ووقف أمامها، قال: “ما شعورك ناحيتي الآن؟”، فكّرَت لحظة: “أشعر بشيء من غرابة، وأنت؟”، “بالنسبة لي أنت كما أنت”، “لكن.. هل ممكن لهذا أن يحدث فِعْلاً بسبب مَقْلَب؟”، “حدث من قبل.. معكِ”، “معي؟”، “لا تذكرين أنك قبل دقائق كنتِ في التسعين من عمرك؟”، “في التسعين؟”، “بالأمس عملْت فيكِ أول مقلب فانتقلْت إلى التسعين، وعملْت مَقْلب الهيكل العظمي لتعودي إلى عمرك الحقيقي لكنك نزلت إلى الثامنة عشرة”، “ولماذا لا أتذكّر أني كنت في التسعين؟”، لم يشأ أن يقول أنها كانت شبه فاقدة للذاكرة، وبالتالي على الأرجح لا يمكنها أن تتذكّر، قال: “ربما بسبب الانتقالة الكبيرة من الثالثة والعشرين إلى التسعين”، “أو لأني فقدْت ذاكرتي وقتها لأيّ سبب”، “لا، تذكَّرْتني، ولمّا عملْت لك سندويتشك المُفضَّل قلتِ لي جملتك المعتادة، خذ لك قضمة”، مسحَ على رأسها، وقال: “سأصلح كل شيء”، فكّرت لحظة، وقالت: “أستغرب أني نزلْت إلى الثامنة عشرة ولم أنفعل كما يفترَض، أشعر كأني عرفت ما حدث لي قبلما أنظر في المرآة”، “لأنّ عقلك يعرف أنك مرَرْت بالتجربة من قبل”، “ااممم، انتقلت إلى التسعين، ولا أتذكّر أني كنت هناك”، “المهمّ هنا أنك تتذكّرين قصتة حبّنا وزواجنا رغم أنك نزلْت إلى الثامنة عشرة، قبلما نتقابل”، قبَضَت على يديه، وسألته: “هل عاملتَني بلُطْف وأنا في التسعين؟”، أومأ بابتسامة، “وكنت تحبني؟”، “كنت أحبك، والآن أنا أحبك”، “وتحبني أيًّا كان ما أتحوّل إليه في المرّة القادمة؟”، “أحبّك مهما كنت في أيّ وقت في أيّ مكان”، أحاط وجهها بيديه، وقال: “لا تقلقي.”، “تقريبًا، غير قلقانة، لكن غرابة.. غرابة حلوة”، “أنا آسف، كانت لعبة”، “وأنا أحب اللعب، لا مشكلة، والآن ماذا؟ لعب أكثر، صحيح؟”، “نقضي يومنا بشكل عادي، وأختار لحظة أُفاجِئك فيها بمَقلَب”، نظرت إليهما في مرآ التسريحة، وقالت: “أو.. ما رأيك لو نبقى على حالنا يومان أو ثلاثة؟ أو أسبوع؟”، “تقصدين نبقى على حالك أنت، تريدين اللعب”، “اممم، نلعب، لم لا؟”، ابتسم، وقال: “نلعب، ثلاثة أيام”، وأكثر منْظر مرعب لي هو مدينة ملاهي مهجورة، أراها في سفري بين مدينتي التى أعيش فيها وأخرى ساحليّة أزورها من وقت لآخر، تنكشف مدينة الملاهي لي لمّا تمُرّ السيّارة فوق كوبري قريب منها، ألعابها متوقّفة، وساكتة، وبها بُقَع حشائش طويلة وحادة، كلها معزولة في بُعْد آخر، حيّة ميّتة، كأنما لا شيء مرعب أكثر من مكان لعبٍ مهجور، وفي اليوم الأول من أيامهما الثلاثة، تشاجَرا  بلا بسبب، وذكَّرَته أنه ليس زوجها فقد تزوّجا وهي في الثالثة والعشرين، والآن هي في الثامنة عشرة، رَدّ بأنهما رغم ذلك متزوجين، قالت إنها بالأساس لم تُقابله بعد، فقال إنهما تقابلا منذ ثلاث سنوات، في اليوم الثاني اقترحَت عليه أن يمارسا الحب، قالت: “مجرّد اقتراح، لعبة داخل اللعبة”، فقال يخشى أن تؤثّر ممارستهما الحب على تَحوُّلها لمّا يعمل فيها المَقْلب، في اليوم الثالث قاوم رغبته في ممارسة الحب معها، وقضيا اليوم في الرقص والطبخ معًا ولمسات خفيفة، ومشاهدة أفلام، ومَقاطع مُضحكة لمقالب الرعب، وفي صباح اليوم الرابع أيقظ الشاب العشريني زوجته، فتاة الثامنة عشرة، وهو يلبس قناعَ مسخ، فضحكَت ونزعَت القناع عن وجهه، وفي منتصف النهار، كان مُتعجّلًا، حاول مرة أخرى، وضحكَت من جديد، وعند منتصف ليل اليوم الرابع، وقد قرّر الزوج العشريني ألّا يعمل مَقلبًا آخر هذه الليلة في زوجته فتاة الثامنة عشرة، كانت هي قد قرَّرَت، مقلبها فيه.. فتحوَّل إلى رجل في بداية الستينات، وليست مصادفة أنّ بيت الرعب والألعاب معًا في مدينة الملاهي ويُشكّلان متعتها، اقترحَت فتاة الثامنة عشرة على زوجها الستّيني أن يَبْقيا على حالهما ثلاثة أيام، فوافق، أصرَّت في اليوم الأول ليَخرجا معًا ويقضيا الوقت كله في الشوارع، وفي اليوم الثاني وافقَت على إصراره بألّا يمارسا الحب إذا وافَقَ أن يقضيا الليلة عاريان في السرير، وفي اليوم الثالث قالت له إنها تستلطفه، وطلبَت أن يَبْقيا على حالهما أسبوعًا، لكنه اعتذر لها بلُطْف، حتى لمّا طلبت يومًا واحدًا، وقال إنه سيضطرّ أن يُحضّر لها مَقلبًا إذا لم تُحضِّر له واحدًا، قبَّلَتْه على فمه، وقالت: “صعب عليّ التفريط في لُطْفك وحلاوتك”، لحظة الرعب مكثفة، كأننا عِشْنا حياتنا كلها فى رمشة عين، أو متنا موتنا كله فى لَمْحة، شعور غير الموت والحياة، لامع وعميق وخارج عن الزمن، مقلب فتحوَّل إلى كنجارو، ربما استجاب جسم الكنجارو في الحال لمَنْظر النمر، ولم يُعْطِ العقل الإنسي فرصة لينْتَبِه أو يُحَلِّل، كانا في صالة البيت، بحْلَقَت فيه وتراجَعَت خطوتين، ثم ابتسمَت، وضحكَت، وكان هو، كنجارو شاب بفراء برتقالي بنّي، يقف على قدميه الخلفيتين ويتفرّج على نفسه بعينين مذعورتين، يتحسّس جسمه، وينظر إلى ذيله، حاول أن يتكلّم فخرجت منه همهمات كنجارو، بحْلَقَ فيها، أدركَت من حركاته ونظرته وهمهماته أنه يعرف نفسه، قالت: “أنت تعرف مَنْ تكون، صحيح؟ تعرف أنك تحوَّلْت كنجارو لكنك لست كنجارو”، أومأ وحرّك يديه في الهواء، “وتعرف مَنْ أكون”، أومأ مرّتين، ضحكَت، “تحوَّلْت كنجارو، يعني أرعبْتُك جدًّا”، رقصَت وهي تدور حول نفسها، طوَّحَ يديه في الهواء وأصدر أصواتًا، قالت: “أعرف أعرف، أدَبِّر لك مقلبًا في أقرب وقت، لكن، أرعبك على أنك كنجارو؟ أو على أنك أنت أنت؟”، ضرب الهواء بيديه، قالت: “أرعبك على الناحيتين، لكن مَن يضمن أنك لن تتحوَّل إلى نمر أو قط أو فيل أو هدهد؟”، نظر إلى جسمه وذيله، مشى خطوات وهو يَقْلب بعض الكراسي متعمّدًا، قالت: “لا تصنع فوضى، لا تفسد عليّ شهر العسل”، وضحكت وهي ترقص له، نظر إليها وهزّ رأسه ويديه بسخرية من نفسه وهو يغمغم، قالت: “لا تقلق، سأتصرّف، ولا تنس أنك مَن بدأ هذا كله”، فتح يديه في الهواء، قالت: “أعرف أنها لعبة، وعلى فكرة، يومها كنت ناوية لك على مَقْلب لكنك سبقتني”، مرَّرَت عينيها عليه ببطء من أعلى لأسفل، ومالت جانبًا لترى ذيله، وقالت: “تعرف أنك جميل؟ أول مرة أقابل كنجارو”، أشار إلى صدره وهزّ رأسه يمينًا ويسارًا كأنما يقول “لست كنجارو”، فقالت: “لكنك كنجارو”، “لست كنجارو”، “لكنك فعلًا كنجارو”، قفز بمكانه مرتين وهو يضرب الأرض بقدميه، قالت: “حركات كنجارو”، يهدأ، وينظر إليها، فتبتسم له، وتقترب منه: “ممكن تحضنّي؟”، ظَلّ ينظر إليها، اقتربت أكثر، بينهما سنتيمترات قليلة، “أحضنّي”، رفع يديه وحَضَنها، دخلَت فى حضنه أكثر، مرَّرَت يدها على فروه، “جميل، فاتن، ممكن أحتفظ بك يومين أو ثلاثة؟ أقصد أن تبقى كنجارو”، ضرب الهواء بيديه وغَمْغَم ورفع ذيله، ضحكَت: “فهمْت، خلاص، في أقرب وقت أعمل لك مَقْلب يرعبك”، ومرَّرَت عينيها على جسمه: “أنت فِعلًا كنجارو رائع بجدّ، تعال أفرَّجك على نفسك”، أمسكَت بذراعه ومشيا إلى غرفة النوم، وخلال المسافة تفرَّجَت على قفزاته الصغيرة وهي تقول: مشيتك حلوة”، وقَفا متجاورَين أمام مرآة التسريحة، قالت له: “أنت رائع، صحيح؟”، أومأ وهو يُمَرِّر يده على وجهه وفرائه، قالت: “ابق معي كنجارو يومين أو ثلاثة، واللعب يحلوّ”، التفَت إليها، ضحكَت وقالت: “أنا أمزح حبيبي.. لكن..”، واتّخذَت وضْع لاعب ملاكمة بمواجهته: “على الأقل لاعِبني”، وبدأت تُوجِّه لكماتها ناحيته دون أن تلمسه: “لاكِمْني..”، ضرَبَته في صدره ضربات خفيفة، “يا زوجي الحبيب كنجارو”، بدأ يُلاكمها وهو يمُدّ يديه نحو وجهها ولا يلمسها، يتقافزان ويدوران حول بعضيهما مع توجيه لكمات ليست إلّا لمسات خفيفة، يتحرّكان في زوايا الغرفة، الكنجارو بقفزات رشيقة، وتُجاريه فتاة الثامنة عشرة وهي تضحك وتمزج في حَرَكتها بين الرقص والتقافز، وتحضنه بين لحظة وأخرى، أفكر أنّ واحدة من ذروات الرعب ليست ظهور أشياء مرعبة، وإنما اختفاء أشياء عادية معتادة نراها كل يوم، توقّف الكنجارو وفتاة الثامنة عشرة عن لعب الملاكمة، وسألَتْه: “جوعان؟”، هزّ  رأسه يمينًا ويسارًا،  قالت: “ما رأيك نتفرّج على فيلم في السرير؟”، فتح يديه، اختارت فيلمًا رومانسيًّا وشغَّلَته، وقفزت إلى السرير، تمدَّد هو على الأرض مثل كنجارو أصيل، جسد الكنجارو هو مَنْ تَصرَّف هذه المرّة، أشارت له: “تعال جانبي”، انتبه وصَعَد بجوارها، تصرَّف بعقله هو وليس جسد الكنجارو، جرَّبَ عدَّة أوضاع حتى ارتاح على جَنبه الأيسر، ذيله إلى الخارج، ابتسمَت وهي تنظر في عينيه، مرَّرَت يدها على وجهه، أغلق عينيه ثانيتين وفتحهما وهو يُخرج نفسًا عميقًا، قالت له: “أحبك مهما تكون”، وألصقَت نفسها به، يتفرّجان على الفيلم حتى ناما، لا يمكن التوَقَّع إلى أين يمكن للرعب أن يصل، ولا اللعب، وماذا عن تلك الرغبة الغامضة لمشاركة اللعب، ولو للحظة، مع مجموعة نصادفهم يلعبون في شارع أو مَمَرّ؟ فتح الكنجارو عينيه ولم يجد فتاة الثامنة عشرة بجواره في السرير، رأى صورته في مرآة التسريحة، انتفض بمكانه يلمس جسمه بيديه، تذكَّر الشاب العشريني أنه في جسم كنجارو، تأمَّل صورته وقال في عقله :”أنا كنجارو، كنجارو”، تلفَّتَ حوله يبحث عن زوجته، فتاة الثامنة عشرة، ناداها فخرجَت منه همهمة، غادر السرير بقفزة واحدة، وتفرَّج على خطواته الرشيقة، تقافز مُعجبًا بنفسه، كأنما يستغل وجوده في جسد كنجارو، خرج إلى الصالة، لم يجد زوجته، وإلى غرفة نوم أخرى، لم تكن هناك، وإلى المطبخ، يمشي باتجاه الحمّام، يسمع صوت مياه الدشّ، ناداها على طريقة الكنجارو، وصل إلى الباب الموارب، صوت المياه، دفع الباب برفق، ودخل، لم يجدها، غَمْغَم بطريقة الكنجارو كأنما يقول: “أين اختفت”، لم يغلق الدشّ، وبمجرَّد خروجه من الحمّام، رأى نمرًا يقفز باتجاهه من كرسي قريب، شَخَرَ الكنجارو وتحوَّل إلى إنسي في العشرينات، استعاد الزوج الشاب عمره الحقيقي، كان عاريًا، وفتاة الثامنة عشرة تقف أمامه مرتدية فراء النمر، خلَعَت عنها الفراء، وقالت له: “أهلًا بعودتك”، تحسَّس جسده ونظر إلى نفسه في مرآة نصفيّة بالجدار، مشى إلى غرفة النوم، وقف أمام مرآة التسريحة، دخلَت فتاة الثامنة عشرة، توقّفت بجواره، وسألته: “أنت الآن في عمرك الحقيقي؟”، قبَّلها في فمها سريعًا عميقًا واتّجَه إلى الدولاب، أخرج تي- شيرت وشورت ولبَسهما، قالت له: “لكني ما زلت في الثامنة عشرة”، قال: “أعمل لك مَقلبًا يعيدك لعمرك الحقيقي”، “غير مضمون”، “سننجح هذه المرّة”، قالت: “أو.. ما رأيك لو نبقى على حالنا يومين أو ثلاثة؟”، “أنت لا تشبعين من اللعب”، رفعت كتفها الأيسر حتى لامَسَ خَدَّها وأبقَتْه ثانيتين ثم أنْزَلَته، ابتسم وقال: “موافق..”، وقَضَيا النهار في سماع الموسيقا، واللعب داخل البيت، أعدَّ لها سندويتش البيض المقلي بالكمون، أخذت قضمَة ومدَّت له يدها بالسندويتش، وقالت: “خُذ لك قضمة”، أخذ قضمَتَه، لفَّتْ ذراعيها حول عنقها، السندويتش ما زال بيدها، وقالت: “هل تفكر فيما أفكر فيه؟”، وقرَّبَت فمها من فمه، قال: “أفكر، لكن… لا”، اقتربَت منه أكثر: “لماذا لا..؟”، وقبَّلَت فمه الذي لم يتجاوب معها، قالت: “لا تقاوِم، أكيد أني أوحشتك، أنت عُدْت من مسافة بعيدة، كنت كنجارو، ورجل في الستين”، أكمل على كلامها: “وجئت لك وأنت في الثامنة عشرة بدلًا من الثالثة والعشرين، وقبلها كنتِ في التسعين”، “أنت تستحقّ مكافأة”، قبَّلَتْ فمه: “استغِلّ الفرصة، لن تراني ثانية في الثامنة عشرة، وربما أتحوّل في مَقْلب الرعب إلى عنزة أو نمرة”، نظر في عينيها: “أعرف أنك ستعودين إليّ، وفيكِ كل ما أحب”، رفعَت كتفها الأيسر بطريقتها، قال: “لن تعرفي أبدًا كم أحب هذه الحركة منك”، سحبَت ذراعيها من عنقه، وقرَّبَت يدها بالسندويتش إلى فمه، وقالت: “خذ لك قضمة”، اللعب والرعب يُخرجان أفضل وأسوأ ما فينا، ضَعْ مجموعة فى موقف مرعب، أو لعبة، وانظر كيف يتصرَّفون، تَفَرَّج الزوج العشريني وفتاة الثامنة عشرة ليلًا في السرير على فيلم كوميدي، وخلاله وضعَت يدها على رُكبَته وخربشتها خفيفًا بأظافرها، فانتصب جسمه كله وبحْلَق في الفيلم، وأعاد إليها يدها، فأعادتها إلى ركبته، ابتلع ريقَه الناشف وأعاد اليد المثيرة، قالت: “كان يجب أن أُبْقيك كنجارو”، أغلق عينيه، خربَشَت جانب ركبته بقوة، وشعرَت بارتجافة جلده، قالت: “أعرف أنك تحترق من جوّاك”، “وأتقطَّع”، قالها من دون أن يُحوِّل عينيه عن الفيلم، ابتسمَت، وقالت: “تعرف؟ أنا الآن في الثامنة عشرة قبلما نتقابل، وأحبك”، أعطته ظهرها وانسحبَت تحت الغطاء، تساءلت مع نفسها، لماذا تذكَّر بعد عودته إلى العشرين أنه كان في الستّين، ولم تتذكّر هي أنها كانت في التسعين بعدما عادت إلى العشرين، لم تشأ أن تسأله عن هذا، قالت: “لمّا كنت في التسعين، هل تذكَّرْتك فعلًا ولو لحظة؟”، التفت ناحيتها، وقال: “تذكَّرتِني، فعلًا”، وبدأ يمسح على أطراف شعرها، اعتبرَت أنها لم تَنْس وقتما كانت هناك، وعلى أيّ حال، عزمَت ألّا تفقد ذاكرتها لمّا تصل إلى التسعين، وما بعدها، لن تنسى كلمة واحدة، ولا موقفًا واحدًا، ابتسمَت وأغلقت عينيها.

استيقظَت فتاة الثامنة عشرة قُرب السابعة صباحًا، زوجها الشاب مُستَلْقٍ بجوارها، نظرَت إليه، عيناه مغلقتان، غادرت السرير، حتى ممارسة الجنس فيها لحظات خاصة من الرعب واللعب، تطلَّعَت الفتاة إلى نفسها في مرآة التسريحة، ثم مشت إلى المطبخ، توقفت أمام باب الثلاجة، وخطر في بالها ألّا تنسى ما عزمَت عليه الليلة الماضية، ألّا تنسى شيئًا مهما تقدَّمَت في العمر، فتحَت باب الثلاجة، سمعَت فرقعة قوية فوق رأسها، صرخَت وتحوَّلت إلى شابة في الثالثة والعشرين، نظرَت فوقها فوجدَت كرة بلاستيك شفافة ممزّقة، وسمعَت زوجها يقول لها: “أهلًا بعودتك”، التفتَت إليه في مدخل المطبخ، ابتسم وقال: “بالضبط كما كنتِ قبل أول مَقلب”، دارت بمكانها تتفرّج على نفسها، هرولَت إلى غرفة النوم، وقفَت أمام مرآة التسريحة، دارت إلى اليمين واليسار، جاء ووقف بجوارها، استدارت إليه، وقالت: “لكننا اتفقنا أن أبقى في الثامنة عشرة يومين أو ثلاثة”، قال: “وافَقْت لتَطْمَئِنّي وأُفاجِئك بالمَقْلب وينجح من أول مرة”، “خدعْتَني..”، “لم يعجبك؟” فكَّرت لحظة، وابتسمَت. 

قضى العروسان أسبوعًا في عمريهما الحقيقيَّين، وعند منتصف الليل، كان هناك مَقلبَين موزَّعَين في البيت، ولا أحد يعرف أيّهما سيحدُث أولًا، وماذا يحدُث عندها؟

روائي وقاص  مصري صدر له: بنت ليل  ـ مجموعة  قصصية ـ هيئة قصور الثقافة فاصل للدهشة ـ رواية ـ دار…

مقالات ذات صلة

أقسام الموقع