مصطفى عطية جمعة
أسير في حارة “سوق الصوف” المتفرعة من شارع البحر، كالحية متلوية متوغلة إلى حي الصوفي ببيوتها المتلاصقة، مجبور كل قاصد للحي أن يخطو على ثرى هذه الحارة، ويمرّ بسوقها.
– لماذا أسموها بسوق الصوف؟
حملت سؤالي إلى جدي، الذي حك شعره الأبيض، وهو يرتكن بظهره إلى حائط المسجد، وضحك وهو يتساءل:
– وما الذي يحيرك في الاسم يا بني؟
– لا أحد يبيع الصوف في الحارة.
عاد لضحكته الكاشفة عن نواجذ متآكلة بفعل الزمن، راح يحكي عن سنوات خلت، حفرها في ذاكرته زمن يصفه دوما بالجميل، ولا نعرف عنه إلا أطلالا تبدو حيّة في كلماته، كانت الحارة مقصدا للبدو القاطنين في أطراف الفيوم، تأتي نساؤهم المتشحات بالملس الأسود محمولات على نوق وجمال، لبيع الصوف المقصوص من الخراف، يبعنه خيوطا مغزولة أو لفّاتٍ كبيرة تأخذها صانعات الصوف في البندر.
أبحر مع تجاعيد جدي لزمن دافئ، يلتف الناس فيه في الحارة حول القادمين، يفترشون حصيرا، ويتحلقون في حلقات يحكون ويغنون، وينشدون أشعارا لشعراء البدو، عن شهامة أبطال، وتضحيات رجال، وعن غربة قبائل وتشتتها وتمسكها بسكنى الأطراف لتكون في معية الرمال، خشية أن تذوب في بيوت الآجر، وما حولها من خضرة تملأ البصر.
* * *
صغيرا كنتُ في الثامنة من عمري، وأنا أرنو لمنازل الحارة العتيقة بأبوابها الخشبية الكبيرة ذات المطارق الحديدية، متشابهة الصوت. نوافذ ومشربيات، يكتفي من بداخل الدار أن يرفع طرفها الأسفل ليرنو إلى الحارة، يطالع المارّة، وما في الدكاكين من غلال وبقالة، وما يعرضه الخضرية والفاكهانية.
عليّ أن أشتري ما طلبته أمي، ولا أتسمّر طويلا أمام دكان الخيّاط العربي، الذي لا أراه إلا محنيا على صديري يإبرة طويلة، تخزّ القماش، لتخطّ زخارف عليه. لا يعرف ماكينة خياطة، فقط يجلس على شلتة قطنية معه مقص وأمامه طبلية مستطيلة، ويشدّ القماش إلى قدمه، وصبي بجواره، يلضم الإبرة له، ويفرد الخيط. لاشك أنه أحدب الظهر، بفعل سني انحنائه، وإن كان وجهه أبيض، وصدغاه محمرتين.
يضحك جدي، ويقول ردا على عجبي:
– تقصد عم ” إمام ” الخياط، أصابعه ذهب , وإذا مشى في الحارة كان أطول المارة، وأصلبهم عودا، الزمن يُحني الأبله والعبيط.
* * *
لم أصدق عيني التي اشرأبت تحاول أن تجمع هيئة الجملين الكبيرين اللذين دخلا الحارة بتؤدة، ثم جثما أمام دكان عم ” إمام “. أرجل الجملين مشبعتان بالوحل، وتناثر كثير من الطين على جسديهما، فيما استقرت على ظهريهما صناديق ولفّائف مربوطة بحبال الليف.
تطلع إمام إليهما، وإلى البدوي ذي الكوفية الذي كان يعتلي أحدهما، ويجر الثاني بحبل خلفه، وتبادلا ابتسامات دالة على عميق معرفة بينهما. ترجّل البدوي متجها لعم إمام، الذي وقف معانقا وقد بدا طوله واستقامة ظهره.
أمسك البدوي بكوب الشاي الذي أعده الصبيّ، واتخذ جلسته جانب ” إمام “، اندهشتُ من رشفاته المتتابعة من الشاي الساخن، الذي تصاعد بخاره، اقتربت منهما وانزويت في جانب المحل، حاشرا جسدي بين ضلفتي الدكان المنثنيتين جانبا، لأسمع حكايات عن بلاد بعيدة، يقص البدوي و” إمام ” يسأل ويسمع، وقد انفرجت أساريره. تتابعت أكواب الشاي والحلبة والكراوية. أنظر للجملين اللذين أنيخا جانب الدكان، ليتني أعتلي سنام أحدهما، لأرى الدنيا من عليائها، ويهتز جسدي وقد يتراقص في مشيها الوئيد.
* * *
لم أجد أحدا لأحكي له سوى جدي، الذي أجلسني جانبه على الدكة الخشبية في دهليز بيته، تحمست في كلامي فرحت أروي ما سمعت، إلا أن جدي عاد يضحك بفاهه الكبير عميق الظلام، ويبحر في ذاكرته لزمن بعيد كانت قوافل الجمال تملأ الحارة، تأتي بخيرات البادية من وبر وأصواف ومنتجات ألبان ولحم مقدد، ثم تعود حاملة خيرات البندر من أقمشة وغلال ومصنوعات.
– وأين القطارات والسيارات؟
ينتبه جدي لسؤالي، فيضطر لقطع استرساله:
– صحيح يا بني، كان في البلد سكك القطار، سكة مزدوجة تشق البلد، تحمل قضبانها قطارين، واحد إلى مركز أبشواي، والثاني إلى مركز سنورس.
– ثم ماذا يا جدي؟
– السكة اليتيمة، شريط قطار، وحيد، يخترق غرب البلد، متجها إلى مركز إطسا، وكان تروللي، يعمل بأسلاك الكهرباء.
تتخاتل الفيوم القديمة أمامي،القطارات زاعقة، تمرق في جنباتها، والراكب يرنو إلى بيوت بسيطة، قوامها الطوب والأخشاب والحكايات الدافئة.
لم ينتظر جدي أن أسأله عن القوافل، سرعان ما حكى لي عن قرى معلقة في الجبال، وعزبٍ متنائية، وقبائل متنقلة، لا تجد وسيلة للتواصل مع البندر إلا بالجمال، تأتيها بالمؤن، وبالأخبار. تناخ الجمال في مداخل القرى والأسواق، ويلتف الناس حول أصحابها , وما أجمل الحكايات الجديدة ! وأجْمِلْ بها أن تعرف بقايا حكايات رويت ولم تكتمل، أو أن هناك من التفاصيل لم يذكر.
* * *
في عودتي من المدرسة، حكيت كثيرا لصديقي الذي يحمل نفس اسمي، ويسكن في ” سوق الصوف “، حدثته بحديث جدي، الذي رسخ بأعماقي، ضحكنا معا ” جمل أبو علّة.. طقطق قلة “، قال أنه يسكن في بيت جده في الحارة، ولم يحك له أحد عما سمعه، أحسست بالفخر، قادتنا خطواتنا إلى حي الصوفي، ابتعدنا كثيرا عن بيوتنا، استنوقفنا كثيرون، سألناهم عن السبيل إلى الحارة، يشيرون فنسير، وسرعان ما نجد أنفسنا في حارات أخرى، تأخذنا إلى أعماق الحي، أو تلفظنا إلى شارع البحر، بعيدا عن وجهتنا.
أخيرا رأيناها، الجمال في سيرها الهوينى، تحمل على ظهورها من خيرات الغيطان، كيزان الذرة، وأعواد القصب. تجمدنا في مكانينا، أنا وصديقي، عيوننا عليها، تطلع إلينا صاحب الجمال من عليائه، اندفعت أسأله عن الطريق لسوق الصوف، نظر لملابسنا المدرسية: مرايل قطنية كاكية اللون، وحقائب جلدية، ابتسم، وقال بلهجة بدوية:
– يا ولدي، سوق الصوف بعيد من هنا.
اصفرّت وجوهنا فقد تناءينا كثيرا، ابتسم وهو يقول:
– أنا رايح هناك، تعالا معي.
جمل يناخ، يساعدنا الرجل الطيب ذو العباءة الواسعة والغترة البيضاء على اعتلاء السنام، أنا في المقدمة وصديقي خلفي، والحقائب في أحضاننا، ضحكنا عاليا، ثم صرخنا بفزع،والجمل ” أبو علّة ” يعلو بنا، نشاهد أسطح البيوت، يأتينا صوت الرجل يعتلي جملا آخر، يحكي لنا عن قدومه من مضارب البدو، ومروره على فلاحين، اشتروا منه صوفا ووبرا، وباعوه غلالا وثمرات.
أسأله بصوت خفيض عن بيته، أين يسكن، ينظر لي بعينين عسليتين ضيقتين، يجيبني بحنان وهو يشير للجمل:
– عيالي مع أهلي في القبيلة، وهذا هو بيتي.
نتمايل مع اهتزازات الجمل، نكتم دفئا في أعماقنا، وصلنا الحارة، أنيخ الجمل جانب دكان عم إمام، الذي أسرع بمعانقة البدوي، وأعد أكواب الكراوية بنفسه، ثم ناوله عباءات وصديريات محكمة التطريز، غرقا في حكايات الطريق والقرى والناس.