ميمون حرش
يفتح باب سيارتي، يجلس إلى جانبي بكبرياء شهي، أَنطلقُ بسرعة، تمر لحظات دون كلام، أنسى أنّ أحداً معي، أنظر في مرآة سيارتي، ورائي سيارة مُحاذية، لستُ أدري لماذا بدت لي بدون سائق (تهيؤاتي التي لا تنتهي حين أتعب في عملي)، هو ينشغل بالبحث عن موسيقاه المفضلة من هاتفه، يستقر على أغنية أمازيغية لـِ خالد “إيزري”، تكسر الصمت المخيم، تنداح من حولنا “رالابويا”، راح يدندن معها؛ أغنية جميلة،لكن صوته نشاز..عكرها تَماماً.
تكلمتُ أخيراً : “ماهي أخبار ميمونت “
يصحح لي ” ثميمونت.. كم مرة أنبهك…”
(قال أنبهك، وليس أصحح لك.)
ثميمونت إحدى بطلات روايته الجديدة ( أصفر، أحمر،أزرق)، كلما ركب معي في السيارة، أو جالسني في المقهى( في كل مرة، ولمدة طويلة) راح يحدثني،بحرص شديد،عن انشغالاته بأحداثها، وثميمونت، الشخصية الوحيدة التي صرح لي باسمها.. وها هو، اليوم، تواتيه الشهية للحديث عن أصفره، وأحمره، وأزرقه أكثر، وبتفصيل جديد.
أغنية “إيزري” تصل لقفلتها الأخيرة، كأنه كان ينتظر أن تنتهي حتى يتكلم، تنحنح :
“أسِر لك أمراً، ثميمونت تشبهك كثيراً “،
قالها وضحك عالياً.. أسمع ضحكته،أنا لا أضحك، لم يسبق أن جاريتُ أحداً في ضحكه، فقط لأني أكره الضحك والضاحكين.. كنت أود أن أرى ملمح وجه، تحديداً، وهو يلقي إليّ سره، سرقت نظرة فعلا، ولولا السياقة، لتفرست فيه ملياً، حتى كأني أول مرة أراه، وبدا شخصاً لا أعرفه حين تمادى في ضحكه..
تابع كلامه، هذه المرة شبع من موسيقاه،وأخــرس هاتفه:
” ثميمونت حزينة مثلك،حزينة بشكل مقرف “.
انشغلتُ عنه بالتهيؤ للوقوف عند علامة (قف)، لم ينتظر رد فعل مني عن براءة “اكتشافه”، لم يكن يهمه الأمر، مشهد سينمائي أداه وانتهى الأمر بالنسبة إليه… أضاف :
” ثميميونت الشخصية الوحيدة التي حيرتني في روايتي الجديدة “
(ثميمونت حزينة مثلي… حزين أنا مثل ثميمونت)
هل هناك فرق.. أسأل ولا أضع علامة استفهام، لأن (السؤال ليس له)،أعرف رأيه،في هذا، تماماً،لكنه لا يعرف رأيي..
أيعني شيئاً أن تشبهني شخصية مُتخيلة في رواية بعيدة عن روايتي الحقيقية.. ! الإنسان ليس منه نسختان، هذا إيماني، ومافضل من تخريجات مجرد مسلسلات.
“حزين أنا.. الحزن وأنا جيران.”
أنا الطويل بقامتي، وخيباتي، يسعني قمقم الحزن،بل ويواتيني؛ حين أحزن تزول آلامي،ولمّا أفرح أستعد لصدمة كهرباء صاعقة،من دبابيس حياة بئيسة أعيشها “ضريرة”مثل قرارة بئر؛ لذا أقمع فرحاتي كلما هلّت، وأشتهي أحزاني، وإذا تأخرت أطلبها، أترقبها رقبة الأطفال للأعياد.
الحزن غراب يرافقني،أحبه ويشتهيني،لم يستأذني في مرافقتي مذ كنتُ، اختارني من بين الملايين، أنا شجرته المفضلة، لا يفارقني أبداً، ولأنه مني لم يسبق أن طردته يوماً، كلما حط على كتفي اليسرى ( يتحاشى يمنايَ أبداً) أربت على ريشه الناعم، فيفرد جانحيْه، وينتفخ، مزمجراً، مثل صخرة سيزيف، أحس به ثقيلا، فوق الكتف، لا أطرده،أنوء فقط دون ” أف”،بل أرضى عنه حتى عندما يطلق رذقه دون حياء( وهل تستحيي الطيور !)، يخترق مسام جلدي بثبات حين يحط فوق رأسي، وقبل أن يطير يتفرس في عيني ملياً، يبعد عني قليلاً،يحوم حولي، ويبدأ في العد، وحين يصل إلى (9) يطير ويتوارى،وأفهم رسالته،إنه يقول لي: ” سأعود لك”.ويعود الغراب، مرة ومرات.
هذه أمور يعرفها صاحبي عني، بل ويعرف تفاصيل كثيرة،طالما حدثته عن غرابي( طائري مختلف عن غراب إدغار آلان بو)، يعرف هذا عني، لستُ أدري كم مرة حدثته عن “ندوبي”، في خاتمة حكاياتي يعلق بكلمة يتيمة : “بويْندبَانْ”.ولا يضيف حرفاً واحداً.. كان طفلا، يتمرغ في رمل ندوب حكاياتي، يبني بها قصراً في مخيلته،يلملم بصدفات حزني شتات ما يسمع، ليشكل منه نطفة على شكل ثميمونت.
غرابي أوحى له بشخصية ” ثميمونت”، استمدها بطلةً من نسغ حزني،صاغها على مقاسي،لم يطلب مشورتي، (يشبه غرابي الأبقع في هذا)، يقول إنها تشبهني، ولم يقل أنا أشبه ثميمونت.
ما أكثر الحزانى في هذا العالم !
الحزين للحزين نسيب،لكن لا أحد يشبه أحداً. وفكرة أني أشبه شخصية روائية بدت لي مثل فنجان مكسور،ومع ذلك تقرأ العرافة جزء منه إصراراً.
(أصفر،أحمر،أزرق) عنوان ذكرني بـ “الأحمر والأسود” Le Rouge et leNoir لستاندال..لو خيروني، بين هذه الألوان، لاخترت الأزرق، وثميمونت التي أعرف- لا بطلة صاحبي- جربت الألوان كافة، تزوجت ثلاث مرات،ولها مع كل زيجة رواية..لو خيروها بين الألوان لاختارت الأصفر( لا تسألوني كيف عرفت، هذا حدس تعلمته من غرابي)..وأي تشابه بيني وبين ثميمونت، سواء الأصلية، أو الشبيهة، هو من باب التهمة.