عِفَّةُ المَوْتِ

نصف مرآة هويدا أبو سمك
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هويدا أبو سمك

تكبر ويمر بك العمرُ، وتُخبرك مرآتك أنك تشيخ يومًا بعد يومٍ، ورغم ذلك تظل عالقًا في تلك اللحظة.. عقلك يُسجل تفاصيل هذا اليوم المرير الذي عشته رغم إرادتك وتحوَّل إلى كابوسٍ يتكرر مع كل ليلةٍ تنتظر فيها حلمًا.

الموروثات لا تتبدل، تظل مُلتصقة بنا، راسخةً في عقولنا الفقيرة، تطبقها أيادينا الجاهلة، وتحملُ بصماتُ أصابعنا وِزْرَ المعاصي، بينما قائمةُ الضحايا تزدادُ، والناجون قلائل.

قلةُ الحيلةِ بمعناها المكسور تتجسد في طفلةٍ صغيرةٍ لم تُكمل عقدها الأول، بينما تُقرر عائلتها أن تُخضعها لبترٍ وحشي ملفوفٍ برداء العفة والشرف.. فتاة لا حول لها ولا قوة تُسلب منها طفولتها بادِّعاءٍ كاذبٍ وجهلٍ أسري لا مُبرر له.

الأم لم تجدْ لها سبيلًا سوى الكذب، بينما تدورُ حولها الجارة الحشرية لتقنعها بأن ما تفعله هو الصواب وأن الأمر بسيطً لن يستغرقَ نصف ساعة، وأن هذه العادة المُتبعة هي السبيل الوحيدة لنجاة ابنتها من الفتنة، بل والقفز على الرجال.

طفلة بريئة في عُمر العاشرة ظنَّت أنها ذاهبةٌ للمرح، بينما تجرُّها والدتُها وجارتهما إلى جحيم يومٍ لن تنساه أبدًا.. وتظن الأم أنها تفعل ذلك لصالح ابنتها، وتأخذ بيدها لتصعدَ بها سلمات بيتٍ منسوبٍ لطبيبةٍ باعت ضميرها أو ربما ظنَّت أنها تحملُ راية حماية عفة البنات.

ماذا تفعلُ طفلة السنوات العشر في أيادٍ تكبلها؟! وما الذي تستطيعُ الصرخات الضعيفة أن تفعله في أناسٍ عقدوا العزم على البتر دون رحمةٍ مُمزقين آمالًا وأحلامًا هشَّة؟!! عرفت الفتاة أنها لا تستطيعُ الإفلات.. وعلمت أن أمها كذبت وأن قلبها مات.. جريمةٌ مُكتملةُ الأركان تنتظرُ قاضيًا عادلًا ليحكم فيها دون تأجيلٍ.

الألمُ كان في كلِّ مكانٍ، لم يحدثه المشرط فقط، ولم تفزعها الدماء التي تسيل منها بقدر ما آلمتها كذبةُ والدتها، وتلك العيون التي اقتحمت عليها براءتها لتُمزق روحها؛ زوجان من العيون للجارة البذيئة التي ركزت في كل إنش من جسدها، وهي تُردد جملتها: «خلاص خلصنا، اجمدي!».

محاولاتُ الفتاة للخلاص فشلت ولم تجدْ سبيلًا سوى الاستسلامِ بينما أنهكت قواها، ولم تترك لها أيادي الغزاة فرصةً للفرار، واجتزت صاحبة المشرط ما أرادته، ولمعت عيناها بنقودِ والدتها السخية.

بقايا الحدث ذهبت من ذاكرتها وانتهت بأن حملت أمها جسدها الضعيف بين يديها، بينما ذهبتْ بها إلى المنزل. وظلت الطفلة تتألم لأيامٍ، وهي غاضبةُ من شقيقاتها ووالدها الذي تركها لأمها الجاهلة، وهو الذي كان يُردد الجُمل التي يسمعها من خطيب المسجد ويصم أذنيها بخطبه العصماء عن الشريعة والسنة.

الله يحمي الأطفال الصغار من الأذى.. لماذا لم يحمها الله؟! لماذا لم يُنزل عليها ملائكة الرحمة لتأخذها بعيدًا عن تلك الأيادي التي قيَّدتها؟! غضبتْ من الله وكفرتْ بالمُعجزات السماوية.

الغضبُ استمر ومرَّت السنوات بالطفلة لتصبحَ شابة، ولم يمر هذا اليوم من ذاكرتها قط، لم يتركها، يتجدد غضبها باستمرارٍ كلما وقعت عيناها على جارتها، بينما تدعو عليها بصوتٍ خافتٍ، حتى إنها دعت أيضًا على والدتها التي كرهتها لما فعلته بها.

وفي يومٍ كانت تستمعُ فيه والدتها إلى حملات التوعية على شاشات التلفزيون التي تُجرِّم الختان فخاطبتها وهي تتألم وأكدت لها أنها لم تكن تعرفُ أن الأمرَ خطير، وطلبت أن تُسامحها على جهلها، وظلت الفتاةُ صامتةً، وهي تتذكر كلام صديقتها المُتزوجة التي يشكو زوجُها من برودتها في السرير، وردَّت على والدتها بإيماءةٍ صغيرةٍ.

والسنواتُ تجري ويظل هذا اليوم نقطةً سوداء في ذاكرتها لم تنسه أبدًا، غفرت لوالدتها جهلها، ولكنها أبدًا لن تغفرَ لمجتمعها الذي يتفنن في إيجاد وسيلةٍ لظلم المرأةِ منذ ولادتها وحتى وفاتها.

………………….

*قصة من مجموعة نصف مرآة الصادرة عن دار تويا للنشر والتوزيع

 

مقالات من نفس القسم