فتنة مبارك.. حيّا وميتا

سعد القرش
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سعد القرش

لو مات حسني مبارك بالكورونا لشفيت قلوب جرحى ظلمه، أولئك الذين تمنوا له ميتة كهذه، ولكنهم أرحم بأرامله ممن توافدوا على الوفاء له فشاركوا في العزاء الفاخر. كورونا لا يفرق، ولا شماتة بمصابين سيكونون رسل المرض إلى أبرياء لا ذنب لهم أن أباءهم لصوص. كان حكمه فتنة، والثورة عليه فتنة، وموته أيضا.
نجا محمد حسنين هيكل من فتنة مبارك، والفتنة نائمة منذ ثورة 25 يناير 2011 حتى 25 فبراير 2020، التاريخ الرسمي لوفاة الرئيس المخلوع. الفتنة شملت أفرادا ومؤسسات منها التلفزيون الرسمي الذي بثّ، يوم الوفاة الرسمية لمبارك، تقريرا موضوعيا عن إنجازاته وأخطائه التي أدت إلى الثورة. ولا يثور شعب على حاكم ويخلعه، إلا لفساده أو خيانته أو قلة كفاءته.
وسرعان ما ذهبت سكرة الصدق، وتبعتها فكرة خبيثة عن استمرار نظام مبارك في غياب رئيسه المخلوع، فتم تكريس الرجل رمزا عسكريا من رموز حرب أكتوبر 1973، مع أن الثورة عليه لم تطعن في دوره العسكري، وإنما في إدارته السياسية.
بدأت فتنة مبارك بمجرد خلعه في 11 فبراير 2011، فأطلق رجاله السهام على جثته، ولم يجدوا في حكمه فضيلة، واستأسد سكرتيره مصطفى الفقي في برنامج تلفزيوني، واتهم مبارك بالجهل، وقال إنه لم يقرأ كتابا، «ولم يكن بارا بأهله. عقوق الوالدين يورث سوء الخاتمة.. كان لديه إحساس بالنقص، وعندما كان يرى شخصية لامعة أو متميزة كان يحاول أن يعلق عليها الأبواب».
ثم ذهبت سكرة الثورة، ورجعت الفكرة يوم الوفاة الرسمية لمبارك في 25 فبراير 2020، فتحدث الفقي مدير مكتبة الإسكندرية إلى برامج فضائية عن وطنية مبارك، «وحرصه على مصالح البلاد، بقدر ما أعطى من رؤية وضوء، وله ما له وعليه ما عليه». ولم ينبهه مذيع ممن أنصتوا إلى الفقي إلى أن مبارك لصّ بحكم محكمة نهائي لا يجوز نقضه ولا الطعن عليه، وأن على مبارك عشرات المليارات للشعب.
وفي يوم الوفاة الفعلية لمبارك أصدر الفقي بيانا وزعته مكتبة الإسكندرية عن دلالة مشهد جنازة مبارك «على تجذر التحضر المصري.. سابقة تسجل للرئيس عبدالفتاح السيسي وللمصريين أيضا الذين مهما اختلفوا مع حاكم إلا أنهم لا يتخذون موقفا يتسم بالعدوانية». وليس باسمنا هذه الجنازة الرسمية نكاية بتضحيات شهداء وجرحى لم يختلفوا معه، بل ثاروا عليه وخلعوه.
موت محمد حسنين هيكل أنجاه من فتنة تكريم مبارك الذي مدحه قديما بحساب، حين كان يضبط المسافة ويحسب التوقعات. في صيف 2000 سئل هيكل عن احتمال تكرار سيناريو التوريث، بعد نجاح التجربة السورية، فقال إن الرئيس مبارك لا يمكن أن يسمح بهذا. راهن هيكل، بكلمات لا تؤخذ عليه، على وطنية الرئيس. ثم نشر كتابه «مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان» وهو شهادة كتمها طويلا، إدانة صريحة لمبارك، تشمل مثلا تكاليف وجود مبارك في منتجع شرم الشيخ، وكانت تبلغ «مليون جنيه بالزيادة يوميا عن المصروفات العادية للرئاسة!!».
صمْت جابر عصفور الآن أنجاه أيضا من الفتنة. كان عصفور في مأمن حين لاحق مبارك المخلوع بالحراب والطعان، ففي 21 فبراير 2011 كتب في صحيفة الأهرام مقالا عنوانه «ما فعله الحزب الوطني بمصر» عت «كوارث» الحزب الوطني الذي كان مبارك رئيسه، وأنه فعل بمصر ما لم يفعله بها حزب آخر في تاريخ الأحزاب المصرية، من «إفساد الحياة السياسية باحتكار السلطة، وما لازم ذلك واقترن به من تزوير إرادة الأمة والتلاعب الفاضح بانتخابات مجلسي الشعب والشورى وآخر كوارث هذا التلاعب التزوير المشين الذي حدث في كارثة الانتخابات الأخيرة لمجلسي الشعب والشورى… وتشجيع التحالف الشائن بين السلطة ورأس المال، وتبنيه والدفاع عنه للأسف وهو الأمر الذي تسبب في نهب المال العام… ومع ذلك كانت حكومة الحزب الوطني وأمانة سياساته تتباهى بمعدلات تنمية لم ينل منها المحرومون شيئا».
الآن أقرأ العجب في كتاب «بوح المبدعين»، من هذا العجب كلام عصفور عن قبوله تولي وزارة الثقافة بعد جمعة الغضب، 28 يناير 2011، وسأله المؤلف أسامة الرحيمي:
هل كنت مع الثورة؟
وجاء الرد:
أي ثورة؟
يناير!!
نعم كنت معها.
بشكل كامل؟
نعم بشكل كامل.
أجاب عصفور بهذا اليقين، وبهذا اليقين لا أنسى صوته في التلفزيون الحكومي، في عزّ الثورة: «لسنا ضد الرئيس مبارك… لا يوجد مصري عاقل ضد الرئيس مبارك».
الصمت الآن منجاة، بالنطق الفصيح، والعامّي أيضا. وقانا الله سوء الخاتمة، وضعف الذاكرة.

مقالات من نفس القسم