ناهد السيد
العزلة هذبتنى، شذبتنى مثل قلم رصاص كلما انكسر سنه، عاودت نحته غير مبالية بجسده الهزيل، هكذا صرت كعود القصب لينا هشا.
كلما هبت علىّ رياح المرض.. انحنيت حتى تلامس رأسى مملكة الموتى
ليس سيئا على الإطلاق أن أنحنى مثل عود القصب الهش، لكى تمر الزوبعة.
اعتدت أن أكون لينة للدرجة التى تجعلها تتخطانى وتمر بسلام.
المؤلم حقيقة هو ما أتلقاه من مشاعر المحيطين بى، يقينهم الذى لا يدع مجالا للشك بأنى قادرة على الانتصاب من جديد، ورفع رأسى وثباتى مرة أخرى.
لقد اعتادوا الأمر أكثر منى، لم يدعوا لى مجالا للخذلان ولو مرة.
شعور مؤلم أن ترى كل من حولك قد فقدوا اللهفة والخوف والقلق.. تلك المشاعر التى يحتاجها كل مريض مهما كان قويا.. إنها مبرره الوحيد للصمود والبقاء عند حسن الظن.. أنها ضمنيا معيار الحب.
لقد اطمأنوا لقدرتى ووثقوا فى.. وماذا عنى؟ ألم أستحق أن تلقوا لى بفتات لهفة وبعض من شرائح الخوف لأتغذى عليها.. فتمنحنى بقاء مؤقتا.
لقد صارت قوتى سبب عذابى.. صرت متوقعة وعادية.. لم أشبه حتى أيام الثلاثاء التى تمر ثقيلة لأننا نحسب لها ألف حساب.
صرت كيوم عادى جاء بلا حماسة، ولا ترتيب، جاء لأنه لابد أن يجىء، وحدى أتلقى الزوبعة لا أكل ولا أمل.. ولا ألقي اللوم على أحدهم.
اعتبرتها لعبة مسلية.. وهى أعجبت برقصتى.. أداعبها أتمايل، وأنتصب وأفرغ صراخى فى فوهتها، وتبتلعنى للحظات ثم تلفظنى.. لا شىء جديد يحدث سوى أننا تآلفنا سويا صرنا رفيقين، حتى أصبحت تأتينى أكثر من ذى قبل، وبلا استئذان، وبدون مقدمات.
يسعدها أن أرقص لها وحيدة بلا سند.. كم تشعر بقوتها.
فلا أحد يقوة على الوقوف بجوارى وقت مهب الريح.
ستلتهمه ثم تلتفت إليّ.. إنها تأتينى أنا.. الخصومة بينى وبينها فقط.. هى تصر على أداء واجبها بكل إخلاص، وتشعر بالزهو كلما انحنيت ساجدة
ولا أظنها تنوى اقتلاعى من الجذور.. هى تفضل اللعب هكذا فقط.
أما أنا فقد أحببت استعراض قدرتى فى الانحاء والتمايل، أثبت لنفسى كل مرة أنى اعتدت الأمر وأوهم نفسى بانتصار ساذج
وأحيانا أستدعيها.. كلما امتلأت بالصراخ والألم، لتبتلع صرخاتى مع زئيرها دون أن يلحظ أح ، فأبقى قوية فى عيونهم كما أنا دائما.. المتحدية.. الصلبة.
لا يدركون أن الصلب ينكسر، والمنتصر دائما يأتيه يوم ويتهاوى، والقوى مهما كانت قوته يحتاج الى بعض الشك فى قدرته كى يستمر.
هناك مغريات خفية تحفزنى لإنهاء الأمر، فكلما انحيت على تراب الارض يهمس لى الموتى قائلين: أنت تنتمى إلينا.. تعالى!
لن تهاجمك الريح هنا.. لا مشكلة لدينا سوى الظلام وقد اعتدنا عليه
دعينا نسحب جذورك ونمتصك فى عالمنا
بدلا من أن تضعفى يوما وتنجح الرياح فى اقتلاعك، وتلقى بك على جانب الرصيف تدهسك السيارات..
لماذا تتغاضين عن السوس الذى نخر جسدك؟.. كيف تقبلى بخداع طفل ذات يوم كان محباً للقصب وتتسبى فى سقوط دموعه البريئة لمجرد أن حظه العثر أوقعه فى عود قصب نخره السوس؟
كان يبدو جميلا من الخارج.. فات الأوان ولن تنجحى فى تنظيف نفسك من سوس الأرض.
إنه حى يرزق بداخك وأصبح جزءا منك
ولما أعود لأنتصب.. تخاطبنى السماء:
حمداً لله على سلامتك.. الرب سعيد بك ياعزيزتى لأنك تخطيتِ اختبارا عظيما.
التقطى أنفاسك واستعدى للاختبار القادم واحذرى أن تملى الاختبارات.. اعلمى أن معناها أنك فى مجال رؤية الرب.. وهذا أمر لو تعلمين عظيم.