من “الدبيش عرايس”… إلى “خالد سعيد”.. ما الذي يحدث في مصر الآن؟؟

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إبراهيم عادل

يعد يوسف القعيد من أبرز كتَّاب جيل "الستينات" وأكثرهم اهتمامًا بالحديث عن "الريف المصري" و"شكـاوى الفلاح الفصيح" كما سمى أحد أهم رواياته، كما يعرف عنه انتماؤه لليسار المصري ومواجهاته وانتقاداته لممارسات الحكومات المصرية منذ عصر السادات تحديدًا وحتى العصر الراهن، ربما لم يبرز من كتابات "يوسف القعيد" كتابات كثيرة باستثناء (الحرب في بر مصر) إلا أن روايته " يحدث في مصر الآن" تعد من أهم الروايات أيضًا التي انتقدت أوضاع الفقراء في القرى المصرية، وذلك من خلال مقتل ثم اختفاء بطلها "الدبيش عرايس"

ربما لم يسمع أحد عن “الدبيش عرايس” أصلاً!

 وربما لم يكن على “أيامه” وسائل تكنولوجيا حديثة وصحفًا ومواقع انترنت “توثق” ما حدث له، إلا أن الأدب يقوم بهذا الدور في أحيانٍ كثيرة..

وعلى الرغم من المآخذ التي قد تؤخذ على عدد من الكتاب والأدباء في انغماسهم رصد الواقع وتجلياته وأبعاده، وأنهم ـ ربما ــ لم يكونوا متوقعين لحدوث ثورة شعبية عارمة كثورة يناير 2011، إلا أن ذلك الرصد الأدبي الدقيق يبدو أن قد ساعدنا كثيرًا في فهم طبيعة التحول الذي أدى إلى ذلك التغيير العظيم.

 هل توقفت مصر فعلاً منذ الثمانينات، وأصبح كل ما فيها مشهدًا واحدًا معادًا ومكرورًا؟ أم توقف الأدباء والكتاب عن تخيل وتوقع مصر أخرى مختلفة، وانغمسوا في رصد الواقع بمآسيه وآلامه فلم يتمكنوا من إضافة الجديد، واستمروا في تقديم صورة نمطية لواقع مشوهٍ مزعج وغريب!

هل توغل نظام القمع من بعد ثورة يوليو (المجيدة!) على مدار السنوات ليصل إلى تطوير وزيادة أساليبه في قمع الحريات وزيادة طريقة سلطاته وتحويله للمجتمع إلى سجن كبير لا يحدث فيه إلا استعادة أحداث قديمة وتطويرها في سبيل خدمة نظام الفرد والمؤسسة الحاكمة فقط؟!

 

 الحقيقة إن المقدمة التي يكتبها يوسف القعيد لروايته “يحدث في مصر الآن” الصادرة أول مرة عام 1977، والتي تتناول أحداث جرت بمصر عام 1974 (أي قبل تولي مبارك الحكم أصلاً بـ أكثر من عقد من الزمان) تحاول أن تجيب عن هذه الفكرة إذ يقول ( لا أعتقد أن هناك لجيلي أكثر من أن يصبح فيجد أن هذه الرواية ماضيًا لا وجود له، إنها الأمنية الضخمة، ومن ضخامتها لا يستطيع الإنسان حتى أن يحلم بها، خاصة بعد أن فقدنا القدرة ،حتى على الحلم، منذ سنوات مضت)!!

يكتب “القعيد” تلك الكلمات في الحقبة المباركية ـ إن صحت التسمية ـ عام 1986 في الطبعة الرابعة للرواية..

تلك الرواية التي تعد رواية سياسية بامتياز في زمن القمع والقهر والذل، يصدرها “القعيد” بعبارة أبو ذر الغفاري الداعية إلى الثورة من أجل “لقمة العيش” (عجبت لمن لا يجد قوت يومه.. كيف لا يخرج على الناس شاهرًا سيف) تتناول حكاية “الدبيش عرايس” ذلك الفلاح البسيط في قرية “الضهرية” الذي تذهب زوجته لأخذ معونة “أمريكية” (جاءت مع وفد استقبال الرئيس الأمريكي نيكسون حينها) ولكنها تحايلت للحصول على هذه المعونة التي تصرف للحوامل فقط، وما إن علم الطبيب والشرطي أنها غير مستحقة للمعونة حتى هاجموا منزلها وسحبوا المعونة، واقتادوا زوجها “الدبيش عرايس” بعد الاعتداء عليه إلى نقطة بوليس وهناك تعرض لتعذيب رهيب حتى لفظ أنفاسه الأخيرة هناك! وفي لحظة مرور موكب الرئيسين “نيكسون” و”السادات” يؤخذ جثمان الدبيش إلى مكان مجهول يدفن فيه حتى لا يكون هناك أي دليل على الإدارة أنها عذبته وأنها قتلته أثناء التعذيب.

إنه “تعذيب أفضى إلى القتل” تلك الجريمة التي ظلت المؤسسة الشرطية تمارسها بعد ذلك على مدار أعوامٍ طويلة!

لم يكن لدى  الضابط من مخرج لهذه الأزمة إلا أن  يحضر أوراقا تثبت أنه لم يوجد أساسا إنسان مصري اسمه الدبيش ولا يوجد أوراق تؤكد هذا، لا توجد له شهادة ميلاد ، لا يوجد له عقد زواج من زوجته، لا يوجد شهادات ميلاد لأبنائه منها، لا توجد معه بطاقة شخصية، وكثير من الناس يعيشون بهذه الطريقة، لكن الستار لا يسدل بعد هذه الوقائع الدامية!! 

وهكذا فالرواية تطالب القارئ أن يفكر وأن يتألم وأن يثور لمواجهة هذه الأوضاع الخاطئة.

هل قرأ القارئ وفكَّر وتألم وتحرَّك وثار؟!

 الواقع (واستعادة طباعة الرواية على مدار أعوام طويلة دون أن تتغير “مصر الآن”) يقول أن كل ذلك لم يحدث!

بل على العكس، تم تصدير نموذج “الدبيش عرايس” إلى عشرات المواطنين الأبرياء الذين لا يجدون من يكتب عنهم أو من يرصد حكايتهم في “مصر الأخرى”..

ما حدث كان تراكم المزيد من “وثائق” الإدانة التي تؤكد توغل الفساد في تلك المؤسسات الحكومية السلطوية وتوغل “أمن الدولة” و وزارة الداخلية” بأجهزتها المختلفة للتحكم في مصائر الناس ومقدرات الشعوب، الأمر الذي فرعن رجال الشرطة وجعل تصرفاتهم كلها قمعية وانسحب الأمر إلى معاونيهم من عساكر ومخبرين!

 فنيًا طرحت الرواية الأمر بصدق و”تسجيلية” بارعة، ذلك أن “القعيد” منذ اللحظات الأولى والسطور الأولى للرواية يعترف بأنه وبطريقة ذكية تورط القارئ في النص والأحداث مباشرة أنه ـ كمؤلف ـ سيسلم القارئ أهم أسلحته في رواية تبدو أحداثها “بوليسية”، لأن قصد الروائي في هذه الرواية ليس هو “المتعة” و”الإثارة” و”التشويق”!! وإنما الرصد الواقعي التسجيلي الدقيق، بطريقة تجعلك جزءًا من تفاصيل الحدث رغم معرفتك المسبقة بأطراف “الجريمة” كاملة، فأنت تعرف القاتل والقتيل وأسباب القتل! .. ولكن الرواية تتحدث عن حياة الإنسان الفلاح الفقير، الذي احتال ليحصل على “لقمة عيشه” فلم يكن من السلطة القمعية إلا أن تقتله، ولا تكتفي بقتله بل تنفي وجوده من الأساس!!!

فنيًا ينتهج “القعيد” في هذه الرواية نهجًا جديدًا كليةً، إذ هو يخاطب القارئ ويعرف أنه يخاطبه، ويوجه له كلماته موقنًا بأنها ستصل إليه، ويقسِّم الرواية تقسيمًا جديدًا تبعًا للتقارير التي تصله عن “القضية” وهو هنا لا يرتدي قناع صحفي يحقق في الواقعة، بل هو “الروائي” يوسف القعيد، و”الدبيش عرايس” فلاح من قريته “قرية الضهرية”، يأتي أقرباؤه ليحكون له الواقعة، ويذهب ليسجل “تقارير” و”شهادات حية” عمّا جرى من جيران “الدبيش عرايس” وزوجته وأولاده، بل إن الأمر يتطور ـ وهو عندهم ـ من مجرد سرد للأحداث التي أدت لتلك الجريمة إلى محاولات يائسة تفشل جميعها في “رد الحق لأصحابه”، فيتحول “الدبيش عرايس” إلى مشروع استثماري!!

 وهو في سبيل ذلك يبدو “متمردًا” على وظيفة “السارد” أصلاً للأحداث، فنراه تارة راويًا عليمًا وتارة واقعًا مشاركًا في الأحداث وتارة ثالثة راوٍ غائب يجهل تلك التفاصيل التي تمت بعد مقتل بطل العمل الغائب دومًا (الدبيش) ذلك أن ساردًا محددًا واضح المعالم، أو ساردًا عالمًا بالأمر من مبدئه إلى منتهاه ويقرر الأمر تقريرًا سطحيًا ليس ما قصده “القعيد” في روايةٍ كهذه ..

 بل كان مقصده طوال الوقت استفزاز القارئ بشكل فني وأدبي، واستنفار مشاعره لكي يتوحد بكل كيانه مع ما حدث ويحدث في تفاصيل الرواية وأحداثها، لكي يكون القارئ شريكًا في الأحداث وشريكًا في الوعي وقادرًا ـ بعد ذلك ـ على إيجاد الحل وصنع التغيير!

كما أن ذلك أتاح له ـ وبسهوله ـ أن يتدخل في نوايا الشخصيات وبعض التفاصيل الهامة في الأحداث، وذلك من خلال تلك الهوامش التي تضيف بعدًا جديدًا كل مرة في بنية الرواية من جهة، وفي معرفة “ما وراء” التقارير المكتوبة أو المواقف المتبعة

 

واستمر ذلك السياق من التمرد والاختلاف بشكل واضح وصريح حتى في أسماء فصول الرواية، إذ هو يعنون فصول الرواية بـ(لقاء بين المؤلف وزوجة الدبيش)، و( إقطاعي طبعة 1975 يتساءل: لماذا ينظر الفقير لما يملكه الغني) و(عندما يغرق الجميع) .. وغيرها من العناوين التي تحمل رؤية واضحة ومحددة تحمل السخرية والتهكم كما تحمل الإشارة إلى موقف الكاتب مما يحدث!

ويقسم “القعيد” روايته إلى أقسام ثلاثة، توضح إلى حدٍ ما تلك الفئات المجتمعية المتباينة وموقفها من مقتل “الدبيش”، ففي “الكتاب الأول” نجد ( الضابط، ورئيس مجلس القرية، وطبيب المستشفى) وآخرون..  يظهر فيهم بجلاء تحكم تلك “الطبقة” في مصـائر الناس في هذه القرية البسيطة، وتساويهم ـ مع اختلاف طبقاتهم الاجتماعية ـ في قهر وإذلال من هم أدنى منهم متى التقت مصالحهم وتجمعت لهدف واحد مهما بدا ما يفعلونه شائنًا وغير إنساني، بل وتوضح تكاتفهم من أجل “صياغة” تقارير يحمي بها كل طرف نفسه وجهات أخرى تتحكم في رقاب العباد!

وفي “الكتاب الثاني” الدبيش عرايس من واقع محاضر الشرطة وما رواه الشهود والرواة عن “الدبيش عرايس” وزوجته، ويلقي الضوء على ملامح من حياته التي يسكنها الكثير من الضعف وقلة الحيلة، تلك الملامح التي يعرض “القعيد” لأجزاء كثيرة منها بطريقة ساخرة متهكمة على ما يتم من طريقة تعامل “الغني” مع “الفقير” وموقف “الضابط” من ذلك الأمر، إذ يبدو الأمر كله وأنه “خروج عن التقاليد والأعراف” فـ (العين بتعلى على الحاجب، والفقير ماعادشي راضي بفقره، و”الأيادي الخشنة المقشفة” ارتفعت وضربت الجلود الناعمة اللي بتزين وشوش ولاد الناس) (الرواية صـ 52) وهكذا لينتهي الأمر من إدانة الظالم إلى إهانة المظلوم ونفيه بعد ذلك بل وإنهاء وجوده من الأساس!

وفي الكتاب الثالث يتناول شخصيات القرية المغلوبين على أمرهم وكيف عاشوا حياتهم بعد تلك الحادثة المزلزلة التي تناقلتها وعرفتها القرية كلها وسلمت بأمرها! على الرغم من أنه واحدٌ منهم، وعلى الرغم من تشابه مصائرهم وما يفترض أن يكون من اتحادٍ لمصالحهم في مواجهة تلك الطبقة الحاكمة بأمرها! ولكن “القعيد” يرسمهم بوضح وجلاء شديدين، هذه طبقة لم تخرج ولم تنتفض ولم تثر على ذلك الظلم البين! بل ويبدو أنها ما كان لها أن تفعل على الرغم من كل ما يدور حولهم، لأنهم بالفعل مغلوبون على أمرهم يريدون للأيام أن تمضي بهم “مستورين” أو “على الكفاف” ناسين أو متناسين أن خلف كل قيصر يموت قيصر جديد!

ويختم “القعيد” الرواية بـ”ملحقين” فيهما (جدول زمني بحوادث الرواية) و(خريطة بالأماكن التي حدثت فيها الرواية) لتتحول الرواية من مجرد عمل فني يرصد الواقع إلى تقرير كامل عن الجريمة يطالب بالتحقيق فيها فعليًا وعدم السكوت عنها ..

 كان ذلك منذ ثلاثة عقود من الزمان!

 يهتف “القعيد” في آخر الرواية في فصل بعنوان (بعض التساؤلات البريئة والساذجة من المؤلف):

(( إن الدبيش عرايس قتل، مطلوب منك هو التأكد أن هناك أكثر من “الدبيش” يموتون في كل لحظة، أرجوكم أن لا تروا في قتل “الدبيش” أمرًا عاديًا … ما حدث غير عادي، وتحويل إلى أمر عادي ويومي ومتكرر خيانة يجب الوقوف في وجها، أريد أن أعذب ضمائركم، وأن أفقدكم القدرة على التمتع بسحر البرجوازية بهذه المسألة المزعجة (قتل الدبيش عرايس)!))

فماذا تم بعد ذلك؟؟

 أكاد أقول إن “السيناريو” الذي تم لنفي وجود الفلاح “الدبيش عرايس” من الحياة أصلاً، بل إلغاء وجوده الذي كان حيًا وقائمًا هو نفس السيناريو الذي كادت أن تفعله الشرطة المصرية مع “خالد سعيد” ذلك الشاب المصري من محافظة الإسكندرية الذي حاول أن يفضح جهاز الشرطة المصري، فقاموا بتعذيبه حتى مات! وتحولت قضيته إلى قضية رأي عام للمطالبة بالتحقيق مع من قتلوه وأدت إلى فضح جهاز الشرطة وممارساته .

ذلك ـ فيما أرى ـ أن خالد سعيد ــ كان محظوظًا فمن جهة هو ليس من سكان “القاهرة”/العاصمة التي هي بؤرة اهتمام وسائل الإعلام وما يجري فيها يتحول مباشرة إلى مادة إعلامية للعالم كله، ولهذا ـ ربما ـــ لم يهتم جهاز الشرطة بالقضية من الأساس، واعتقدوا أنها ستمر كما مرت ممارسات عديدة غيرها، ومن جهة أخرى هو من سكان تلك المدينة (الإسكندرية) العاصمة الثانية التي تحاول أن تظهر على الساحة وتطالب بحقوق أبنائها قدر المستطاع .. وقد كان

ولهذا يعد هو مفجِّر ثورة يناير 2011، ولولا أن “خالد سعيد” قد تحوَّل بين ليلة وضحاها وعبر وسائل التكنولوجيا الحديثة و”التويتر” و”الفيس بوك” إلى قضية رأي عام كبرى، استطاعت أن تقضي على سيطرة هذا الجهاز القمعي المتوغل منذ عقود طويلة!

 ما حدث في “مصر” ليس ـ فحسب ـ تطور التكنولوجيا وتنوع وسائل الاتصال فحسب، وإنما هو تراكم تلك الأحداث القمعية من جهاز الشرطة، وانتقالها إلى “المدينـة” (والتي أصبحت تسجل بالفيديو وتذاع وتبث عبر الإنترنت لتنتقل إلى قنوات العالم كله) وتعامل السلطة بنفس الطريقة التي كانت تتعامل بها منذ ثلاثين عامًا أو يزيد..

ما حدث في “مصر” ـ في الواقع ـ أن ما كان مسكوتًا عليه في “القرية” لم يعد بالإمكان السكوت عليه في “المدينة” بعد أن أصبح الظلم عامًا لا يقتصر على مكان!

لقد كتب هذا النظام سطور نهايته بيديه عامًا بعد عام، كان نظامًا لا يقرأ ولا يكتب، لا يسمع إلى نفسه ومن يسبحون بحمده حتى جاءت تلك اللحظة الفاصلة، التي نحمد الله أن عشناها وشاركنا فيها

وبينما أنا أكتب هذه السطور لا أتمنى ـ أيضًا ـ  إلا أن يظل ما حدث للدبيش عرايس ولـ”خالد سعيد” و”سيد بلال” وغيرهم كثير صفحة من ماضٍ بئيس نتمنى أن تطوى إلى الأبد، وأن يسترد المواطن المصري مع وعيه كرامته وإنسانيته ..

أثناء بحثي اكتشفت أيضًا أنه:

تم تحويل رواية (يحدث في مصر الآن) إلى فيلم كوميدي !!! في التسعينات باسم (زيارة السيد الرئيس) وكانت بطولته لـ(محمود عبد العزيز) الذي لعب دور رئيس مجلس القرية وزوجته (هياتم) وتم تهميش دور الفقير الذي اعترض على ألا تصرف المعونة لزوجته (حسن الأسمر) !!! ولا غرابة!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 نشر في مجلة الرواية 2011

 

مقالات من نفس القسم