حسين عبد الرحيم
وكانت هي المرة الثانية التي ضمته إلى صدرها منذ أن جاءت به للدنيا، الأولى كان قد غرب للجنوب خمسة عشر يوما كان يجلس فيهم تحت الاشجار وحده. ويطير في البراري ليشتم رائحة الحقول وقمائن الطوب وقت الغروب وطلقات الرصاص التي تنفد من بين عيدان القصب في الظلمة يعقبها أنة واحدة وهسهسة قرب الزراعات في خارفة، أما اليوم فقد جاء لزيارة خاطفة وكله أمل ويقينا ما يتأرجح مابين السواد والبياض أن يشفيها الله وتقوم من رقدتها.
لم يركز كثيرا وقت وصوله في أن يمد يده بالسلام واكتفي بنظراتها تلك المصوبة نحو عينيه التي جاءت كردة فعل على تحديقه الفاحص لملامحها وهي تتطلع له كأنها تتأكد من صلابته، جسده، برقة عينيه الدائمة التي تبرز تحدي كافة الصعاب، تدعو له فتدور رأسه ويجتر عقوده التي توارت وهو لايعرف، هل حقا يحبها أم يشفق عليها أم أن كل الأمر وجلله أنها سبب تواجده في الحياة، تدور بعينيها والبؤبؤ الضيق فايكاد يصرخ من وجع الرؤية لتلك الهالات المخضبة بحمرة وسواد وزراق قريبا للقتامة، وتلك الغضون وإنكماش الجلد وانحسار الوجه.
دارت عيناه فوق سريرها يتأمل الجسد الذي وهن وأكتافها المتهدلة وتلك الصرخات الموحية الخارجة من حدقاتها صريحة وفاضحة تكشف إعتلالها الكامل، هو لم يتعود البكاء ليس من أهله ولا يروق له ضعف الرجال أيا كانت الاسباب.
هو يؤمن إيمانا كاملا بدوران الزمن مثلما تدور هي حوله الآن بكل كيانها، أنفاسها، حواسها، جسدها المرتخي المنكمش الضئيل. ال’ن هو الذي يدور حولها رغم الجلوس قبالتها يدور حولها وكلا من الطرفين في حالة خرس شبه غريزي في إنتظار التحدث والبوح.
لعلها المرة الأولى أو الأخيرة. هو يخشى الفراق وحسرة التوديع وهي تحمل ركام ثمانية عقود ويزيد من الهم والكدر والسفر والعراك والقوة والصلابة لم تتنازل عن كبريائها يوما ما، يدور في أفلاكع ويتعمد بشكل إرادي، لا إرادي، أن يتلفت يمنة ويسرة لعلها ترتكن بنظرات عينيها الموحية في فضاءات أخري، يدعو لها ليل نهار ويخاف المقدر والمقدور ولا يرضخ لثمة شفقة، تأخذه جدية السيرة مثلما هي نفس الجدية في الموت والوداع ورحلته منذ مولده، يسأل نفسه وهو يجلس أمامها على سرير ليس بشاغر، تترقبهم العيون وهما يدوران بنظرات زائغة تخشى فضح المكنون عند كلا من الطرفين يقول لنفسه: إنها لم تعش ولم تحيا كما يجب. أين هي من كلمات أو محطات أو فرجات أو وقفات مثل الفرح والسعادة او التنزة أو حتى العيش السوي او الامل المجرد.هي التي عاشت ميتة.؟!!
كل ما يخشاه تراه في عينيه الجريئة الحزينة العصية على الدمع او حتى البكاء، يخرج ويدخل يروح ويجيء ويخشي حتى ملامسة كفها المعروق وهي في شبه حالة مناجاة، مرة واحدة عندما هب واقفا قبالتها فسألته: إلي أين ستذهب، فقال : أخشى عليك من الامتناع عن الطعام والسير حتى لخطوات قليلة تقربك للحمام وحدك، كنتي وكنت أنا، ثمانية عقود ونصف لك وخمسة لي ولم يبق إلا الخرس والحيرة والتواطؤ وندم كلا منا على ماقدم للآخر.
تجرأت واقتربت ألمسها بحجة سلام مؤقت مستعدا للنزول بلا قبلة واضحة، مددت يدي فقبضت على كفي وسحبتني بعنفوان لتقبلني، كانت قبلاتها سبعة زادت من تحجر الدمع الذي أحسه وقد تحول لأحجار صغيرة من ملح، حرت في ضمتها وودت لو سحبت جسدي، لا أستسيغ البكاء ولم أتعود عليه منذ أن ضربني أبي في رأسي ببوز حذائه وتكرر الامر طوال السنين: “قم روح الدكان”.
هذا هو المسار اليومي قبل الذهاب للمدرسة والتلويح للقطار، تدور رأسي وكأنها ارتكنت في صدري وأنا بلا نفس ولا بكاء ولا حسا ولا همس ولا دمع ولكنها جسارة مشوبة بخوف أن تطوى الصفحات بلا عتاب ولا حديث يحمل أدنى المكاشفة والغفران، سحبت نصف كفي فبرقت بعينها اليمني وقالت بصوت ونبرة كأنها لأم أخرى غير التي ربتني وودعتني منذ ثلاثة عقود وحدي: سأنتظرك فلا تتأخر.
ولم أعقب ولكن ماشغلني وملك حواسي وبدد شحنات الفرج في تيارات الهواء الشتوي التي اقتحمتني في نوبة صحيان هو كيف كانت تحتفظ بكل هذه التراكمات من الحنان والغفران والرحمة والتي دام حجبهم عمرها كله خلف كبرياء عظيم يتجلى في في طلل عيونها الزرقاء وفمها الشركسي وتلك الأصابع القصيرة التي طالما صدت أبواب الاستغفاروالرحمة في كياني.
………………
*من سيرة الكاتب